سالة مفتوحة إلى السيد العمدة

سالة مفتوحة إلى السيد العمدة

المغرب اليوم -

سالة مفتوحة إلى السيد العمدة

توفيق بو عشرين

صباح الخير السيد عبد العزيز العماري عمدة مدينة الدار البيضاء..
كنت أودّ أن أبعث إليك هذه الرسالة بمناسبة انتخابك عمدة لأكبر مدينة في المغرب، قلب المملكة المتعب الذي لا يضخ الدماء بما يكفي ليحافظ على سلامة وحيوية الجسم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمدينة وللبلد بأجمعه، وكنت أنوي أن أسألك عن برنامجك للنهوض بالأوضاع المزرية لمدينة غنية تعيش في فقر وفوضى كبيرين، وكنت أنوي أن أوجه إليك أسئلة بسيطة جدا لمواطن يقضي جل نهاره في مدينتك قبل أن يرجع للمبيت في الرباط. كنت أنوي أن أسألك عن الطريقة التي يمكن أن تتخلص بها من جيش الموظفين الجماعيين الذين يتجاوز عددهم 30 ألفا، ويستهلكون أكثر من 40٪ من ميزانية المدينة، فيما جلهم يعقد حياة الناس ويبتزهم مقابل خدمات رديئة، وكنت أنوي أن أسألك عن كيفية تحصيل ملايير الضرائب غير المستخلصة والتي تحرم مجلس المدينة من إمكانيات مالية ضخمة للنهوض بالأعباء الموضوعة على كتفيه، وكنت أنوي أن أسألك عن النقل العمومي الذي يشل حركة مئات الآلاف من البيضاويين، ويجعل من استعمال الحافلة قطعة من الجحيم في مدينة مترامية الأطراف. كنت أريد أن أسألك عن أحوال سيارات الأجرة الصغيرة المتهالكة والمتسخة، والتي يرجع عمر بعضها إلى ربع قرن حتى إن الشركات الفرنسية والألمانية والإيطالية التي اخترعتها نسيتها، ولم تعد تتذكرها إلا عندما يزور مدراؤها الدار البيضاء. كنت أنتظر منك أجوبة عن الصورة التي نعطيها للسياح عن مدينة مليونية بدون لوحات للتشوير.. مدينة مازال الحمير والبغال تستعمل فيها لنقل البشر والبضائع في وسط المتربول المغربي، وأسوأ من هذه الحيوانات وسائل نقل اجتاحت المدينة في غفلة من ساجد، يقال لها «تربرتور»، تنقل البشر والحجر والسمك واللحم والخشب والأطفال إلى المدارس بلا لوحات ترقيم ولا تأمين ولا رخصة سياقة… وكنت أنوي أن أسألك عن التراث العمراني وعمارات المهندسين الفرنسيين التي تشوَّه كل يوم بالصحون اللاقطة «البرابول» التي تنتشر في كل مكان، وكأننا نعيش في قاعدة للتجسس العسكري وليس في مدينة لا تملك إلا القليل من مقومات المدينة.
كنت أيضا أريد أن أسأل عن النظافة وعن الفضاءات الثقافية والرياضية والبيئية، وعما يجعل المدينة مدينة وليس تجمعات إسمنتية وفضاءات موغلة في العنف والإقصاء والتهميش والقطيعة بين أحياء الفقراء وأحياء الأغنياء…
لكن نازلة «براسري دوماروك»، واستعدادها لإطلاق مهرجان على مدار شهر كامل، لتشجيع استهلاك البيرة في الدار البيضاء أرغمتني على ابتلاع كل هذه الأسئلة، والتوجه إليك برسالة أخرى مفادها الآتي:
هذا المهرجان، وكيفما كان تحفظك ورفضك وحتى غضبك منه ومن موضوعه وبضاعته وجرأة الجهة المنظمة له، هذا مهرجان لا يخصك ولا يدخل في صميم عملك، وليس من وظيفتك أن تأمر بمنعه أو عرقلة عمله أو تشجيعه. البيضاويون انتخبوك وصوتوا لحزبك بكثافة دالة لكي تخدمهم، ولكي تجعل من البيضاء مدينة نظيفة تعيش تحت الأضواء عندما تغرب الشمس، وتتخلص من نفاياتها قبل أن يستيقظ الأطفال للذهاب إلى المدرسة، ولكي يجد النساء والرجال حافلة تليق بالبشر تنقلهم من بيوتهم إلى مقار عملهم، والبيضاويون أعطوك أغلبية مريحة لكي يحاسبوك غدا وبطريقة لا لُبْس فيها على حصيلة ولايتك وعمل فريقك. هم يريدون منك أن تكون صارما مع شركة «ليديك» مثلا لا مع «براسري دوماروك»، وهم يريدون منك أن تكون مهندس المدينة لا واعظها. ينتظرون منك أن تحارب الفساد المالي والإداري الذي يضرب إدارة الجماعات والمقاطعات، لا أن تحمل عصا وتتجول مثل المطاوعة في الأحياء والمقاهي لفرض مدونة للسلوك الأخلاقي. إلى الآن لم يصدر عنك أي تعليق، لكن هناك أكثر من جهة تريدك أن تسقط في هذا الفخ، وأن تجرك بعيدا عن المشاكل الحقيقية للمدينة لأن هناك مصالح وامتيازات وشركات وعقودا لا تريد لك أن تضع يدك على ملفاتها…
التصدي لمهرجان «براسري دوماروك»، الذي يريد أن يستفزك وأنت في الشهر الأول لولايتك، عمل من اختصاص المجتمع المدني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المكلفة بإدارة الشأن الديني، وفي البداية والنهاية الأمر يتعلق بضمير كل مواطن أن يحتفل مع براسري أو لا يحتفل، أن يشارك أو يقاطع، أن يؤيد أو يستنكر… هذه البلاد لا تخاف الحرية.. هذه البلاد تخاف الاستبداد…
هل أذكرك، السيد عبد العزيز العماري، بما وقع للجبهة الإسلامية للإنقاذ في أواخر التسعينات عندما فازت بإدارة عدد من المدن والجماعات في الجزائر، وانزلقت، تحت ضغط الحماس والشعبوية وقلة الوعي السياسي، إلى مطاردة «الفواحش ما ظهر منها وما بطن»، وملاحقة النساء في الشواطئ والخمور في الحانات، واتضح فيما بعد أنها قدمت أكبر خدمة للجيش الذي كان معارضا شرسا للإصلاحات الديمقراطية التي كان الرئيس الجزائري السابق، الشاذلي بنجديد، يقودها في البلد، وبقية القصة معروفة…
السيد العماري، لا تسمع للذين يزينون لك الطريق لدخول هذا الغار المظلم المليء بالعقارب، ولا تشغل نفسك بالمعارك الفارغة. عمدة المدينة ليس وصيا على أخلاق المواطنين، وليس إماما يقوم فيهم ناصحا أمينا، وليس قاضيا يحكم فيهم بما أنزل الله أو ما لم ينزل. عمدة المدينة خادم عند القوم، وخادم القوم سيدهم…
الإعلام والمدرسة والمجتمع المدني والمسجد والمسرح والسينما والكتاب والرواية والأنترنت… هي قنوات التوجيه الفكري والسياسي والثقافي والديني في المجتمعات الحديثة، وليس سلطة العمدة أو الوالي أو الوزير أو رئيس الحكومة أو حتى الملك. الديمقراطية المعاصرة فصلت جهاز الدولة كسلطة تحتكر العنف المشروع عن أجهزة وقنوات التأثير في المجتمع وقيمه وتدينه وثقافته وطريقة عيشه. إذا كان لحزب العدالة والتنمية من مشروع ثقافي وقيمي واجتماعي، فإن السلطة ليست هي المكان النموذجي لتصريفه…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سالة مفتوحة إلى السيد العمدة سالة مفتوحة إلى السيد العمدة



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:14 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

اتحاد كرة القدم يكشف رغبة ريال مدريد في ضم محمد صلاح

GMT 04:38 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين سهرة للمحجبات من أحدث صيحات موضة الشتاء
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya