يموت قليلا من يموت صديقه

يموت قليلا من يموت صديقه

المغرب اليوم -

يموت قليلا من يموت صديقه

توفيق بو عشرين

الحق الحق أقول لكم… إن الأمطار التي جرفت الفقيد أحمد الزايدي إلى قاع الوادي أنقذته من حياة وسياسة ومؤامرات وبشر لا قاع لانحطاطهم.

الحق الحق أقول لكم… إن الموت الذي خطف الزايدي من بيننا كان أرحم من آلة وضعته بين أسنانها منذ مدة، ولم تتوقف عن فرم لحمه وتقديمه في ولائم الدسائس الحزبية وصراعات التنظيم التي لا ترحم سياسيا لا يعرف كيف يصرخ، وصحفيا لا يتقن فن المناورات، واتحاديا مازال يعيش على صورة بوعبيد وأخلاق النضال ومثل الالتزام، التي ما عادت عملة رائجة في زمن يتسابق فيه الناس على أول سلم يلوح في الأفق للارتقاء إلى السلطة والمال والجاه، ومع كل درجة تصعد بهم إلى متاع الدنيا، ينزلون درجة مماثلة إلى أسوأ ما في البشر وأحط ما في الخلق…

قبل أن تعلق سيارته في الوحل يوم الأحد الماضي، وجد نفسه عالقا في وحل أكبر وأشرس، عندما دفعت به الأقدار إلى أن يكون في مقدمة من انبروا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حزب تفرق دمه بين القبائل المتصارعة… كم كانت المحنة تعصر قلبه وهو يرى المدرسة التي تربى فيها تنهار كل يوم على رأس القلة ممن بقوا تحت سقفها.. كم كان يتألم وهو يسمع الآخرين يروجون الأكاذيب عنه فيما هو يستحيي من تذكيرهم بحقيقتهم…

الحق الحق أقول لكم.. إن الراحل الزايدي لم يتشبث كثيرا بالحياة، وما أخاله إلا زهد فيها وهو داخل سيارة عالقة في السيل.. فلم يعد في هذه الدنيا ما يغري بالعض عليها بالنواجذ…

أنا لست محايدا في ما أكتبه اليوم، ولا موضوعيا في رثاء صديق وزميل في مهنة المتاعب، وإنسان بالمعنى النبيل للإنسان، كان دائما يأتيني صوته الإذاعي الجميل من خلف سماعة الهاتف ليعلن التضامن في محنة أو التشجيع على المضي في طريق تعرية الدجل السياسي المحيط بالكلمة والرأي، وذلك أضعف الإيمان… كان السي أحمد شامخا بتواضع، رمزا دون ادعاء، ويساريا لم يؤمن يوما بانفصال السياسة عن الأخلاق، لهذا حفر لنفسه مكانة من الاحترام في نفوس خصومه قبل أصدقائه…

كان في السياسة روحا بلا عصبية، وفي الحزب مناضلا بلا أعداء، وفي الحياة خادما للناس لا ينتظر جزاء. عشت معه محنة رئاسة الفريق الاشتراكي في مجلس النواب، وكيف كان يتشبث بالمبدأ الديمقراطي قبل أي شيء آخر، ولما لم يسعفه الحال وخشي أن يقال إنه يقسم حزب بوعبيد من أجل رئاسة فريق لم تكن تزيد من قيمته ولا تنقص من قدره، طوى الصفحة بأدب الكبار، وتنازل لرئيس الحزب الذي لم يرَ من حل للأزمة إلا بصعوده شخصيا إلى قيادة الفريق النيابي. انحنى السي أحمد للعاصفة، وقال كلمته دون إلحاح، ورجع إلى بيته وكل أمله أن تكون تضحيته رسالة إلى الطرف الآخر، وإشارة ضمير إلى ضرورة مراجعة النهج الانتحاري الذي يسير فيه الحزب، أو ما بقي منه على الأقل…

لم تكن المعارضة في ثقافته هي الصراخ والعويل وافتعال الأزمات، كان يعرف أن حزب الوردة يجر خلفه 13 سنة من تدبير الشأن العام، وأن الحزب الذي كان أمل المغاربة لعقود طويلة فشل في مهام الانتقال الديمقراطي، وأنه نجح فقط في مهمة تسهيل انتقال العرش من أب حكم 38 سنة، بمؤسسات وبغير مؤسسات، إلى ابن لم يضع يده قط في طنجرة الحكم. كان يعرف أن القوة الأخلاقية التي كانت للاتحاد لم تعد كذلك، وأن المطلوب هو إعادة بناء فريق نيابي جديد بخطاب جديد ومنهجية جديدة وسياسة جديدة. كان يؤمن بأن بناء الحزب ليس ضروريا إن تم في ورشة الأعيان وسماسرة الانتخابات، وأن إعادة تأهيل الحزب ليست ضرورية إن كانت على حساب استقلالية قراره. كان رحمه الله يؤمن بأن لليسار مكانا في المغرب، وأن دعوات شباط إلى رؤية «شباطات في كل الأحزاب» تهين الذكاء الجماعي لهذا الشعب، وتهوي بالسياسة إلى بئر بلا قرار…

على تلك الدرب جميعا سائرون، لكن الجوهر هو: كيف نسير؟ السي أحمد أنهى امتحان هذه الحياة، وانتقل إلى جوار ربه، وترك على هذه الأرض أثرا طيبا وعائلة تحبه وقبيلة من الأصدقاء ستفتقده طويلا وتفتقد قلبه الكبير الذي اتسع للقريب والبعيد…

كان السي أحمد يعزي في كل من رحل، ويعود كل من مرض، ويساعد كل من يقدر على مساعدتهم في بلدته الصغيرة ومغربه الكبير، والآن لا عزاء لأحد في فقدانه، ولا دمع يكفي لإطفاء حرقة غيابه.

أعزي أهلك، السي أحمد، وهم يدركون أن حزنهم لا يقل عن حزننا.. أعزي أصدقاءك الذين فقدوك في عز الحاجة إليك، وأعزي وطنا كاملا فقد ابنا بارا من أبنائه.. ابن كان حلمه أكبر من أن يحمله وحده.. أعزي نفسي بقول الشاعر: «يموت قليلا من يموت صديقه وإن كان يبدو الشامخ الصابر الصلبا».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يموت قليلا من يموت صديقه يموت قليلا من يموت صديقه



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya