بقلم توفيق بو عشرين
ثمة الكثير مما يبهج في فوز ابن سائق الحافلة الهندي بعمادة لندن، إحدى أهم عواصم أوروبا حيث تتعايش الأديان والأعراق والثقافات تحت مظلة مدينة لا تنام فيها التعددية والثقافة والتجارة والمال والأعمال والاتصال والتواصل. فوز صديق خان المسلم بالمركز الأول في لندن معناه أن اللندنيين بخير، وأن عقولهم لم تلوثها الدعاية السوداء المنتشرة في الإعلام ضد الإسلام والمسلمين.. دعاية مصابة بداء الإسلاموفوبيا التي تضع كل المسلمين في قفة التطرف الضيقة.
إنه أول مسلم يقود عاصمة أوروبية كبيرة مثل لندن التي يزيد تعداد سكانها على 8,6 ملايين مواطن.. عاصمة لها تأثير كبير في السياسة البريطانية، ولها إشعاع قوي في أوروبا والعالم. صديق خان مسلم منفتح درس القانون في الجامعة، وتربى في أحياء العمال. والده الذي هاجر من الهند عمل سائقا للحافلة، وأمه كانت خياطة تكافح لكي ترى أبناءها يعيشون أفضل من آبائهم، في مدينة فتحت ذراعيها للمهاجرين حتى صار لهم صوت مسموع بين البريطانيين. امتهن العمدة الجديد المحاماة، وتخصص في الدفاع عن حقوق الإنسان، وانتهى مناضلا في حزب العمال البريطاني.. الحزب العريق في الدفاع عن القيم الإنسانية لليسار (العدالة الاجتماعية، التعددية الثقافية، والحفاظ على البيئة، والتصدي للعنصرية وللنزعة اليمينية المنغلقة). دخل إلى البرلمان البريطاني وأصبح وزيرا مرتين، ولما رشحه حزبه لعمادة لندن وجد نفسه أمام مرشح يهودي أبيض غني ومدعوم من قبل رئيس الوزراء البريطاني ومؤسسة الحزب المحافظ الذين استعملوا كل الأسلحة لقتل حظوظ خان في الفوز بعمادة مدينة الضباب، بما في ذلك اللعب على النزعة العرقية والدينية المفضية إلى العنصرية المقيتة التي تختبئ هذه الأيام خلف محاربة الإرهاب، لكن السحر انقلب على الساحر، فارتد السلاح على أصحابه، واختارت أغلبية كبيرة من اللندنيين خان عمدة لمدينتهم لأنهم دققوا في برنامجه الانتخابي وليس في دينه أو عرقه أو عائلته. إنه سلوك انتخابي عقلاني ومتقدم جدا في القارة العجوز التي تتنفس اليوم هواء يمينيا متعصبا يزرع خوفا مصطنعا في نفس المواطن الأوروبي من المهاجرين ومن المسلمين ومن الإرهاب ومن الأزمة الاقتصادية… لجر الأغلبية، في النهاية، نحو اليمين المتطرف الذي يريد السلطة رغم افتقاره إلى أي برنامج سياسي أو اقتصادي، فيعوض هذا النقص برفع نسبة الخوف والانغلاق والتعصب في دماء المواطنين.
فوز هندي مسلم بعمادة لندن انتصار للمقاربة البريطانية في التعاطي مع المهاجرين، حيث تبنى التجربة الأنجلوسكسونية على الاعتراف بالتعددية الثقافية للمهاجرين وبحقهم في الاحتفاظ بهوياتهم وثقافاتهم وخصوصياتهم، ولا تشترط عليهم دفتر تحملات «هوياتيا» ليصيروا بريطانيين.. إنها سياسة تراهن على تفاعل مكونات المجتمع تحت خيمة البلد، وتعول على الزمن الضروري لعملية الإدماج، وتوفر مناخ المساواة في الحقوق والواجبات، كل هذا لدفع المهاجرين إلى الانتماء إلى التيار العام الوسطي، حيث يتأقلم المهاجر تلقائيا في أجواء البلد الذي يعيش فيه دون تدخل مباشر من قبل الدولة، ودون إكراه أو فرض نموذج صلب من الاندماج القسري على المهاجر، حيث يدفعه ذلك إلى التطرف أو الانعزال في الضواحي، أو اللجوء إلى إعلاء خصوصياته للدفاع عن ذاته وهويته المهددة. على عكس هذه المقاربة الناعمة للاندماج الطوعي، هناك المقاربة الفرنسية التي تطلب من المهاجر أن يضع متاعه الثقافي والديني والاجتماعي عند الباب، وأن يدخل إلى قالب فرنسي معد سلفا، مبني على إتقان كامل للغة الفرنسية، والتزام صارم بالعلمانية الصلبة، وقيم الجمهورية كما ترسخت وسط الفرنسيين الذين يعتبرون من أقل الشعوب خوضا لتجربة الهجرة والانفتاح على العالم (يعيش خارج فرنسا 1,5 مليون فرنسي فقط، وهي أضعف نسبة للهجرة في العالم، ما يكشف إلى أي حد لا توجد ثقافة للهجرة وسط الفرنسيين، ومن ثم تأثير ذلك على سياساتهم إزاء المهاجرين الذين يختارون بلدهم للاستقرار والعيش فيه). لقد وجهت انتقادات قوية إلى التجربة البريطانية في إدماج المهاجرين باعتبارها سياسة تسمح بإقامة غيتوهات للمهاجرين الذين يحملون ثقافاتهم إلى بريطانيا دون مجهود للتأقلم مع خصوصيات البلد، وهو ما يضعف ولاءهم لبريطانيا، ويجعل منهم «عملاء» لبلدانهم وثقافتهم ودينهم. صعود خان إلى عمادة لندن، وتصويت أكثر من مليون ونصف مليون بريطاني لبرنامجه هو تصويت أيضا لفائدة نموذج في الإدماج والاندماج، بما له وما عليه، فلا توجد سياسة ناجحة 100 في 100، فكل حل لمشكلة يولد مشكلة أخرى تحتاج إلى حل آخر.
قصة صعود ابن سائق «الباص» إلى قيادة مدينة عالمية لا تضرب فقط سياسة اليمين الأوروبي المتعصب، الذي يريد استغلال موجة الإرهاب الداعشي والقاعدي لزرع الخوف في النفوس، بل إن قصة صديق خان تكشف فشل المشروع السلفي الجهادي الذي يريد أن يعزل الكتلة المسلمة الكبيرة في الغرب عن مجتمعها بتوظيف الحلقات الضعيفة من أبناء الجيل الثاني والثالث في عمليات يائسة، وإرهاب وحشي لا يصب سوى الزيت على النار، ويزيد من إضعاف المسلمين في الغرب، وتقوية النزعات اليمينية المتطرفة.
في الوقت الذي ينتخب البريطانيون هنديا مسلما ابن عائلة مهاجرة عمدة لمدينتهم، ويقبلون به كما هو، يتقاتل المسلمون في العراق وسوريا واليمن شيعة ضد سنة، ويتفرق الليبيون قبائل وعشائر لا ترضى بغير حكم الجاهلية، ويسيل الدم في العالم العربي على نحر هويات قاتلة لا تعرف كيف تعيش فتصدر الموت.