توفيق بو عشرين
تونس مستهدفة لأن فيها تجربة ديمقراطية واعدة، وفيها محاولات لرأب الصدع بين العلمانيين والإسلاميين، وفيها بوادر نجاح الربيع العربي الذي أقلق الكثيرين، وفيها دستور هو الأفضل في العالم العربي يؤسس لأول مرة في التاريخ العربي لنظام برلماني وليس رئاسيا. في تونس حزب إسلامي معتدل ومتقدم في الكثير من مواقفه على المجتمع المحافظ الذي خرج منه. تونس مهددة من قبل الإرهاب العابر للحدود الذي انتعش في ظل الاستبداد والفساد واليأس المنتشر في ربوع الخضراء نتيجة سنوات طويلة من القبضة الأمنية للديكتاتور زين العابدين بن علي، والإرهاب انتعش أكثر لأنه وجد من يراهن عليه في الخليج لإفشال الانتقال الديمقراطي المعدي، فأعطي المال والسلاح والإيديولوجيا السلفية العنيفة من أجل قتل السياح وتخريب اقتصاد البلد، وزرع الشك والخوف بين الإسلاميين والعلمانيين، ودفعهم إلى الصراع المفتوح (إلى الآن مازال التحقيق في اغتيال شكري بلعيد والبراهمي أمامه علامات استفهام كبرى عن وجود أيادٍ من خارج تونس كانت تريد أن تصنع بوادر للفتنة الداخلية عن طريق الاغتيالات السياسية من أجل تخريب التوافق الذي كان ينسج خيوطه الأولى في تونس).
ماذا سيستفيد أبوبكر البغدادي من قتل 18 سائحا أجنبيا في متحف تاريخي يقع قرب البرلمان التونسي؟
داعش آلة للقتل ليس أكثر، تنظيم بلا مستقبل ولا مشروع، لكن هناك من يستفيد منه ومن همجيته ومن أعماله البربرية، من أجل إجهاض الحلم الديمقراطي في العالم العربي. دول وقوى كثيرة تريد مصيرا لتونس مثل مصر وليبيا واليمن والعراق وسوريا، من أجل أن تقنع الشعوب العربية بلا جدوى النضال من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية والتعددية وأنماط الحكم الجيدة والحديثة. دول وقوى كبيرة تريد أن تزرع الخوف في الشارع العربي الذي تحرك قبل ثلاث سنوات ضد استبداد الحاكم العربي وفساده وتبعيته للغرب، وحكمه بلا شرعية دستورية ولا غطاء شعبي. ولأن هذه القوى الغربية والعربية لا تستطيع أن تعادي مباشرة الديمقراطية كنظام وكعملة سياسية عالمية، فإنها تلجأ إلى ضرب الاستقرار، وإلى زرع الخوف، وإلى إظهار أن العرب لا يلدون إلا داعشيا متخلفا، أو قاعديا بربريا، أو سلفيا لا يعرف إلا السيف والجزية والحدود والسبي وقتل الأبرياء…
الجميع يعرف أن الأنوية الأولى لداعش تشكلت من الفارين من سجون العراق وسوريا، وأن النظام في دمشق تعمد ترك متطرفيه يخرجون من السجون للمساعدة في تشكيل تنظيمات مسلحة متطرفة ومتعصبة تشوه مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة، وهو كان يعرف أن جل متطرفي سوريا إسلاميون وهابيون وسلفيون، وأنهم سيخوضون الحرب على أساس طائفي وليس سياسيا، وأن الطابع العلوي للحكم سيدفعهم إلى إخراج البعد المذهبي في الصراع، ومن ثم إدخال المنطقة كلها في حرب أهلية طائفية، ولهذا تعمد النظام السوري عدم مهاجمة المناطق التي استولى عليها تنظيم الدولة، وتركه يستخرج النفط ويبيعه، ولهذا أول ما فعله تنظيم داعش أنه اتجه إلى تحرير المناطق المحررة أصلا، ودخل في صراع دموي رهيب مع الجيش السوري الحر. لقد قتلت داعش من المعارضة السورية أضعاف أضعاف ما قتلت من جيش الأسد، ثم تعقد الوضع أكثر عندما أصبحت داعش محل رهان دول الخليج التي رأت فيها مجاهدين أفغانا جددا يمكنهم أن يحاربوا الأسد وإيران وحزب الله ونظام المالكي كما فعل الأفغان العرب مع الاتحاد السوفياتي في أواخر السبعينات، لكن الذي لم يحسبوا له حسابا هو أن داعش عندما كبرت وتوسعت وامتلكت السلاح والمال تمردت على الجميع، بما في ذلك أمها القاعدة، وأصبحت لها حساباتها الخاصة واستراتيجياتها الخاصة.. إنها وحش خرج من أحشاء مؤامرات وحسابات دول المنطقة، ثم لما كبر توجه إلى أمه ليأكلها، ولهذا تحالف الشرق والغرب وإيران والسعودية والعراق والإمارات لمحاربة داعش، لأنها أصبحت تهددهم جميعا رغم أنهم كلهم بلا استثناء ساهموا في ميلادها، واعتقدوا أنهم سيتحكمون فيها، لكن العكس هو الذي حدث…
في جل استطلاعات الرأي التي جرت في العالم العربي في الثلاث سنوات الماضية نقرأ تراجع مطالب الشعوب بالديمقراطية والحرية والتنمية لصالح الأمن والاستقرار، بعدما كانت المطالب الأولى على رأس مشاغل العرب مع بداية الربيع العربي، لكنها تراجعت عندما صار هناك قتل وتطرف وانفلات وانقلابات وحروب أهلية وطائفية وداعش والقاعدة والرصاص يلعلع في الشارع.. هذه هي لعبة الإرهاب باختصار…