بقلم - توفيق بو عشرين
منذ جلوس محمد السادس على عرش المغرب وهو يخصص خطبة كل سنة لذكرى المسيرة الخضراء. الآن نحن أمام الخطاب الـ18. في كل مرة كان العاهل المغربي يجرب حلا من الحلول الممكنة لهذا النزاع، الذي طال أكثر من نصف قرن، وكلف دماء كثيرة، وأموالا باهظة، وجهودا عديدة، وتضحيات ليست رخيصة من أجل استعادة قطع من الجغرافيا المغربية التي ضاع منها الكثير بسبب أخطاء الحركة الوطنية، وقبولها الاستقلال المجزأ في إيكس ليبان، والباقي تكفلت به أخطاء ما بعد الاستقلال، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي جعلت من شباب وطنيين عناصر انفصالية في جيب القذافي، وبعدها في جيب هواري بومديان، وبقية القصة معروفة…
جرب الملك محمد السادس، منذ السنة الأولى له في الحكم، الحل الدبلوماسي مع الجزائر لدفعها إلى تليين موقفها من نزاع الصحراء، باعتبار الجارة الشرقية هي رأس الحربة في هذه الشوكة التي تدمي قدم المغرب، لكن هذا الحل لم ينفع، ثم جرب حل «المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها»، لكن، اتضح أن النزاع أصبح دوليا، وأن الأمم المتحدة لا يمكن أن تخرج من هذا الملف، ثم جرب الجالس على العرش حل الحكم الذاتي الموسع (أي الحل من طرف واحد)، دون تفاوض مع البوليساريو أو مع الجزائر، لكن هذا الحل ظل معلقا في باب الصحراء، لا الجزائر قبلت به، ولا البوليساريو رأت فيه حلا يحفظ ماء وجهها، ولا المغرب نفسه طبقه على أرض الواقع. بقي مشروع الحكم الذاتي ورقة دبلوماسية للتفاوض، أكثر من كونه خريطة طريق لحل النزاع، وها نحن أمام العودة إلى النقطة الأولى: لا حل لقضية الصحراء خارج سيادة المغرب الكاملة على صحرائه، وفي انتظار ذلك هناك عزم على وضع نموذج تنموي جديد للأقاليم الجنوبية، وعدم انتظار حل غير موجود على الطاولة.
إننا ندير النزاع ولا نحله، نربح الوقت ولا نربح قلوب الصحراويين، كما قال الحسن الثاني، لأن قلوب الصحراويين تنبض على إيقاعات جزائرية من جهة، ولا تثق في المستقبل المغربي من جهة أخرى. لقد أصبحت كل الأطراف تخشى حلا نهائيا لهذا النزاع، وترى أن تحمل كلفة «اللاحل» أهون من تحمل كلفة حل لا يعرف الفرقاء ما هي فاتورته المستقبلية، ولا يعرفون إلى أين سيقودهم في ظل معطيات معقدة داخلية وخارجية.
نزاع الصحراء لا يقلق غير المغرب والأسر الصحراوية المشردة التي تعاني في مخيمات تيندوف أو في بلاد الشتات. الباقي لا يرى ضررا في إبقاء هذا النزاع مفتوحا. الجزائر تعتبر أن نزاع الصحراء يثقل الخطى المغربية نحو التقدم الاقتصادي والسياسي، وبالتالي، فإنها تدفع فاتورة دعم البوليساريو من مال الغاز والنفط لأنه يحقق لها ارتياحا ذاتيا وهي ترى عدوها الأول يعاني جراء هذا الجرح المفتوح. أمريكا لا يشغلها نزاع الصحراء، بل بالعكس يخدم مصالحها على المدى الطويل، في إطار سياسة «فرق تسد». الشيء نفسه بالنسبة إلى أوروبا، فمادام لهب النزاع في الصحراء لا يصل إليها، فإن بقاءه مدة أطول سيضعف كل الأطراف، وسيقف اتحاد المغرب العربي، وستنتعش طلبات شراء السلاح التي تعود على الخزائن الأوروبية بضرائب أكثر ومناصب شغل أكبر.
جربنا الحل العسكري مع الحسن الثاني، وجربنا حل وقف إطلاق النار وبداية التفاوض، وجربنا الحل القانوني لتنظيم استفتاء تقرير المصير، وجربنا حلا سياسيا لا غالب فيه ولا مغلوب على قاعدة الحكم الذاتي، وجربنا حلا من طرف واحد، وجربنا وضع النزاع بين قوسين، واستئناف التطبيع مع الجزائر، وترك الوقت يذيب ما علق في النفوس، لكن، في كل مرة، كنا نعود إلى نقطة الصفر، وأمامنا حقيقتان يجب تأملهما جيدا؛ الأولى أن الصحراء لم تعد قضية نظام بل قضية شعب كامل. تستطيع أن تؤلف كتابا عن أخطاء الحسن الثاني في الحكم وفي الإدارة، لكن يجب الاعتراف له بحقيقة أن فكرة المسيرة الخضراء كانت مبدعة، وبأنه غرس قضية الصحراء في قلوب كل المغاربة، وشكل إجماعا وطنيا حول هذه النقطة لم يتزعزع رغم كل الأخطاء الكارثية لوزارة الداخلية قديما وحديثا. الحقيقة الثانية هي أن مفاتيح حل نزاع الصحراء توجد في قصر المرادية في الجزائر، ولا توجد في مخيمات تيندوف، ولا على ضفاف النهر الشرقي في نيويورك (مقر الأمم المتحدة)، ولا في باريس، ولا في بروكسيل… لذلك، يجب التركيز في الرباط على استراتيجيتين بعيدتي المدى؛ الأولى، البحث عن مداخل جديدة لإقناع الجزائر بفتح مفاوضات جدية لإيجاد حل لنزاع الصحراء يطلق دينامية جديدة في المنطقة، ويحيي مشروع المغرب العربي، ويحفظ ماء وجه الجميع. ثانيا، على الدولة في المغرب أن تربح قلوب الصحراويين في الداخل، وأن تهمش أمراء الحرب الذين استفادوا من النزاع، من خلال إرساء نموذج سياسي واقتصادي جديد في كل جهات المغرب، لخلق نموذج يغري ليس فقط الصحراويين في المناطق المتنازع عليها، بل يغري كل حاملي البطاقة الوطنية بأن الوطن يتسع لأحلام وآمال الجميع.. من هنا يبدأ الحل.