بقلم - توفيق بو عشرين
تتصرف الدولة عندنا مع خدامها مثل أم حنون ومتساهلة تدلل أبناءها طوال الوقت، ولا تستعمل أبدا العصا معهم، وكل ما يطلبونه يحضر في الحال، دون مناقشة، ولا أخذ ولا رد، لكن، يحدث أحيانا أن تغضب منهم، وأن تلجأ إلى عقاب بعضهم، لكنهم يعرفون جميعا أن المحاسبة سحابة صيف وستمر، وأن الغضب استثناء على القاعدة، وأن العقاب رد فعل وليس سياسة منهجية.
هكذا فهمت قرار العقاب الذي نزل، لأول مرة في تاريخ الإدارة، على رؤوس 160 رجل سلطة، فيهم والٍ وعمال وباشاوات وقياد… قبل أقل من سنتين، وفي غمرة انفجار فضيحة «أراضي رجال الدولة في الكيلومتر التاسع بطريق زعير في الرباط»، حصل وزراء وولاة وعمال ومديرون كبار في الإدارة على بقع لبناء فيلات فسيحة بأثمنة رمزية من أراضي الدولة. طلعت علينا وزارة الداخلية ببيان يدافع عن «حق» هؤلاء في اقتطاع أراضي الدولة بالثمن الذي يريدونه، وخارج كل المساطر المعمول بها في بيوعات أملاك الدولة، بمبرر أن هؤلاء «خدام الدولة»، وكان البلاغ عنيفا، إلى درجة أن شظاياه امتدت إلى رئيس الحكومة آنذاك، عبد الإله بنكيران، الذي لم يشفع له صمته لدى وزارة الداخلية، واعتبر البيان الشهير حزب بنكيران مسؤولا عن النفخ في الرماد لإثارة اللهب.
الدولة التي تعاقب اليوم خدامها، هي نفسها الدولة التي تدلل أولادها، وتسمح لهم بخرق القانون والاغتناء غير المشروع، بل إن بطل هذه القصة، عبد الوافي لفتيت، الذي كان واليا للرباط وكان آخر من التحق بنادي الكيلومتر التاسع، إلى جانب حصاد وبوسعيد والآخرين، هو نفسه صار وزيرا للداخلية.
قبل أسابيع عدة اقترح وزير الدولة في حقوق الإنسان، مصطفى الرميد، على رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، تنظيم لقاء مع الولاة والعمال، باعتبار رئيس الحكومة هو رئيس الإدارة، واعتبارا لسابقة عبد الرحمان اليوسفي التاريخية، والذي طلب اللقاء مع عمال وولاة إدريس البصري، واعتبارا إلى حاجة الحكومة إلى حملة للتحسيس وسط الإدارة الترابية بشأن توجهاتها وبرنامجها وسياستها، لكن الدكتور سعد رفض هذا الاقتراح، ولم يحاول حتى تمريره إلى زميله في الداخلية، أو إلى ولاة الأمر في المشور السعيد، مستعملا الحكمة السلبية القائلة: «كم حاجة قضيناها بتركها»، وفضل أن يستمر في سياسة العروض المدرسية في المجلس الحكومي على استعمال السلطة القليلة التي بين يديه، رغم أن الدستور يجعل من رئيس الحكومة رئيسا للإدارة، لكن هذا على الورق، أما في الواقع، فموازين القوى هي التي تحكم، والتقاليد والأعراف الموروثة عن الزمن القديم هي التي مازالت تشتغل دون أي عراقيل أو صعوبات.
حكى لي وزير سابق في الحكومة أن أحد وزراء الداخلية، وبعدما انتشر الكلام حول حقوق الإنسان، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وضرورة احترام القانون، والكف عن استعمال المفهوم القديم للسلطة وسط الإدارة الترابية ووسط الولاة والعمال والقياد، كان هذا الوزير يتصل من مكتبه في الرباط برجال السلطة، ويحاول أن يزيل عنهم الخوف من هذه الشعارات بالقول: «لا تخافوا أحدا، واش كاين شي واحد غادي يديكم للحبس؟ نفذوا التعليمات، ولا تنتبهوا إلى ما يقال في الصحافة وفي البرلمان. هذه مجرد خطب ومقالات، هذه الدار ستستمر كما كانت عليه في السابق. إن المخزن لا يتخلى عن أبنائه».
داخل كل جهاز سلطة هناك عقيدة، مثلما توجد في الجيش عقيدة. الإدارة، خاصة الترابية منها، ومنذ تأسيسها على يد الاستعمار الفرنسي، وهي في خدمة جهاز السلطة وليس في خدمة الشعب، تستمع إلى التعليمات لا إلى القانون، تمشي مع الجهة الغالبة لا مع المشروعية، تعتبر أنها تشتغل عند النظام ولا تشتغل عند الدولة بكل مكوناتها، فلسفتها هي تحقيق إدارة السلطة لا رعاية المصلحة العامة.
طبعا إدارة هذه حالها هي سكين ذو حدين، تنفع السلطة على المدى القريب، وتضرها على المدى البعيد. اليوم أصبح ضرر الإدارة على الدولة أكثر من نفعها، حيث صارت عبئا على الحكم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، إذ يقوى الطلب على المرفق العام، على التشغيل والصحة والنقل والنظافة والاستثمار… هنا وجدت الإدارة نفسها أمام فشل ذريع، لأنها لا تعرف الاشتغال سوى في الحقل السياسي والنقابي والإعلامي والأمني بمقاربة واحدة هي: «الضبط والتحكم والمراقبة والتوجيه»، مخافة خروج المجتمع عن سلطة ولاة الأمور.
لاحظوا الآن كيف يشتكي جل عمداء المدن، في الجهات الاثنتي عشرة للمغرب، وجود مخطط مدروس للعرقلة والتشويش والتعطيل والبلوكاج لجل مشاريع هؤلاء العمداء في مدنهم، فبعدما صعدوا إلى رئاسات المدن على غير رضا ولا توقع الإدارة الترابية سنة 2015، فإنهم اليوم في ما يشبه «الكوليماتور»، والنتيجة أن من يدفع الثمن هم السكان وليس عمداء المدن، من رجال التعليم الذين ليس لديهم ما يخسرونه سوى أصوات المواطنين… باختصار شديد، الدولة اليوم تضرب بعض أبنائها، لكنها لا تترك أحدا يضربهم، أو يحاسبهم، أو يغير عاداتهم وطقوسهم.. إنه غضب la mère poule.