هموم مغربية في مطار كينيدي

هموم مغربية في مطار كينيدي

المغرب اليوم -

هموم مغربية في مطار كينيدي

بقلم - توفيق بو عشرين

كانا يتحدثان بصوت مسموع، كعادة جل المغاربة، وهما واقفان في صف طويل بمطار JFK بنيويورك، ينتظران دورهما أمام شباك شرطة الحدود من أجل ختم الجوازات، والعبور إلى المدينة التي تعيش فيها 200 جنسية. تبدو عليهما فرحة كبيرة، فتصيح الشابة باللغة الفرنسية: «وأخيرا ها نحن في أمريكا». بدأت تقبل صديقها غير مصدقة أنها على أبواب الحلم الأمريكي، فرد عليها بسخرية تقطر مرارة: «سكتي ولا غادي يردو مك للدار الكحلا». هذه المرة بالدارجة، ويقصد بالدار السوداء مدينة الدار البيضاء، ثم حذّر رفيقته قائلا: «إياك أن تقولي لي بعد شهر أو سنة، أو عشر سنوات حتى، إنك اشتقت إلى البلاد وإلى أهلك. راه عندك واتساب. عندما تتوحشين طاصيلتك اتصلي بها عبر محادثة الفيديو».

هنا التفت إليهما ودخلت إلى الحوار دون استئذان بين شابين مغربيين عرفت أنهما صديقان في عمر الثلاثين، متعلمان ومن أسر متوسطة، خططا لمدة سنوات للحصول على فيزا الولايات المتحدة الأمريكية، ولما نالا ما خططا له، قررا حزم أمتعتهما، ومعها أحلامهما وآلامهما وإحباطاتهما، والانتقال للعيش في بلاد ترامب الذي يكره المهاجرين.

بفضول الصحافي، الذي يسعى إلى نقل ما يرى أنها مشاهد تلخص آلاف الكلمات والجمل والتحاليل والأرقام، سألتهما: «هل تنويان الاستقرار هنا في نيويورك؟»، فرد الشاب بسرعة وبلا تردد: «نعم، وإذا اقتضى الحال الانتقال إلى ولاية أخرى أو مدينة أخرى سنفعل… المهم ألا نرجع إلى المغرب»… رجعت للحفر معهما عن أسباب هذه الهجرة القسرية التي تدفع شابين في مثل عمرهما إلى خرق قانون الإقامة في الولايات المتحدة، وتحويل فيزا سياحية إلى قنطرة للعبور إلى بلاد الأحلام، سابقا على الأقل.

ردت الفتاة هذه المرة بسؤال: «وهل تظن أن في المغرب من لا يحلم بمغادرته إذا أتيحت له الفرصة؟». عقبت عليها: «لا تبالغي، هناك على الأقل الذين يحكمون المغرب، ولن يجدوا عنه جنة بديلة في كل الأرض. هؤلاء متشبثون بالوطن»، فعلق صديقها قائلا: «هؤلاء متشبثون بامتيازاتهم، وبما غنموه من أرض ومال وريع وفرص لم يتباروا عليها. ألم تسمع بحكاية ‘‘خدام الدولة’’ في الرباط الذين توزع عليهم السلطة بقعا أرضية لبناء فيلات فخمة من أرض الوطن، ومنهم وزير التعليم، محمد حصاد، الذي جعل تحية العلم واجبا مدرسيا كل صباح في مدارس البؤس. طبعا يجب على التلاميذ أن يحيوا هذا العلم الذي يختبئ خلفه كل هؤلاء».

لا أخفيكم أنني فوجئت بجواب الشاب ومن متابعته لما يجري، لكني فوجئت أكثر بمرارته وإحباطه من بلده، فسألته: «هل سبق لك أن انتميت إلى أحد الأحزاب؟». فرد بكلمة واحدة وتقدم في الصف: «حشاك».

التفت إلى صديقته، وغيرت أسلوب إدارة الحوار من أسئلة إلى تعليقات حتى لا يشعرا بأنني أستجوبهما، فيتخليان عن عفويتهما في الحديث، فقلت: «لكن أمريكا الواقع ليست أمريكا الأفلام. ليس من السهل عليكما العثور على عمل وبيت وفرصة عيش، وفوق هذا تسوية الوضعية القانونية على الأقل في السنوات المقبلة»، فردت الشابة: «في البداية سنسكن مع أحد الأصدقاء تعرفنا عليه في الفايسبوك، والذي عرض علينا المساعدة إلى أن نجد عملا. لن نعاني أكثر مما عانيناه في المغرب. أنا كفتاة في الدار البيضاء أتعرض للتحرش يوميا في الشارع بلباس محتشم أو متحرر، وإذا أردت أن آخذ غرفة في فندق يرفض العاملون فيه إعطائي غرفة لأن عنواني في البطاقة موجود في الدار البيضاء، أما في العمل فيكفي أن تعرف أنني اشتغلت سنة كاملة لأوفر ثمن تذكرة السفر على لارام، ومبلغا صغيرا لأعيش به هنا شهرا»… قاطعها صديقها قبل أن تكمل حديثها وقال: «البلاد التي يحلم الغني والفقير بمغادرتها، هل يمكنك أن تلد فيها أطفالا وتبني فيها بيتا وتشعر فيها بالأمان؟ المغني الشاب الحاقد كان من أبناء حينا، سجنوه مرتين بسبب أغنية لم تعجب كلماتها المخزن، والآن هو لاجئ سياسي في بلجيكا، ألم تسمع عنه؟». قلت: «بلى، ولكني لم أعتقد أن حكايته ستصبح ملهمة لمعجبيه، وتعطيهم مبررا لهجرة قسرية من البلاد»، فرد بعصبية: «وها أنت عرفت الآن، فهل ستغير رأيك في من ‘‘يحرگون’’، وتتفهم أسبابهم ودواعيهم وقلة الصبر في صدورهم على بلاد تطرد أهلها؟». هنا تذكرت البيت الشعري للمتنبي: «لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق»، لكن، رحمة بالمتنبي لم أدخله في هذا النقاش.

أحست الشابة بأن صديقها يميل إلى الحدة في الكلام أمام غريب يريد أن يشكك في مشروع هما على بعد خطوات منه، فقالت: «نحن لا نكره بلادنا، ولا نحقد على شعبنا، لكننا أبناء الوقت، حيث يتغير العالم ولا تتغير بلادنا. يتغير كل شيء من حولنا، ونحن لم نجد طريقا للتقدم، للحرية، للعدالة».

اضطررت إلى الابتعاد عنهما لأن دوري حان لختم الجواز وأخذ بصمات اليد والعين، لكنني استأنفت الحديث معهما ونحن ننتظر وصول الحقائب.. عادت الابتسامة إليهما وهما يطآن، لأول مرة، أرضا غير الأرض التي ولدا فيها، ولا يريدان أن يدفنا أحلامهما فيها. إنها طريقة جل شبان اليوم في ابتكار مشروعهم الخاص، بعدما سدت في وجوههم طرق بناء المشروع العام.. مشروع بناء المغرب الذي علقت الأشغال فيه إلى إشعار آخر.

وأنا أودعهما، سألني الشاب: «هل أنت صحافي؟»، قلت: «تقريبا»، فقال: «كلشي في المغرب خاصك تزيدو تقريبا».. إلى اللقاء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هموم مغربية في مطار كينيدي هموم مغربية في مطار كينيدي



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya