بقلم - توفيق بو عشرين
هناك فرصة تلوح في الأفق للخروج من النفق الذي دخلته البلاد جراء ثمانية أشهر من الاحتجاجات في الريف، وثمانية أشهر من القلق والخوف في كل أركان المملكة.. الشاب الملتحي مرتضى اعمراشن، الذي وجهت إليه النيابة العامة -سامحها الله- تهما إرهابية ثقيلة، ورمته بين يدي القاضي الشنتوف.. مرتضى هذا هو نفسه الذي أصبح صوتا معتدلا ورصينا، يدعو إلى التهدئة، ويوصي رفاقه في حراك الريف بالوقف المؤقت للاحتجاجات، وإعطاء الدولة الفرصة لكي تبرهن على حسن نيتها، وذلك من أجل الوطن والمعتقلين… السلطة ردت على هذه الخطوة بخطوة مماثلة، حيث خففت من الحضور الأمني القوي في الحسيمة ونواحيها بتعليمات ملكية، كما قال العامل الجديد للحسيمة. قاضي التحقيق في محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، بدوره، أسهم في بعث أمل في نفوس المعتقلين حين أفرج عن الناشط خالد بنعلي، وقرر متابعته في حالة سراح، وذلك تزامنا مع رسالة مؤثرة وجهها ابنا المعتقل إلى الملك شخصيا، ويبدو أن صوتهما وصل إلى وجهته.
من جهة أخرى، تحرك عدد من المثقفين والحقوقيين والناشطين والعلماء في محاولة للعب دور الخيط الأبيض بين الدولة، التي لم تعرف إلى الحل طريقا، والنشطاء الذين رفضوا أي نوع من التنازل إلى غاية الإفراج عن كل المعتقلين، والاستجابة لملف مطلبي يحتاج إلى وقت للتنفيذ، فدخلنا إلى bras de fer مدمرة وغير منتجة لحلول وسطى.
الموسم السياحي على الأبواب، وحوالي ربع مليون من الدياسبورا الريفية ستحل بالمنطقة حاملة معها قدرا كبيرا من الغضب والحزن، واقتصاد المدينة تكبد خسائر كبيرة، ووراء القضبان عشرات المعتقلين السياسيين الذين يعيدون الوضع الحقوقي في المغرب سنوات طويلة إلى الخلف، خاصة بعد تواتر الشهادات حول تعرض بعض المعتقلين للتعذيب والإهانة، وقوات الأمن نفسها تعرضت لإنهاك شديد لأنها ترابط في المنطقة منذ أشهر، تاركة وراءها عائلات ومهام أخرى في مدن عديدة، والأخطر من كل هذا هو أن حراك الريف أحرق طاجين الحكومة، وأظهر أن الأغلبية التي تقود الجهاز التنفيذي ضعيفة ولا تملأ عين أحد، وأن الناس في النهاية يتطلعون إلى ماذا يمكن أن يفعله الملك، وماذا يمكن أن يكون رد الشارع، دون وساطات ولا مؤسسات ولا مجالس ولا حكومة ولا برلمان ولا نقابات.
يجب ألا يتم تضييع هذه الفرصة التي تلوح من بعيد، ويجب الاستمرار في سياسة خطوة من عند الحراك تقابلها خطوة من الدولة، وعدم ترك فرصة لـ«الصقور» من الجهتين لإفساد جو التهدئة، فلا المقاربة الأمنية تستطيع أن تقمع مدينة كاملة تحتج، ولا الحراك يمكن أن يكسر شوكة الدولة، خاصة عندما تبدي الأخيرة تفهما لمطالب الناس، واعتذارا عن الأخطاء التي قامت بها، كما جاء على لسان رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني. لا بد من تخفيف التوتر، ومواصلة الإفراج التدريجي عن المعتقلين، ولو عن طريق السراح المؤقت، في انتظار العفو الشامل عن الجميع في عيد العرش، وبعدها لا بد من تقييم عميق وجدي ومسؤول لأسباب هذا الحراك ومسبباته وخلفياته، باعتباره نموذجا لجيل جديد من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في بلد يقف في نصف الطريق، لا هو ديمقراطي ولا هو استبدادي.
في اصطدام مشهور بين الملك الراحل الحسن الثاني ووزيره الأول وصهره، أحمد عصمان، يحكي من كان حاضرا في المجلس الوزاري في الثمانينات أن الحسن الثاني دخل غاضبا مرة إلى مجلس الوزراء، فسأل وزيره الأول عصمان: «ماذا يقع في المغرب؟»، فرد الوزير الأول، في لحظات نادرة من الصراحة مع مولاه: «le pays est mal gouverné»، فرد عليه الحسن الثاني بحدة شديدة قائلا: «لا السي عصمان، le pays est mal géré»… ما بين عبارتي «البلد يُحكم بشكل سيّئ»، و«البلد يدار بشكل أسوأ»، هناك مسافة لا تخطئها عين المراقب، اليوم بلادنا mal gouvernée et mal gérée، والمطلوب أن تشكل أزمة الريف صعقة كهربائية في جسد نظام شبه مخدر، ودولة لا تسمع إلى نبض الشارع ولا إلى صوت الحكمة.
المغرب تغير، وشعبه تغير، وثقافة الناس تغيرت، وشبابه محبط، وحاجياته كبرت، وأحلامه اتسعت، وخوفه زال أو يكاد، ووسائل التواصل في يده تحدث ثورات هادئة وعميقة كل يوم في بيئة هشة وفقيرة ماديا وثقافيا، في حين أن الدولة لم تتغير، وعقليتها لم تتغير، وحجم السلطة في يدها لم يطرأ عليه تغيير كبير، وفوق هذا مازالت تجرب وصفات العهد القديم، وتتمسك بميزان القوى التقليدي، وترى في الأحزاب خصما، وفي الصحافة الحرة عدوا، وفي النقابات غير المخصبة مناوئا، وفي المجتمع الحي خطرا، وفي الديمقراطية نظاما لا يصلح للمملكة الشريفة.
إذا لم تقف الدولة، بكل مكوناتها، وقفة تأمل ومراجعة وإعادة الحساب، فإننا سنخرج من أزمة الريف لنسقط في أزمة أكبر وأعمق، وقد لا نخرج منها أبدا إلا وقد ضيعنا الاستقرار الهش، الذي نضيع رصيده كلما ابتعدنا عن الإصلاحات الجدية وعن العدل والإنصاف والمعقول. يقول فقهاء الإسلام: «إن الله ينصر الدولة الكافرة إذا كانت عادلة، ولا ينصر الدولة المؤمنة إن كانت ظالمة»، «فالظلم مؤذن بخراب العمران»، كما قال شيخنا ابن خلدون.