بقلم - توفيق بو عشرين
كما اختارت السلطة المقاربة القانونية مع حراك الريف، ودفعت 365 شابا من الحسيمة إلى النيابة العامة لمباشرة التحقيق معهم ودفعهم إلى القضاء، ها هي أعلى سلطة في البلاد تدفع بالوزراء وكبار المسؤولين في الإدارة إلى المجلس الأعلى للحسابات، للنظر في سياساتهم العمومية تجاه الريف بعد أن أنجزت متفشية المالية والداخلية محاضر لهم، حول مسؤوليتهم عن التقصير الواقع في تنفيذ مشروع الحسيمة “منارة المتوسط”. محاضر انتهت، حسب بلاغ الديوان الملكي الصادر أول أمس، إلى إدانة الوزراء والمسؤولين عن المشروع بتهمة التأخر في الإنجاز، وعدم تنفيذ العديد من مكونات هذا البرنامج، فيما برأت تقارير المالية والداخلية المسؤولين عن “منارة المتوسط” من تهمتي الغش والاختلاس…
هذا، وكلف الملك محمد السادس إدريس جطو، بصفته رئيس أعلى محكمة مالية في البلاد، بإعداد تقرير في ظرف لا يتعدى عشرة أيام حول الموضوع. وواضح هنا أن الملك يعتزم أخذ خلاصة البحث في هذه النازلة معه إلى البرلمان بمناسبة خطاب افتتاح السنة التشريعية الجديدة يوم الجمعة 13 أكتوبر المقبل…
هنا يمكن إثارة ثلاثة أسئلة على درجة من الأهمية من الناحية الدستورية والقانونية والسياسية…
أولا: ألم يكن من المناسب أن يشير بلاغ الديوان الملكي إلى المرتكز الدستوري، الذي بموجبه يمكن للملك أن يوجه تعليماته مباشرة إلى المجلس الأعلى للحسابات لكي يقوم بمهمة التحقيق في مشروع الحسيمة “منارة المتوسط”؟ ذلك أن الدستور لم يعط للملك هذا الاختصاص، بل جعله حصريا لدى الحكومة والبرلمان، وإذا كان الملك هو الذي يعين رئيس المجلس الأعلى للحسابات، وهو الذي يتلقى تقريرا سنويا منه، فإن الإحالة المباشرة عليه غير منصوص عليها، لا في الدستور، ولا في القانون المنظم لعمل المجلس، اللهم إلا إذا كان القرار سيمر في صيغته القانونية عبر مكتب رئاسة الحكومة. أما وضع سقف زمني قصير جدا لعمل المجلس حول مشروع كبير يهم 12 قطاعا حكوميا، فهذا أمر قد يؤثر على عمل المجلس، وعلى خلاصاته.
ثانيا: هل إحالة ملف التحقيق في مصير الحسيمة، “منارة المتوسط”، على المجلس الأعلى للحسابات، أول أمس، تصحيح لقرار سابق جرى بموجبه إحالة الملف على مفتشيتي الداخلية والمالية، وهما هيأتان تشتغلان تحت إمرة وزيري الداخلية والمالية، وغير مخولتين للنظر في السياسات العمومية وتقييم أداء الوزراء في الحكومة… ثم كيف سمحت مفتشيتا المالية والداخلية لنفسيهما بحيازة اختصاص قضائي بحت، وتبرئة المسؤولين عن تنفيذ مشاريع “منارة المتوسط” من تهمتي (الاختلاس والغش) قبل أن يعد المجلس الأعلى للحسابات تقريره، وقبل عرض الملف على المحكمة المختصة؟… فالمفتشيتان التابعتان لوزارتي الداخلية والمالية ليست لهما الصفة الضبطية وليستا هيأة قضائية…
ثالثا: هؤلاء الوزراء والمسؤولون عن الحسيمة “منارة المتوسط” لهم رئيس اسمه عبدالإله بنكيران، بصفته رئيس حكومة سابق، وبصفته رئيس الإدارة وقت التوقيع على هذا المشروع، وكان حريا بالمفتشية العامة لوزارتي المالية والداخلية أن تستدعيه لتعرف روايته حول ما حدث لهذا المشروع، الذي يوجد اليوم في قلب سجال سياسي وقانوني كبيرين، والذي قد يسقط رؤوسا كبيرة في الحكومة وفِي الإدارة، وقد ينتهي بهم للمساءلة أمام القضاء… وإذا كان مفتشو المالية والداخلية لم يستمعوا لرواية رئيس الحكومة السابق حول الموضوع، فإن بعض وزراء بنكيران قدموا في أكثر من مناسبة رواية تقول: (إن بنكيران لم يعرف بمشروع “منارة المتوسط” إلا من خلال التلفزيون، وإن الوزراء الـ 12 الذين وقعوا على الاتفاقية أمام الملك في تطوان يوم 28 أكتوبر 2015 لم يخبروه بشيء، وإن وزير الداخلية السابق، محمد حصاد، لم يسبق له أن أثار موضوع تأخر تنفيذ المشروع في أي من المجالس الحكومية التي أعقبت التوقيع على المشروع، الذي تعرض تنفيذه لحادثتي سير كبيرتين: الأولى هي قرار وزيري الداخلية والعدل توقيف جل المشاريع التنموية في البلد ستة أشهر قبل انتخابات أكتوبر 2016، مخافة توظيفها في الحملة الانتخابية! والحادث الثاني، هو “البلوكاج” الذي أوقف تشكيل الحكومة لمدة أكثر من خمسة أشهر، ولهذا قال بنكيران في فاس إن المطلوب هو تشكيل لجنة للبحث والتقصي حول “البلوكاج”، الذي أهدر زمنا طويلا من عمر الحكومة)…
ربط المسؤولية بالمحاسبة هو مبدأ دستوري سام ويجب التشبث به وتفعيله على أرض الواقع، لكن بحرص تام على احترام النصوص والمساطر، ودون انتقائية قد تضر بتفعيل المبدأ هذا، الذي مازال غريبا عن بيئتنا. مشروع “منارة المتوسط” مشروع كبير ومهم وتحتاجه المنطقة، لكن سرعة إطلاقه وعدم التنسيق بين القطاعات المعنية به، وعدم إدراجه في القانون المالي لسنة 2015، وعدم تصفية ملفاته قبل الإعلان عنه، كلها عوامل ساهمت في تعثره، إضافة إلى المناخ السياسي الذي جاء بعد الإعلان عن نتائج اقتراع شتنبر 2015، وضغوط أجندة 2016…
المغاربة جميعا مع تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفتح ملفات كل المشاريع الملكية التي تعثرت بعد انتهاء حفل الإعلان عنها وقص الأشرطة وأخذ الصور….