إنه مغربي يا سيادة القاضي

إنه مغربي يا سيادة القاضي

المغرب اليوم -

إنه مغربي يا سيادة القاضي

بقلم - توفيق بو عشرين

طرح القاضي الجنائي، علي الطرشي، سؤالا غريبا، أو قل مستغربا، على المتهم في ملف حراك الريف، محمد الحمدالي، وقال له: «هل أنت مغربي؟»، فغضب كل من كان في قفص الاتهام، وملأت الاحتجاجات قاعة المحكمة، وطالب الدفاع بسحب السؤال والاعتذار إلى المتهم شرطا لاستئناف أطوار المحاكمة.

الحمدالي، وبعدما شرح للمحكمة دلالات العلم الأمازيغي، الذي كان يرفرف في تظاهرات الريف، وأن هذا العلم جزء من التراث المغربي، أصر القاضي على طرح السؤال المستفز: «واش انت مغربي؟»، فرد المتهم: «أنا مغربي وأفتخر»..

هذه ليست أول مرة يطرح فيها السؤال حول وطنية شباب الريف، الذين خرجوا يطالبون بحقوقهم الاجتماعية في الشارع، فقد سبق لحكومة العثماني أن اتهمتهم بالخيانة والعمالة للخارج، قبل أن ترتبك وتراجع تصريحاتها في بلاغ مكتوب مناقض لتصريحات زعماء الأغلبية في بيت العثماني بسلا… وطبعا تبعت الحكومة وسائل إعلامها في تخوين الشباب، والشك في وطنيتهم، باعتبار أن هذا هو السلاح المدمر الذي يمكن أن يستعمل مع أي معارض، لما له من دلالات عاطفية تحجب إعمال العقل، وتضلل البسطاء من الناس الذين لا يفرقون بين الوطن والنظام، وبين النظام والحكومة، وبين الحكومة والقانون والقضاء والحقوق الأساسية للبشر، بما فيها الاختلاف حتى حول مفهوم الوطن.

لنخرج من قاعة محكمة الاستئناف في البيضاء، ولندخل إلى نقاش هادئ وبيداغوجي حول الوطنية، والبحث عمن هو الوطني ومن ليس بوطني.

الوطنية، ببساطة ودون الدخول في دلالات المفهوم الفلسفية والسوسيولوجية، هي إحساس فرد بالانتماء إلى أرض، عليها تاريخ وثقافة وتراث مشترك، والوطنية تعني وجود ولاء للفرد تجاه الوطن، واستعداد للتضحية من أجل استقلال ورفاهية وتقدم هذا الوطن، ووظيفة المشاعر الوطنية أنها تبني الانتماء القومي للجماعة، وتحفزها على التضحية من أجل الدفاع عن الوطن، وعلى العمل من أجل ازدهاره وتقدمه. الوطنية، إذن، مفهوم سياسي وأخلاقي عام يربط المواطنين بالأرض التي يعيشون فوقها، ويحول التراب إلى وطن، والجغرافيا إلى قيم، والحدود إلى انتماء.

مفهوم الوطنية، على قداسته وأهميته في بناء الأوطان وتوثيق عرى الولاء للعلم، تحيط به جملة من المفاهيم المتطرفة والخطيرة التي تهدد الوطنية ذاتها وحاملها بمثل هذه المفاهيم «الشوفينية، والفاشية، والعنصرية». لنشرح بإيجاز هذه المفاهيم وسياقها ومخاطرها على الوطنية.

في القرن الثامن عشر، كان هناك جندي متعصب يلازم نابليون بونابرت اسمه Nicolas chauvin، عرف بتطرفه في الدفاع عن فرنسا وعن قرارات حكومتها، وعن تصرفات نابليون دون منطق ولا قناعة ولا تفكير، ورغم الخسارات المتتالية، والحروب الكثيرة التي كان نابليون يخوضها، كان الجندي chauvinمتعصبا في الدفاع عنها، ويتبع قائده أينما ذهب، ويهاجم خصومه بحدة وعنف كبيرين. هنا خرج مفهوم chauvinism من اسم هذا الجندي المتعصب، وأصبح مفهوما يستعمل لوصف فرد أو جماعة أو فكر يتعصب لوطنه أو لدولته أو لقائده دون استعمال للعقل، ودون ربط الوطنية بالمصلحة وبالأخلاق والقيم.

مصطلح الفاشية، بالإنجليزيةfascism، مشتق من الكلمة الإيطالية fascio، وهي تعني حزمة من المفاتيح الكبيرة كان يحملها شخص أمام إمبراطور روما القديمة دليلًا على اتساع سلطاته. وكانت هذه السلسلة المسماة «فاشيو» تضم مفتاحا يرمز إلى سلطة الجيش، وآخر يرمز إلى سلطة القضاء، وآخر يرمز إلى سلطة حاكم، وآخر يرمز إلى السلطة على الأرض وخيراتها، ومفتاح يرمز إلى سلطة الإعدام… الفاشيو كان تعبيرا عن جمع كل هذه السلط في يد واحدة لحاكم واحد، رمز للوطن وللجماعة ولكل شيء على أرض روما.

وفي القرن التاسع عشر بدأت كلمة فاشيا «fascia» تستخدم في إيطاليا، وجاء موسوليني، في عشرينات القرن العشرين، فجعل منها نهجا في الحكم يعيد صياغة الوطنية في إيطاليا، وفي الوقت نفسه، يعادي الديمقراطية، حيث جمع بين يديه كل السلط وصار فاشيا، وقال قولته الشهيرة: «نسمع للشعب عندما يتعلق الأمر بوضع نافورة في قرية، لكن لا صوت للشعب عندما يكون القائد يصنع التاريخ»، وهكذا اختزل موسوليني الوطن والوطنية في شخص القائد.

العنصرية تعني التسليم بوهم أن هناك عرقا أفضل من آخر، وسلالة أحسن من أخرى، ولهذا وجب على الأفضل أن يحكم الأرذل، ومن تمظهرات هذه العنصرية النازية، التي ولدت بعد الحرب العالمية الأولى على يد أدولف هتلر ومن معه، حيث بحثوا عن طريقة لإعادة إحياء الأمة الألمانية التي خرجت مدمرة من الحرب العالمية الأولى، فوجدوا في نظرية تفوق العرق الآري على سواه، وضرورة الحفاظ على طهارته ولو بإبادة عرق آخر.. وجدوا في هذه النظرية العنصرية طاقة رهيبة للنفخ في الوطنية الألمانية، وإعادة تسليح الجيش وتحطيم الحدود والسيطرة على العالم، ودائما بمبررات وطنية، وبقية القصة وفاتورة خسائرها معروفة.

أمام هذه «الألغام الثلاثة» بدأت العقول المفكرة في الغرب في تفكيك مفهوم الوطنية، وتسييجها حتى لا تصبح مدمرة لأهلها وللآخرين، فجرى ربط الوطنية أو القومية بالأخلاق والقيم الكبرى (العدل، الحرية والكرامة والمساواة)، وهذا مثلا ما جعل مثقفين كبارا في الغرب ينتقدون استعمار بلدانهم دولا ضعيفة في إفريقيا وآسيا، ولم يمنعهم الوطن ولا الوطنية من انتقاد دولهم في محاولة لفك الارتباط بين سلوك الأنظمة والحكومات ومفهوم الوطن المسيج بقيم أخلاقية لا تبدلها المصالح، وهذا، مثلا، ما دفع الصحافي الأمريكي سيمور هيرش إلى فضح جرائم سجن أبوغريب التي تورط فيها الجيش الأمريكي في العراق، ولم يمنعه حبه لأمريكا وولاؤه لها من كتابة تحقيق أصبح وثيقة لإدانة الجيش الأمريكي في العراق، ولم يخرج أحد ليتهم هيرش بأنه غير وطني وخائن، مع أن تحقيقه تسبب في ارتفاع القتلى في صفوف الجيش الأمريكي في العراق بعد انكشاف فضيحة أبوغريب. لماذا؟ لأن الوطنية مربوطة بقيمة العدل، ولأن أفعال الجيش لا تحسب على الوطن، بل على سياسة حكومة ستزول ويبقى الوطن.

لذلك، وجب على سعادة القاضي، ومعه سعادة الوكيل العام، وقبله على سعادة رئيس الحكومة، وبعدهم جوقة الصحافة «الشوفينية»، أن يحذروا وهم يقتربون من مفهوم الوطنية، وأن يبتعدوا عن تجريد المواطنين من وطنيتهم، فهذا سلاح خطير، وقد يرتد إلى مستعمله، والله أعلم من قبل ومن بعد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنه مغربي يا سيادة القاضي إنه مغربي يا سيادة القاضي



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين

GMT 20:47 2018 السبت ,08 كانون الأول / ديسمبر

"الوطني للسكك الحديدية "يعلن عن تخفيضات في تذاكر القطار

GMT 10:42 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حركة إعفاءات وتغييرات جديدة في صفوف الدرك الملكي

GMT 02:26 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ورق جدران بألوان جذابة لديكورات غرف معيشة مبهجة

GMT 22:03 2018 الإثنين ,06 آب / أغسطس

صعقة كهربائية تودي بحياة شاب في سلوان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya