توفيق بوعشرين
هذه بلاد قائمة على ركيزتين؛ ثقة المواطن في بلده وحكومته، وشعوره بالأمان لأن دولة الرفاهية تضمن له الشغل والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وهناك من يسمع له ويحل مشاكله… هكذا لخصت مضيفتنا الدانماركية المكلفة باستقبال الوفود المشاركة في الاحتفالات الكبرى بالذكرى المائة على إعطاء المرأة حق التصويت، تجربة بلادها الصغيرة، حيث يعيش 5.5 ملايين مواطن تعتبرهم جل المنظمات الدولية سعداء…
هنا كوبنهاغن عاصمة الدانمارك، حيث يعيش أكثر من 10 آلاف مغربي، جلهم، للأسف، لا يسأل عن انتخابات ولا عن برلمان ولا عن تأثير في القرار، يأكل ويشرب ويحلم جلهم بالعودة إلى بلادهم يوما ما، لأنهم سافروا إلى شبه الجزيرة الدانماركية، وحملوا معهم ثقافتهم وتقاليدهم وعاداتهم، ولم يفكروا في الاندماج في البلدان التي استقروا فيها لأنهم لم يختاروا الهجرة بل فرضت عليهم…
لا يوجد نفط ولا غاز ولا فوسفاط في الدانمارك، لكن يوجد أغلى من كل هذا.. عقل يفكر، وأيادٍ تعمل، ونظام يمشي وفق الساعة الديمقراطية، وصحافة تحاسب رجال السياسة على الكبيرة والصغيرة، حتى إن جريدة محلية هنا نشرت هذا الأسبوع عدد قنينات الجعة التي شربها وزير على حساب الميزانية طيلة ولايته الحكومية…
سألت المنظمين عن سبب غياب الوزراء الذين توجد أسماؤهم في برنامج الندوة، التي تحتفي بـ100 سنة على دخول المرأة إلى السياسة، فقالوا: «لقد اعتذروا عن الحضور، لأن القانون في هذه البلاد يمنع الوزراء المرشحين للانتخابات من الظهور أو المشاركة في أنشطة حكومية إبان الحملة الانتخابية، لأن هؤلاء سيستفيدون من حضور إعلامي لا يستفيد منه منافسوهم الذين يوجدون في المعارضة، لهذا غابوا عن الندوة التي تنظمها وزارة الخارجية ولم يحضر من يمثلهم»… لماذا؟ قالوا لأن الدولة لا يسيرها سوى الموظفين الآن، أما السياسيون فلا يباشرون أي عمل، حتى إن أعضاء دواوينهم سحبت منهم بطائق الدخول إلى الوزارات، وكلمات سر الدخول إلى قاعدة بيانات المؤسسات الحكومية لأنهم محسوبون على السياسيين وليسوا موظفين، وبالتالي، لا يجوز أن يستفيدوا من امتيازات السلطة أثناء الحملة الانتخابية.
انظروا إلى أي درجة وصلت المساواة بين المرشحين.. تذكرت ما يفعله رؤساء البلديات والمجالس عندنا في أيام الحملة الانتخابية، حيث يبدؤون في تزفيت الشوارع وإنارة الطرق وتوزيع المساعدات في الربع ساعة الأخيرة من ولايتهم، وكأنهم كانوا خارج الدائرة لمدة خمس سنوات ولم يحضروا إلا مع انطلاق الحملة الانتخابية.
يقول المثل هنا في الدانمارك: «دخل أكبر مشاكل أقل»، لهذا يصل معدل دخل الفرد في السنة إلى 40 ألف دولار، ورغم أن الضرائب كبيرة هنا وتصل إلى حوالي 50%، فإن دولة الرعاية الاجتماعية توفر التعليم والصحة والمنحة الدراسية والمساعدات للمواطنين. إذا كنت طالبا تحصل على منحة 600 دولار في الشهر، وإذا كنت عاملا بسيطا وأكل إيجار المنزل أكثر من 30 في المائة من أجرتك، فإن الحكومة تصرف لك مساعدة نقدية لتغطية مصاريف الكراء، وحتى تغطي باقي المصاريف الأخرى…
الدانماركي شخص متعلق بالأرض والتاريخ واللغة، ورغم أن لسانه الدانماركي لا يتحدث به غير 5.5 ملايين إنسان، فإنه حريص على هذه اللغة، ويطورها كل عام، ويدخل إليها مئات الكلمات الجديدة كل سنة، ألا يعيش المرء في لغته…
كوبنهاغن تنام باكرا والمحلات التجارية فيها لا تسهر إلى أكثر من السادسة مساء لأن الدولة تفكر في الوقت الذي يحتاج إليه العمال للجلوس مع أسرهم في المنزل، لهذا، فإن الوجبة الرئيسة هنا هي العشاء، وحول طاولة واحدة في السادسة والنصف أو السابعة يحضر جميع أفراد الأسرة حول الطعام…
الديمقراطية مقدسة، والحرية من ثوابت البلاد، والثقة هي العملة الرسمية، وكل شيء بسيط، والأغلى هو الأعرق. حول قصر الملكة مارغريت الثانية لا توجد أسوار.. قصر مفتوح على الشارع وعلى كاميرات السياح تعبيرا عن سقوط الحواجز بين الشعب والعرش، الذي لم يحتفظ سوى بسلطة رمزية تمثل التاريخ والاعتزاز به. رئيسة الوزراء، اهيلي تورنينج-شميت، التي كادت تفرق أوباما عن زوجته عندما اقتربت منه أكثر من اللازم في جنازة مانديلا قبل سنتين لتأخذ معه صورة «سيلفي»، لا تفتر عن الحركة، والجميع يعرفها تقريبا في العاصمة والمدن الأخرى لأنها سياسية شرسة، وتمضي في الشارع من الوقت أكثر مما تمضيه في المكتب. إنها تقود الحزب الاشتراكي الديمقراطي منذ 2005. اختارت هذه السنة أن تنظم الانتخابات قبل موعدها بعدة أسابيع، ويبدو أن حظوظها وفيرة للعودة إلى رئاسة الحكومة لأن اليمين متعب في الدانمارك هذه الأيام وزعامته بلا كاريزما…
الدانمارك تتبع نظاما رأسماليا هجينا، أو قل اقتصاد سوق صديقا للحقوق الاجتماعية والفقراء والطبقة الوسطى. هنا دولة للرعاية الاجتماعية تصحح اختلالات اقتصاد السوق، وتقلم أظافر الرأسمالية التي انتصرت على الشيوعية لكن غنائمها لم تصل إلى الجميع، لهذا يعيش هذا البلد في وئام، ويسبق دولا كثيرة كل سنة إلى المراتب الأولى لتقرير التنمية البشرية الذي تصدره الأمم المتحدة. فوربيس صنفت السنة الماضية الدانمارك أفضل بلد على مستوى مناخ الأعمال…
40 ٪ من أعضاء البرلمان الدانماركي من النساء، في حين أن المعدل الدولي هو 22٪. هذه هي حصيلة 100 سنة من النضال، حيث لم تصل المرأة الدانماركية إلى هذا التمثيل المشرف إلا بعد أن وضعت سنة 1919 قانون تساوي الأجور بين الرجال والنساء، ثم تبعه سنة 1921 قانون المساواة في ولوج الوظائف العامة والخاصة، باستثناء الجيش والكنيسة، ثم مع حلول سنة 1925 جاء قانون الزواج والطلاق، وأعطى المرأة حق أن تطلق زوجها كما له حق تطليق زوجته، ثم جاء قانون التمييز غير المباشر ضد المرأة سنة 1973، وبعده قانون الحق في الإجهاض، ثم توج كل هذا سنة 1986 بقانون إجازة (عطلة) الأبوة وليس الأمومة فقط، ما يعني أن الأب أصبح مشاركا في رعاية الأطفال بالقانون، ولم تعد رعاية الأبناء اختصاصا نسائيا…
يقولون هنا إن التمييز ضد المرأة مثل جبل الجليد لا يظهر منه إلا جزء بسيط، والباقي لا يظهر… رجاء بلا مقارنات بين هنا وهناك لأن ذلك يسبب صداع الرأس…