بقلم - توفيق بو عشرين
ماذا وقع حتى فقد منشور مولاي أحمد الشرعي أعصابه، وبدأ يسب ويلعن ويقذف ويهدد جريدة «أخبار اليوم» ومدير نشرها، فقط لأن صحافيا نقل تصريحا لمحامي دفاع معتقلي الريف، محمد زيان، ينتقد فيه مطالبة النيابة العامة بأقصى عقوبة في حق الزفزافي و20 من رفاقه، بتهمة تهديد سلامة الدولة، والتي تصل عقوبتها في القانون الجنائي المغربي إلى الإعدام. حتى الوكيل العام للملك في الدار البيضاء لم يتهمنا بشيء، ووجه بلاغه إلى بعض الواقع الإلكترونية، كما لم ينف أن تكييف هيئة الادعاء الجرائم المنسوبة إلى المعتقلين اتجه إلى الأقصى.
وذكر البلاغ الفصل 201 من القانون الجنائي، وهو ما يبرر عنوانا مثل الذي صدر على صدر «أخبار اليوم» كتوجه لدى النيابة العامة، وليس لقاضي التحقيق ولا لقاضي الحكم، فالعنوان الصحافي دائما يلتقط «الصادم» أو «الغريب» أو الذي يكشف عن سياسة ما، أكانت جنائية أم اقتصادية أم تشريعية… ألم يقرأ مولاي أحمد الشرعي عن شيء اسمه فصل الخبر عن التعليق؟ بلا شك سيخبره أصدقاؤه الكثيرون من الصحافيين، في الداخل والخارج، ممن يعرفهم، أن هذه واحدة من قواعد المهنة… ومادام أنه ينحدر من مراكش، فلا شك أنه سمع من مدرسة الفقه هناك أن «ناقل الكفر ليس بكافر»، ففي الموضوع نفسه الذي لم يعجبه، وخصص له كلمة «الأحداث»، كتبنا أن الملف عند قاضي التحقيق، وإليه وحده يرجع أمر إقرار المتابعة من عدمه، واليه يرجع أمر التكييف النهائي، لكن نقل توجه النيابة العامة مهم هنا، ولا يمكن أن يتجاهله صحافي مستقل ليس في أجندته غير نقل الأخبار الصحيحة من مصادرها الموثوقة والمعلنة.
حتى الصحافيون المبتدئون يعرفون الفرق بين القضاء الواقف والقضاء الجالس، وإذا كانت الأحكام تصدر عن هيئة الحكم، فإن توجهات هيئة الادعاء تعكس السياسة الجنائية لممثل النيابة العامة، وهي، إلى الآن، في يد وزارة العدل، ومن ثم يكتسي نقل وجهة نظرها وتكييفها للوقائع وتوجهها في هذا الملف، السياسة المتبعة للحكومة تجاه المعتقلين في أحداث صارت تهم القريب والبعيد… أما وإن مولاي احمد حريص على التهدئة في الريف، وحريص على استبعاد أي شيء يفسد هذه التهدئة، حتى وإن كان أخبارا صحيحة ومعالجات مهنية، فهذا حقه، كما من حقه أن يجرم حراك الريف منذ أن انطلق، وأن يشيطنه منذ الأسابيع الأولى لخروج شباب يطالب بجامعة وطريق وفرصة شغل وثمن معقول لسمك السردين… لكن ليس في مقدور الشرعي -وهو هنا نموذج فقط للوكلاء الجدد للصحافة- أن يفرض على باقي الجرائد المغربية أن تنحو طريقه وأسلوبه ودفتر تحملاته، وإلا فإنه سيهددها بلغة الفرمانات العثمانية القديمة، حيث كتب المنشور الذي يملكه دون توقيع: «ماذا وإلا هناك قانون في البلد، والساهرون على تطبيقه يعرفون ما الذي يجب فعله بالتحديد. انتهى الكلام، وانتهى معه هذا اللعب الصغير بنار لن تحرق اللاعبين بها وحدهم».
نحن في هذه الجريدة ندفع كل يوم ثمن استقلاليتنا المهنية، ونحن راضون بذلك، وإن كانت ضريبة الاستقلالية هذه تستعمل وسائل محرمة وغير قانونية، وتوظف بعض أجهزة العدالة بطريقة مخجلة، لهذا لا داعي لتهديدنا لأننا نعيش فعلا تحت وقع العقوبات المادية والمعنوية، لذلك، لا نلتفت إلى الخزعبلات التي يحفل بها منشور كان جريدة عندما كان في يد صحافيين يرعون للمهنة حرمتها، وللزمالة حقها، مهما كان الاختلاف والخلاف مع الآخر.
عدم ردنا على وكلاء السلطة في الصحافة ليس ضعفا ولا جبنا، لكنه من باب قل كلمتك وامش واترك للناس الحكم، ففي الغالب، حكم الناس لا يخطئ، واليوم كل مؤسسة صحافية في هذا البلد غير السعيد تعرف، في قرارة نفسها، حجم رصيدها المهني، وصدقيتها لدى الجمهور، ولا تحتاج إلى الدعاية لنفسها، ولا تحتاج إلى إظهار عنتريات يشهد الواقع البائس لإعلامنا على تهافتها… هذه الجريدة التي تنشغل بها «الأحداث المغربية» طوال السنة، لها ملاحظات كثيرة على ما آل إليه أداء «الإعلام المخدوم»، وعلى الأجندة التي يشتغل تحت مظلتها، وعلى حجم الروابط التي تجمعه بأجهزة معلومة ومكتومة، لكنها ملتزمة في الحدود الدنيا بقاعدة أخلاقية تقول بضرورة عدم مهاجمة «الزملاء»، مهما كانوا قريبين أو بعيدين عن قيم المهنة.
إن الصحف والمواقع الإلكترونية تتعرض لاستفتاء يومي في الأكشاك وخلف شاشات الحواسيب والهواتف المحمولة، وفي تعليقات الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي. إذن، لا داعي لمحاكمة مزدوجة لهؤلاء «الزملاء» رأفة بهم وبمهنة أصبحت للسلطة فيها الكلمة الفصل، وأصبح «القلم السياسي» أشهر كاتب افتتاحيات، وإلا فإننا سننزلق إلى حفلات مروعة لنشر غسيل يعرف الجميع كم هو بعيد عن البياض. صدق «balzac» عندما قال: «الصحافة منجنيق كبير يستعمل لقذف أحقاد صغيرة جدا».
أزمة الصحافة اليوم من أزمة السياسة، ويكفي أن نعرف أن الجمهور الواسع قد انفض من حول صالحها وطالحها، واتجه إلى «إعلام المواطن».. إعلام الفايسبوك وتويتر واليوتوب، وهذا الإعلام وإن لم يخلُ من عاهات ومشاكل ومخاطر، ليس أقلها ترويج الإشاعات والقيم العنصرية والتوجهات الشعبوية وغير العقلانية، لأنه «إعلام» بدون مصفاة، وخارج قواعد صنعة البحث عن الأخبار ومعالجتها ونشرها، رغم كل المخاطر التي يعرف المهنيون والباحثون تأثيراتها السلبية على مستقبل المهنة، فإن «إعلام المواطن» يبقى أقل ضررا من إعلام السلطة، الذي اخترق أسوار المهنة، ودجن روحها، ونزع أظافر الصحافيين، وجعلهم مخلوقات أليفة في بيت الدولة، وكواسر جارحة تجاه خصوم السلطة، أيا كانت توجهاتهم السياسية وسماتهم الإيديولوجية، فإعلام السلطة يكون أحيانا ضد الإسلاميين بدعوى أنه علماني وحداثي ويدافع عن الدولة المدنية، ويصير أحيانا ضد الحقوقيين لأنه إعلام يتحدث باسم الحفاظ على الاستقرار والأمن وهيبة النظام، ويكون أحيانا مع الحريات الفردية وحتى الجنسية، لكن، عندما يريد «الخدمة» في أعداء السلطة، فإنه ينشر خصوصياتهم، ويدعي أنه تبعهم إلى غرف النوم في الرباط وباريس، وأنه إعلام ينشر الفضيلة، ويدافع عن العفة بين البرلمانيين.
الإعلام ذاته يهاجم الأحزاب لأنها لا تمثل الشباب ولا تنصت إليهم، لكن، عندما يتحرك الشباب ويخرج إلى الشارع للمطالبة بحقه، يجرم حركته، ويتهمه بالعمالة للخارج والانفصال عن الوطن. هذا الإعلام يتلون كل يوم بلون، لذلك فهو لا يحتاج إلى خط تحريري، ولا إلى قيم مهنية، ولا إلى ضوابط أخلاقية. هو مثل مسدس يطلق الرصاص كل يوم في اتجاه مختلف، إلا أنه في المغرب مسدس فارغ لم يعد أحد يلتفت إلى طلقاته الخاوية.