وردة على القبر المهجور

وردة على القبر المهجور

المغرب اليوم -

وردة على القبر المهجور

بقلم - توفيق بو عشرين

حتى وإن لم يذهب إدريس لشكر وحواريوه إلى قبر الزعيم عبد الرحيم بوعبيد للترحم عليه، أول أمس، بمناسبة ذكرى وفاته، لأن ذاكرة السلف أصبحت تثقل كاهل الخلف، ولأن اسم بوعبيد أصبح يثير الشجون وسط حزب لو رجع الراحل إلى الدنيا لما عرفه.. حتى مع هذا التحلل السياسي من تاريخ مجيد، لا بد من الوقوف على ذكرى الرجل، ليس من أجل تحويله إلى أسطورة، وليس من أجل نحت تمثال له يستحقه، بل من أجل إنعاش الذاكرة الراهنة التي أصيبت بداء النسيان.
عن زعيم سياسي ووطني كبير نتحدث، ابن النجار في فاس الذي كبر في مغرب العشرينات من القرن الماضي، ودخل النضال من باب حزب الاستقلال. بدأ معلما، ثم محاميا، ثم سفيرا، فوزيرا للمفاوضات، ثم وزيرا للمالية، ثم برلمانيا في المعارضة، ثم قائدا حزبيا، ثم زعيما وطنيا، وها هو اليوم مدرسة في النضال من أجل الاستقلال والديمقراطية وبناء مجتمع حديث… في كل هذه المحطات، كان بوعبيد رجل الاختيار.. اختار التوقيع على عريضة الاستقلال وهو شاب، واختار النضال ضد الاستعمار، فذهب إلى السجن عدة مرات، واختار أن يكون نفسه، فدرس في المغرب وفرنسا، واختار أن يؤسس حزبا جديدا لأن محافظة حزب علال الفاسي خنقته، ففعل، واختار أن يخرج من التباسات الاتحاد الوطني، وخلطه بين أشكال متناقضة من النضال، فأسس الاتحاد الاشتراكي، ثم اختار أن يقول لا علنيا للحسن الثاني في موضوع الاستفتاء على الصحراء، فذهب إلى السجن، ثم اختار المعارضة عن وعي حتى استحق شهادة الزعيم الاشتراكي الفرنسي، ميشيل روكار، الذي قال: «السلم المدني في المغرب مدين لعبد الرحيم بوعبيد».. كان رجل دولة حتى وهو في المعارضة.
يحكي عبد الواحد الراضي، في مذكراته «المغرب الذي عشته»، عن تجربته الغنية قرب عبد الرحيم بوعبيد، وينقل عنه جملة لها دلالات، وقد تسعف اليوم العقل الحزبي المأزوم في إنعاش تفكيره. يقول بوعبيد: «إننا لا نبالغ في مطالبنا، ولا نطالب المغرب بالتحول إلى النموذج البريطاني أو الاسكندينافي، لكننا نطمح، على الأقل، في إقامة نظام جدي، وأن نتوفر على حكومة قادرة على تحمل مسؤوليتها أمام الرأي العام الوطني والدولي».
بعد اغتيال بنبركة، واعتكاف عبد الله إبراهيم في بيته، وانصراف المحجوب بن الصديق إلى نقابته، وخروج الفقيه البصري واليوسفي وآيت يدر والجبلي إلى المنفى، وانطلاق موجة الاعتقالات والمحاكمات للأطر الاتحادية… وقع فراغ كبير في قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فما كان من بوعبيد إلا أن اختار طريقه، وتحمل أعباء النهوض من جديد، فوضع معالم استراتيجية النضال الديمقراطي، وانطلق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، إلى أن توفي زعيمه صباح الثامن من يناير 1992. هنا بدأت قصة أخرى.
ماذا بقي من بوعبيد اليوم؟ ماذا ترك من إرث يمكن الاستفادة منه لمواصلة رحلة الإصلاح في مغرب مازال يقف في وسط الطريق، مترددا بين اختيار الانفتاح الديمقراطي أو الانغلاق السلطوي؟
المعلم، الحداثي، العقلاني، البيداغوجي، الواقعي، الديمقراطي، الإصلاحي، المفاوض، المثقف، الشجاع، الذي لا يقطع شعرة معاوية مع أحد، الذي لا يتنازل عن المبادئ، يعرف متى يقول لا، ومتى يسكت إلى أن تمر العاصفة، أما قول نعم فالجميع يتقنه، يعرف تاريخ بلاده، وخصائص شعبه، ولا يجهل أحوال العالم من حوله… هذا هو عبد الرحيم باختصار… رجل ذهب إلى السجن في شبابه وفي شيخوخته، ولم يلن ولم يستسلم. عاش في قلب الحكومة قريبا من القصر، وعاش في قلب المعارضة قريبا من القمع، ناضل في وسط الحزب بالكلمة والموقف والاحتجاج، وأنجز أفضل ما في الاقتصاد الوطني إلى الآن، في وسط حكومة لم تعمر إلا سنة ونصف السنة. كان آخر من التحق بالخارجين من بيت الاستقلال، وأول من وضع أسس العمل المشترك في الكتلتين الأولى والثانية. لم يكن راديكاليا مثل بنبركة، ولا مغامرا مثل الفقيه البصري، ولا غامضا مثل اليوسفي، ولا حربائيا مثل المحجوب بن الصديق.. كان يقف في مسافة وسط بين هؤلاء القادة من جيله.
حداثي لكنه يعرف دور الدين في مجتمعه، اشتراكي يعرف قيمة اقتصاد السوق، ديمقراطي يعرف حدود النظام الذي يناضل من داخله، وطني يعرف قيمة الانفتاح على الغرب، والتمييز بين الاستعماري منه والتحرري.
في 1960، طلب منه ولي العهد آنذاك، الحسن الثاني، أن يبقى معه في الحكومة التي سيترأسها بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وأن يحمل حقيبة وزارة الخارجية، فرفض بوعبيد دون تردد هذا العرض، وقال: «أنا لست سياسيا يبحث عن المناصب»، ثم عاود السلطان محمد الخامس، بعدما أخبره ابنه الحسن الثاني بقرار بوعبيد، توجيه الدعوة إليه بالبقاء في الحكومة، ولو بصفة شخصية، فرفض بوعبيد بأدب كبير، ولم يمنعه الاستحياء من محمد الخامس من التشبث بقراره ونهجه واختياره، لذلك، يستحق الرجل زيارة لقبره ولو مرة في السنة، لعل الذكرى تنفع المؤمنين وغير المؤمنين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وردة على القبر المهجور وردة على القبر المهجور



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين

GMT 20:47 2018 السبت ,08 كانون الأول / ديسمبر

"الوطني للسكك الحديدية "يعلن عن تخفيضات في تذاكر القطار

GMT 10:42 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حركة إعفاءات وتغييرات جديدة في صفوف الدرك الملكي

GMT 02:26 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ورق جدران بألوان جذابة لديكورات غرف معيشة مبهجة

GMT 22:03 2018 الإثنين ,06 آب / أغسطس

صعقة كهربائية تودي بحياة شاب في سلوان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya