كتاب مازال حيا

كتاب مازال حيا

المغرب اليوم -

كتاب مازال حيا

بقلم - توفيق بو عشرين

احتفت الأوساط الفكرية والفلسفية بذكرى مرور نصف قرن على صدور كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، للمفكر المغربي عبد الله العروي، الذي قال بالمناسبة إنه كان يتمنى أن يصبح كتابه متجاوزا في العالم العربي بعد مرور نصف قرن على صدوره، لكن الكتاب، للأسف، مازال يحتفظ براهنيته إلى الآن ولم يفرغ من محتواه. وهذا معناه أن ما دعا إليه الكتاب من تحرر ونهوض وتنمية وديمقراطية لم يتحقق، ومازالت مطالب المؤلف على جدول عمل الفكر العربي والمغربي، كما كانت قبل نصف قرن، إن لم نقل إن الهمة والطموح والإصرار تراجعت، مفسحة المجال للتسليم بالواقع وإدارة الأزمات عوض حلها.
عبد الله العروي، في كتابه ذائع الصيت هذا، صنف اتجاهات الفكر والسياسة في العالم العربي إلى ثلاثة اتجاهات، أطلق على أصحابها لقب الشيخ، ورجل السياسة، وداعية التقنية، ووضع كل واحد في خانة، معرفا مشروعه كالتالي:
الشيخ لا ينفك يرى التناقض بين الشرق والغرب في إطاره التقليدي، أي كنزاع بين النصرانية والإسلام. أم المشكلات عنده تتعلق بالعقيدة الدينية، وتحليله للأوضاع الراهنة لا يخرج عن قوله تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا» (سورة الإسراء). الأزمة من هنا تبدأ وهنا تحل، ولا نهضة ولا تقدم إلا بالرجوع إلى الطريق الأول الذي سار عليه السلف الصالح.
رجل السياسة يعتبر أم المشاكل في الشرق، كما في الغرب، هي الاستبداد. يطالع روح القوانين، لاسيما الصفحات البليغة التي يشرح فيها مونتسكيو مساوئ الاستبداد، فيشعر بالحقد يغمره، لأن الدولة في العالم العربي كانت في خدمة الحكام وحدهم، وأملاك الناس كانت دائما مهددة، والتجارة محتكرة، والضرائب باهظة، والقضاء خاضع لأغراض المصالح. هكذا يبرز الزعيم الجديد، وهو رجل قانون وسياسة يمزج دعوة روسو بدروس مونتسكيو، يفهم مثال الديمقراطية على شاكلة النظام البرلماني الإنجليزي… لقد شخص الزعيم السياسي داء المجتمعات العربية القديمة والحديثة، فاستقى من ذلك الدواء للحكم الاستبدادي، فوجب، إذن، انتخاب مجلس نيابي. ولكي يخرج من جلباب الشيخ، قال الزعيم السياسي إن الإسلام لا يفرض أي نظام سياسي على المسلم، ولم تعزه الأدلة العقلية والنقلية للدفاع عن ذلك.
التيار الثالث، حسب العروي، يمثله داعية التقنية «التكنولوجيا»، لا هو محام ولا قاض ولا طبيب ولا أستاذ ولا صحافي، بل ابن عطار أو ابن فلاح أو ابن حرفي. كان مجهولا مهملا، لا يسمع صوته بين كلمات الشيخ وصراخ الزعيم السياسي، يقول: «الغرب ليس دينا ولا فكرا ولا سياسة فقط، الغرب قوة مادية أصلها العمل المرتكز على العلم التطبيقي». هذا ما يقرره داعية التقنية ساخرا من أوهام الشيخ والسياسي، داعيا إلى الصناعة وامتلاك القوة، ضاربا المثل باليابان، فدينها أبعد عن التوحيد، وتاريخها مليء بالعنف، وشعبها أكثر ميلا إلى الخضوع، فلماذا تفوق اليابانيون في وقت وجيز؟ يجيب داعية التقنية أنهم قصدوا مباشرة سر الحضارة الغربية، أي التصنيع، فلنفعل كما فعلوا.. الثقافة غاية شريفة، لكنها تأتي بعد اكتساب مهنة خاصة. الداعية الجديد لا يقرأ التراث ولا يؤوله، يزيحه كليا عن اهتمامه، ويقول: ‘‘لولا سفن كرومويل ما فرضت بريطانيا سطوتها على العالم، ولولا صناعة نابليون ما وصلت فرنسا إلى ما هي عليه. الاستبداد لا يمنع التقدم والتمدن، إن لم يكن شرطا لهما’’.
هذه الخطاطة، التي اقترحها العروي لقراءة اتجاهات الفكر والسياسة في العالم العربي، مازالت صالحة إلى اليوم لقراءة اتجاهات الاختيارات السياسية والفكرية في هذه المنطقة الضائعة من جغرافية العالم، لكن الذي حصل هو أن التيارات الثلاثة كلها وصلت إلى الحكم وفشلت في تحقيق أهدافها، وكلها بقيت محكومة بثابت واحد هو الاستبداد. الشيخ صار أصوليا متشددا، ونزل من «عقلانية» محمد عبده إلى أصولية حسن البنا، إلى جهادية سيد قطب، إلى تكفيرية مصطفى شكري، وصولا إلى قاعدة ابن لادن والظواهري ووحشية البغدادي، وحصيلة هذا التيار معروضة اليوم على طول خط الدم أو التطرف أو السجن، أما رجل السياسة الليبرالي، فبعدما تعب من النضال والدعوة إلى الحرية وفصل السلط والدستور والعمل النيابي، ارتمى في حضن الاستبداد خوفا من الشيخ الأصولي، الذي اتسع نفوذه في أوساط المجتمعات الفقيرة والمحافظة، ولم يبق من ليبرالية رجل السياسة سوى الشعارات التي لم يعد يلتف حولها إلا القليلون، أما داعية التقنية، فقد بقي معلقا بين مجتمع تقليدي لا ينصت إليه، وغرب «منافق» لا يؤمن بنقل العلم والتكنولوجيا خارج بيئتهما الغربية، فخفت صوت داعية التقنية، ولم يعد يظهر سوى في خبرات جزئية لأحفاده التقنوقراط الموضوعين في خدمة الدولة بلا فكر ولا وعي ولا اختيار، في تنكر قاتل للسياسة وقدرتها على تغيير المجتمعات… هكذا انتهت نماذج العروي، الذي تحسر على أن كتابا ألفه قبل نصف قرن لم يصبح متجاوزا إلى اليوم، وهذا معناه أن موضوعه مازال قائما إلى حد الآن. إنها مرآة أخرى لقراءة الإحباط المغربي والعربي عامة من العجز عن الخروج من حفرة التخلف، والالتحاق بالركب الذي يبتعد عنا كل يوم بسنوات ضوئية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كتاب مازال حيا كتاب مازال حيا



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya