انطلقت يوم أمس محاكمة ناصر الزفزافي ورفاقه بعد سنة من انفجار حراك الريف، بعد مقتل محسن فكري في شاحنة نفايات يوم أكتوبر 2016. بهذه المناسبة ظهر ناصر الزفزافي في محكمة الاستئناف في الدار البيضاء يرفع شارة النصر، ويطلب الكلمة التي حرم منها عدة أشهر قضاها في الزنزانة لوحده معزولا عما يجري في الريف وفي الوطن، ولما رفض القاضي إعطاءه الكلمة إلى حين الشروع في الإجراءات الروتينية، غضب الزفزافي ورفع صوته الجهوري وقال: «إرادة الشعب من إرادة الله، وإرادة الله لا غالب لها. الموت ولا المذلة ومصلحة الوطن أسمى من الجميع».
بلا شك أن الزفزافي كان بحاجة إلى إسماع صوته وإيصال رسالتين؛ الأولى أنه ليس انفصاليا، وأنه يغار على مصلحة الوطن، والثانية أن السجن لم ينل من عزيمته، وأن حراكه وصل إلى هدفه… هذه بداية جيدة للبحث عن مخرج للملف داخل المحكمة وخارجها.
الصوت الثاني الذي ارتفع بمناسبة محاكمة شباب الريف كان صوت البرلمانيين الذين أعربوا، يمينا ويسارا ووسطا، أغلبية ومعارضة، عن رغبتهم في نقل رسالة إلى الملك محمد السادس، يطلبون منه فيها إصدار عفوه عن المعتقلين كبادرة سياسية وإنسانية لطي هذا الملف المعقد، الذي لا يمكن أن يكيف جنائيا بأي حال من الأحوال. هل سيصل صوت البرلمان إلى القصر أم لا؟ سننتظر لنرى ماذا يجري بعدما تحولت أزمة الريف إلى عقدة في منشار المملكة كلها.. عقدة أضعفت الحكومة والأحزاب ومؤسسات الدولة، وجعلت المغاربة يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا على استقرار المملكة، ورعبا من الفراغ السياسي والمؤسساتي الذي كشفت أزمة الريف عمقه وخطورته.
طبعا كان أمام البرلمان طريق آخر للعفو عن شباب الريف غير طلب استعطاف الملك، وهو سن قانون للعفو، فالدستور الجديد لسنة 2011 ينص في الفصل 71 على صلاحية البرلمان في «العفو العام»، حيث يمكن للبرلمان أن يصدر عفوا عاما من خلال المصادقة على نص تشريعي بهذا الشأن، لكن البرلمان ظهره قصير، فلا يطلب منه أحد أكثر من طاقته.
هل ملف الريف جنائي أم سياسي واقتصادي واجتماعي؟ لنتأمل هذه الحقائق، وكل واحد يحكم بما يراه عدلا وإنصافا…
1- أعلى نسبة للهجرة من المغرب نحو أوروبا توجد في الريف، حتى إن المهاجرين من أصل ريفي إلى هولندا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا… أصبحوا اليوم أكثر من الريفيين المستقرين في البلد، وجلهم اضطرارا وليس اختيارا.
2- أعلى نسبة من البطالة في صفوف الشباب توجد في الريف، حتى إنها تصل إلى أكثر من 50% وسط الحاصلين على دبلومات.
3- أكثر شبكة طرق ومواصلات هشاشة توجد في الريف الذي مازال يسير على طرق وقناطر بناها المستعمر الإسباني أو الفرنسي منذ أكثر من قرن.
4- أكثر منطقة مجروحة نفسيا ومعزولة جغرافيا وحساسة ثقافيا، لأسباب قديمة وجديدة، هي الريف، التي لم تنجز فيها أي مصالحة حقيقية بين سكان المنطقة والحكم المركزي بالرباط.
5- أعلى نسبة للإصابة بالسرطان توجد في الريف ومنطقة الشمال، وفوق هذا لا توجد بنية صحية لتوفير خدمات العلاج.
6- أكثر منطقة تضررت من الأزمة الاقتصادية في أوروبا هي الريف، نظرا إلى انخفاض تحويلات المهاجرين إلى عائلاتهم التي تعيش على مورد وحيد، هو ما يأتي من أوروبا من أوروهات.
7- أكثر منطقة تضررت من سياسة محاربة المخدرات، زراعة وتصديرا، هي الريف، ففي الوقت الذي التزمت الدولة أمام الاتحاد الأوروبي بسياسة صارمة لمحاربة المخدرات والهجرة غير القانونية، لم توفر الحكومات المتعاقبة بدائل عن عائدات زراعة وصناعة المخدرات.
8- بعد ثمانية أشهر من انفجار احتجاجات الريف، زار أول وفد وزاري المنطقة بعدما كانت كرة الثلج قد كبرت، ثم قبل هذا وقع العثماني وفريقه في أسوأ خطأ يمكن أن تقع فيه أي حكومة، وهو تجريم حراك اجتماعي سلمي يشارك فيه عشرات الآلاف، بدعوى أنه انفصالي وممول من الخارج.
9- حراك الريف واحد من قلة قليلة من التظاهرات التي استمرت سنة كاملة في الشارع وهي ترفع: «سلمية سلمية لا حجرة لا جنوية»، وحتى الانفلاتات التي وقعت ظلت محدودة جدا، وحصلت بعد اعتقال رموز الحراك التي كانت تؤطر حركة الناس في الشارع، وليس قبل ذلك.
إذا استحضرنا كل هذه المعطيات والحقائق قبل فتح الملف الجنائي للشباب أو الملف السياسي للأزمة، فإننا، حتما، سنهتدي إلى المقاربة المناسبة لعلاج هذا الجرح قبل فوات الأوان.
يقول أديب الريف، محمد شكري، في روايته العالمية «الخبز الحافي»، التي تروي حكاية مهاجر ريفي في طنجة بداية القرن الماضي: «الخبز سرّ البقاء، يعلمنا الشجاعة والدفاع عن الحقوق وضمان البقاء، وقهر الظلم، وفي الوقت نفسه غيابه يغرس في النفوس الذل والهوان. فما عاش بشر عزيزا إذا كان خبزه حافيا. وحتى الخبز يعلمنا كيف نداعب أوتار الكمنجة والقيثارة، فالخبز الحافي لن يشعر بألمه الجائع ولا العاري، إنما المقهور من الظلم الحالك».