في رثاء رجل دولة استثنائي

في رثاء رجل دولة استثنائي

المغرب اليوم -

في رثاء رجل دولة استثنائي

بقلم : توفيق بو عشرين

كان العز بن عبد السلام، أحد شيوخ الصوفية الكبار، يقول لمخالفيه في الرأي «بيننا وبينكم الجنائز»، تعبيرا منه عن الاحتكام إلى النهايات وليس البدايات، ففي الجنائز لا ينافق ولا يجامل ولا يخاف الناس الراحل، وكذلك كانت جنازة مولاي امحمد بوستة جنازة الكبار من أهل الله والوطن.. جنازة الزعماء الذين يبكيهم البعيد قبل القريب، ويحزن من أجل فراقهم الأهل والأحبة والأصدقاء والمواطنون، الذين أنفق الراحل أكثر من 76 سنة من عمره (92 سنة) في النضال ضد الاستعمار، وفي النضال من أجل بناء الاستقلال في الحكومة والبرلمان والحزب والإعلام والنقابة… لم يكل ولم يمل منذ خرج في تظاهرة الجياع في مراكش وعمره 15 سنة، إلى أن توفي يوم الجمعة الماضي وهو يشاور قادة الاستقلال بشأن سبل الخروج من الأزمة التي تعصف بالحزب الكبير.

هذا هو امحمد بوستة، الذي رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي بعد مسار حافل لا تتسع له عشرات الكتب، فما بالك بكلمات قليلة في هذا الركن الصغير.

مات حكيم الحزب المراكشي، صاحب النكتة والكياسة والعراقة الآتية من دروب المدينة الحمراء إلى ساحة النضال، مرورا بمقاعد جامعة السربون لدراسة القانون ثم الفلسفة ثم المحاماة، ثم الدبلوماسية التي خبر حجر أساسها في ديوان أبي وزارة الخارجية، الحاج محمد بلافريج، ثم كاتبا للدولة، ثم وزيرا للخارجية، ثم وزير دولة، ثم «مشروع وزير أول»، وهو منصب عرضه عليه الراحل الملك الحسن الثاني في بداية التسعينات، لكنه رفض أن يقبله بدون قيد أو شرط، وقال للملك: «لا أستطيع أن أحكم مع إدريس البصري»، فقال له الحسن الثاني: «ولماذا؟»، فرد المراكشي بنباهته المعروفة: «حتى لا نقضي الوقت في الصراع، ونفرط في خدمة البلد»، فرد الحسن الثاني بالقول: «أليس الأفضل أن تتصارعوا مع البصري على أن تتصارعوا معي أنا شخصيا؟»، فرد ابن الحمراء: «حشا نعماس»، لكنه لم يتراجع عن شرطه، ولم يتزحزح من مكانه، وهو يعرف مكانة البصري لدى الحسن الثاني، فسحب الأخير دعوته إلى التناوب، وما ندم الزعيم الاستقلالي، ولا بقي في نفسه شيء من منصب لم يكن ليزيد بوستة مجدا على أمجاده.

عندما كان في الحكومة، كان يتحلى الصبر والبحث عن منافذ الإصلاح، وعندما كان يخرج إلى المعارضة، كان يتسلح بالصلابة والشجاعة والحزم، ولا يخاف على شيء وراءه، ولا يطمع في شيء أمامه… هذا هو ابن علال الفاسي الذي لم يقف خلف الملكية خوفا أو طمعا، بل قناعة وإصرارا على البناء والإصلاح والتقدم في بلاد تقاوم منذ قرون ثقافة التغيير.

لما نادى الملك محمد السادس فقيدنا لقيادة لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية، التي قسمت المجتمع في بداية العهد الجديد، لبى الراحل النداء، وقاد مشاورات صعبة للوصول إلى توافق أصعب حول تنظيم الأسرة، ووضع المرأة في مغرب متحول، ونجح حيث أخفق آخرون، لأنه ابن هذه الأرض، رجله تلامس الجذور، ورأسه ينظر إلى العصر وثقافته وتحولاته.

هذا هو امحمد بوستة، رجل دولة كبير، قضى جل حياته خارج الحكم، سياسي محافظ يعرف كيف يقول لا. وطني كبير بثقافة واسعة وانفتاح قل نظيره، تعلم من بلافريج أسلوب الإقناع وكياسة الدبلوماسي، وتعلم من الزعيم علال الفاسي الدفاع عن حوزة الوطن والاعتزاز بالانتماء العربي والإسلامي، وتعلم من عبد الرحيم بوعبيد أصول المرافعة في الوفاء للديمقراطية.

ساعات بعد إعلان وفاته، أخرج الفيسبوكيون من الأرشيف شريطا للراحل امحمد بوستة يهاجم فيه وزير الداخلية إدريس البصري على استدعائه صحافي ‘‘لوبنيون’’، خالد الجامعي، وتقريعه في مكتبه على عبارة كتبها، تعتبر وزارة الداخلية حزبا سريا أفسد إشرافه الدائم على الانتخابات اللعبة الديمقراطية كلها، واختار الزعيم بوستة من على منصة البرلمان ليس فقط الدفاع عن الصحافي وتبني ما كتبه في مقاله، بل والهجوم على وزير الداخلية الذي كانت أغلبية النخبة السياسية تخافه أو تتملقه… من اليوم من زعماء المعارضة يستطيع أن يقول لوزير الداخلية: «ماقدو فيل زادوه فيلا»؟ في إشارة إلى تقلد البصري وزارتي الداخلية والإعلام وأشياء أخرى.

لو قدر للراحل أن يرى جنازته، وأن يسمع تأبين مولاي امحمد الخليفة: «كيف أرثيك»، وأن يتطلع إلى الوجوه التي حجت من كل فج عميق لوداعه، بينهم الأمير والغفير، الحرفيون وكبار موظفي الدولة، الفقراء والأغنياء، الكبار والصغار، الرجال والنساء، الاستقلاليون وغير الاستقلاليين، اليساريون والإسلاميون والسلفيون واليمينيون… كلهم تحلقوا حول قبر آخر جيل من الزعماء الوطنيين الذين تَرَكُوا بصماتهم فوق هذه الأرض، وتركوا سيرتهم بذور لقاح علها تزهر في زمن أفضل من هذا، وفي مغرب أجمل من الذي ودعه الزعيم بوستة، وهو يحمل في قلبه غصة على ما آلت إليه السياسة، وما انتهى إليه حزب «مغربنا وطننا روحي فداه».

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في رثاء رجل دولة استثنائي في رثاء رجل دولة استثنائي



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:14 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

اتحاد كرة القدم يكشف رغبة ريال مدريد في ضم محمد صلاح

GMT 04:38 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين سهرة للمحجبات من أحدث صيحات موضة الشتاء

GMT 01:05 2012 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حناج عيين با بنيه - نقوش بحرينية يتناول انواع نقوش الحناء

GMT 13:28 2015 الأربعاء ,18 شباط / فبراير

أفضل ستة فنادق في مراكش للاستمتاع بالرفاهية

GMT 03:24 2017 الجمعة ,27 تشرين الأول / أكتوبر

قواعد الإتيكيت الخاصة بالتعامل مع زملاء العمل

GMT 00:53 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد سعد يعود للغناء مرة أخرى بعد ثبوت صحة موقفه
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya