ماذا لو شارك في الانتخابات المقبلة 10 ملايين مغربي من 15 مليون و700 ألف المسجلين في اللوائح الانتخابية؟ ماذا لو قال ثلث الشعب كلمته في اقتراع السابع من أكتوبر ونصب حكومة لها تمثيلية واسعة وشرعية قوية؟
أعرف كما تعرفون أن وزارة الداخلية وضعت كل أنواع المتاريس أمام عربة المشاركة الواسعة في هذه الانتخابات، بدءا من تقليص العتبة إلى 3٪، إلى عرقلة التسجيل الإلكتروني في اللوائح الانتخابية، إلى تغليب كفة البوادي على المدن، إلى منع التجمعات الجماهيرية للأحزاب، إلى حظر استطلاعات الرأي، إلى توقيف كل مشاريع الوزارات والجماعات على بعد شهرين من الانتخابات، إلى الإبقاء على اختلالات التقطيع، ونظام الاقتراع، إلى تدخل بعض الجهات لتوجيه بعض المرشحين الكبار هنا وهناك… لكن، كل هذا وغيره يمكن أن يتكسر على صخرة المشاركة الواسعة للمواطنين يوم الجمعة 7 أكتوبر.
لنقاطع عادة مقاطعة صندوق الاقتراع حيث يجلس (حزب الكنبة) في البيت يتفرج على الأقلية التي تصوت، فيما هو يتهكم على الجميع، وفي الغد يجد نفسه ضحية حكومة لا تمثله ووزراء لا يعرفهم وأحزاب تبيع وتشتري في مصالح الذين قاطعوا التصويت، فتضطر الأغلبية الصامتة لقضاء خمس سنوات في الشكوى إلى الله أو (الحريك) إلى الخارج أو التطرف يسارا أو يمينا.
في السياسة لا نختار في الغالب بين الحسن والأحسن، بل نختار للأسف بين السيئ والأسوأ، والسيئ اليوم أن نشارك في هذه الانتخابات رغم عيوبها الكثيرة، والأسوأ أن نقاطع انتخابات ستحدد مصيرنا ومصير أبنائنا في غيابنا.
إذا شارك الشعب بكثافة في الانتخابات يوم 7 أكتوبر، فإنه لن يحل كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في اليوم الموالي للاقتراع، لكنه سيبعث رسالة قوية إلى الدولة تقول: «نحن هنا وكلمتنا يجب أن تكون مسموعة، وإرادتنا يجب أن تحترم، والانتخابات يجب أن تقود إلى إصلاحات عميقة للدولة ولاختياراتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية».
إذا شاركت في اقتراع السابع من أكتوبر، فلن تقضي نهائيا على ظاهرة استعمال المال الحرام لشراء الأصوات، لكنك ستمنع الفاسدين من الحصول على الأغلبية في مجلس النواب، وستجعل مهمتهم صعبة جدا، وأموالهم القذرة سلطة إلى جانب سلطة أخرى أقوى وهي إرادة الشعب. إذا صرف المرشح الفاسد 400 مليون سنتيم ولم يظفر بمقعد في البرلمان، فلن يغامر في الانتخابات المقبلة بمعاودة الترشح لأنه يعرف أن قواعدها تغيرت.
إذا شاركت في الانتخابات، فلن توقف تدخل بعض رجال السلطة لخدمة هذا المرشح أو ذاك، أو للضغط على الحلقات الضعيفة في المجتمع للتصويت لهذا أو ذاك، لكنك ستجعل من انحياز السلطة عاملا غير مؤثر على التوجهات العامة للاقتراع، وستدفع الإدارة لمراجعة حساباتها.
إذا شاركت في الانتخابات الحالية بما لها وما عليها، وحكمت ضميرك وليس جيبك أو قبيلتك أو خوفك من السلطة، وتصرفت كمواطن معني بمستقبله ومستقبل أبنائه، فإنك تدفع الانتخابات لأن تكون انتخابات اسم على مسمى، لعبة جدية وليست مسرحية هزلية. كان الزعيم عبد الرحيم بوعبيد يقول عن المشاركة في الانتخابات في أجواء اليأس والقنوط في السبعينيات والثمانينيات: «إن النظام السلطوي يريد الانتخابات لعبة ونحن نشارك فيها لكي نحولها لعبة جدية، تنتج ثقافة مواطِنة وإلى مناسبة لنقول الحقيقة لشعبنا».
أعرف أن الذين يدعون إلى المقاطعة الدائمة للانتخابات لهم مبرراتهم ولهم حججهم، ومنها أن الانتخابات تجري في ظل دستور ممنوح أو شبه ممنوح، وأن توزيع السلط في نظامنا السياسي توزيع غير متوازن، وأن سلطة الحكومة على القرارات المهمة شبه شكلية، وأن جهات أخرى غير منتخبة هي التي تحكم.
هذه باختصار هي حجج حزب المقاطعة، لكن (حزب الكنبة) أوسع من هؤلاء وهو صامت والفقهاء يقولون لا ينسب لساكت قول، فلا يمكن لحزب النهج الديمقراطي أو لجماعة العدل والإحسان أن يدعيا أنهما يمثلان 11 مليون مغربي من الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء التسجيل في اللوائح الانتخابية.
لأصحاب أطروحة المقاطعة كبرنامج سياسي، أقول نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما المشاركة في هذه الانتخابات وتحسينها من الداخل، دون التطبيع مع عاهاتها وتنصيب حكومة لها تمثيلية محاسبتها على التفريط في صلاحياتها، أو هدم النظام السياسي من أسسه وبناء آخر مكانه، وهذا خيار لا يقول به صراحة أي طرف سياسي معتبر. دعك من العمل له والتخطيط لتنزيله على أرض الواقع. لقد ظهرت في المغرب إبان حَراك 20 فبراير حقيقة سياسية جلية، وهي أن القوى الحية في المجتمع المغربي وخاصة فئة الشباب والطبقات الوسطى في المدن والقرى لا تريد تغيير النظام ولا تحتمل مغامرة البحث عن نظام آخر بديل، وأنها مقتنعة ومؤمنة بأن إصلاح النظام من الداخل وتطهيره من الفساد والتحكم أمر مازال ممكنا، وأن عموم الشعب المغربي له أمل كبير في أن يتحالف تيار الإصلاح في الأحزاب والمجتمع المدني مع المؤسسة الملكية من أجل بناء مغرب آخر دون مزيد من تضييع الوقت.
لماذا أستشهد بلحظة 20 فبراير وليس بغيرها من المناسبات، مثل الاستفتاءات على الدستور أو حفلات البيعة السنوية للتدليل على إرادة الشعب العميقة؟ أستشهد بلحظة الحَراك المغربي كدليل على القناعة العميقة للرأي العام المغربي تجاه نظامه السياسي، اقتناعا مني أنها كانت لحظة اختيار حر أمام شباب نزل إلى الشارع وسط مد احتجاجي غير مسبوق في المغرب ونال تمثيلية في 54 مدينة وإقليم ووسط كل فئات المجتمع، في لحظة كانت سلطة الدولة ضعيفة أو مرتبكة على الأقل، ولم يكن أحد يتحكم في سقف هذا الشارع الذي خرج طواعية وتلقائيا وبدون تأطير ولا توجيه، لكنه لم يرفع شعار: (ارحل)، ولم يكتب عبارة يسقط. لقد كنت شاهدا على هذا الحَراك لحظة بلحظة وأستطيع أن أقدم شهادتي وأنا مطمئن. غدا كان خيار الشعب اليوم هو الإصلاح من الداخل، فإن المشاركة في الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لتنزيل هذا الخيار، وأن المقاطعة لا يستفيد منها إلا حزب الفساد والاستبداد لأنه يبعد الأكثرية عن المعركة ويضرب بالمال وسلطة الأقلية ضربته القاضية.