شهيد عمره أطول من قاتله

شهيد عمره أطول من قاتله

المغرب اليوم -

شهيد عمره أطول من قاتله

توفيق بو عشرين

50 سنة مرت على اختطاف الزعيم اليساري المهدي بنبركة.. خمسون ذكرى مرت لهذا الحدث الأليم. مر نصف قرن ولم تستطع دولتان، هما فرنسا والمغرب، توفير شهادة وفاة وقبر للزعيم. كم كان الجنرال دوغول حكيما وبعيد النظر عندما علق على اختطاف بنبركة من أمام مقهى ليب في باريس واغتياله بالقول: «هذه الجثة سيكون عمرها أطول من عمر قاتلها». ها نحن نشهد، بعد مضي نصف قرن، كيف أن عمر المهدي بنبركة كان أطول بكثير من عمر قتلته. ومن عمر كل من كان يظن أن اغتياله المادي سيعني اغتياله السياسي والرمزي والتاريخي.

الغربيون يقولون: «صوت الدم هو الأقوى دائما»، والمغاربة يقولون شيئا قريبا من هذه الحكمة: «الروح عزيزة عند الله». ملف المهدي بنبركة ظل مفتوحا لمدة 50 سنة لأن وراءه عائلة صغيرة وكبيرة آلت على نفسها أن تقاوم أعراض النسيان، وأن تتصدى للمجرمين، حتى وأن كانوا من عيار مجرمي دولة، وملف المهدي بنبركة بقي مفتوحا طوال هذا الزمن لأن الضمير الحقوقي العالمي في فرنسا والمغرب والعالم كله قاوم تقادم الجريمة بالكتاب والمقالة الصحافية والصور الفوتوغرافية والأفلام السينمائية والروايات والمذكرات والمرافعات في المحاكم… كل هذا الجهد السياسي والحقوقي والإبداعي ساهم في عدم تقييد الجريمة ضد مجهول، وساهم في مقاومة حكاية «سر الدولة» الذي يضحي بالبشر من أجل الحفاظ على مظاهر كاذبة لهيبة الدولة والمصالح المشتركة والجرائم المشتركة أيضا… المعجزة التي أدت إلى أن يظل هذا الملف مفتوحا طوال نصف قرن تستحق أن تروى للأجيال، وأن تسجل في كتب تاريخ النضال من أجل حقوق الإنسان ومكافحة الجريمة السياسية… لقد ضيع المغرب فرصة تاريخية لحل هذا الملف إبان تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، وفي لحظة أخذ الملك الشاب قرارا بفك الارتباط مع الجزء الأسود من تركة والده، لكن، للأسف، لم تساعد أجهزة الدولة، ولم تسعف الجرأة الراحل بنزكري، ولم تنبعث روح الوفاء في نفوس اتحاديي الحكومة آنذاك، وها نحن مازلنا عالقين في جثة الشهيد.

هذه السنة الذكرى لها طعم خاص، ورقم الـ50 يحرض الذاكرة على استرجاع شريط الأحداث، وكيف استُدرج الزعيم إلى باريس من قبل مخرج سينمائي مزور لكي يُختطف في واضحة النهار من قبل شرطييْن فرنسيين قادا مدرس الرياضيات إلى معتقل سري، حيث عُذب إلى أن مات على يد خليط غير متجانس من مخبرين ومجرمين من جنسيات كثيرة لحسابات مغربية بالتأكيد. يجب ألا ننسى أن المهدي قبل أن يُغتال في باريس تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في المغرب، وبالضبط في بوزنيقة، ويجب ألا ننسى أن المهدي، وقبل تغييبه في باريس عاصمة الأنوار التي انطفأت تلك الليلة، كان قد حُكم عليه بالإعدام في المحاكم المغربية، ولا ننسى أن وزير الداخلية الدموي أوفقير أدين سنة 1966 من قبل القضاء الفرنسي في قضية المهدي، وأن الدولة في المغرب حمت الجنرال آنذاك ورفضت تسليمه إلى القضاء الفرنسي، بل وأدانت الحكم عليه علانية، وتركته على رأس أهم وزارة في المغرب، إلى أن نزل عليه العقاب الإلهي سنة 1972، بعد أن كان ضالعا في انقلاب الصخيرات ثم في انقلاب الطائرة.

المطالبة اليوم بقبر وشهادة وفاة واعتراف بالجريمة واعتذار للضحية وعائلته ليس من باب العناد الحقوقي، وليس من باب إحراج النظام في المغرب، وليس من باب تحميل المسؤولين الحاليين جرائم الآباء. أبدا، المطالبة بقبر وشهادة وفاة هو من باب إعلاء قيمة الحقيقة والإنصاف، ومن باب أن لكل جريمة عقابا، وأن لكل خطأ ثمنا، ولكل جثة قبرا، ولكل إنسان حقوقا وكرامة، وأن المعارضة السياسية ليست جريمة، وأن الاختلاف في الرأي لا يقود إلى القتل، وأن الصراع السياسي له قواعد وأخلاق وضوابط، وأن الدولة ليست غابة، والمسؤولين ليسوا كواسر…
الذين مازالوا يقبضون على ملف المهدي من عائلته ومن حزبه يفعلون ذلك من أجل مستقبل أفضل لنا ولأبنائنا على هذه الأرض، والغرض هو إدانة الجريمة في العقول أولا، ثم من أجل تكبيل يد السلطة في بلاد لا تحد فيها سلطة من أخرى، وفي بلاد القضاء فيها قطة أليفة لا تتحرك إلا بإذن، ولا تنصرف إلا بإذن.. هل نسيتم كيف عرقل وزير العدل الاتحادي، محمد بوزوبع، مسطرة الإنابة القضائية، ورفض مساعدة القاضي، باتريك رامييل، في الاستماع إلى شهادة من بقي حيّا من شهود يعرفون شيئا عن جريمة اغتيال الزعيم الوطني.

هذا العام قرر الزعيم الاتحادي وشيخ الاشتراكيين المغاربة، عبد الرحمان اليوسفي، تخليد ذكرى رفيقه في الدرب، وأوقف صيامه عن السياسة والخوض فيها، وقرر أن يحيي ذكرى المهدي في الرباط تعبيرا عن الحاجة إلى إغلاق هذا الملف الذي طال، وتعبيرا عن الألم الذي يعتصر الاتحاديين في هذه اللحظة على مآل الفكرة والمشروع والذاكرة الاتحادية.. مآل حزين تجمع كله، بتفاصيله القديمة والجديدة، في تصريح ولد العروسية الذي وضعه إدريس لشكر على رأس لائحة الوردة في الانتخابات الأخيرة في مراكش، حيث قال: «لقد قدمت استقالتي من الاتحاد لأنه ماكاينش مع من». دون تعليق على هذه الحكمة «العروسية»، ومعذرة إلى اسم المهدي وتاريخه إذا جاء مقرونا هنا بأسماء دفع بها الزمن الرديء إلى الواجهة.. معذرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شهيد عمره أطول من قاتله شهيد عمره أطول من قاتله



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 19:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الجدي

GMT 06:36 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

تمتع بمغامرة فريدة في أجمل مدن "مولدوفا"

GMT 11:44 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

المؤجلات… موت التشويق

GMT 22:25 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

المانجو فاكهة النشاط والتفاؤل

GMT 15:47 2018 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

أفكار مميزة لتجديد حديقة منزلك بدون تكاليف في الشتاء

GMT 18:25 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

لمسات بسيطة تضفي مزيدًا من الجمال على شرفات منزلك
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya