إنسان ناعم في مجتمع خشن

إنسان ناعم في مجتمع خشن

المغرب اليوم -

إنسان ناعم في مجتمع خشن

توفيق بو عشرين

اخترت في هذا اليوم، الذي يصادف العيد العالمي للمرأة (8 مارس)، أن أتحدث عن جزء من معاناة هذا الإنسان الناعم في مجتمع خشن. اخترت أن أسلط الضوء على ظاهرة التحرش الجنسي ضد النساء في الشارع والمدرسة والمعمل والشركة والإدارة والحافلة والهاتف والفايسبوك، وحتى داخل البيوت والأسر أحيانا. للأسف، قلة قليلة من النساء اللواتي يرفعن اليوم الصوت ضد هذه الظلم الاجتماعي، وضد هذه الجريمة التي تدمر نفوس الكثيرات، وأحيانا تصيبهن بجروح لا تمحى آثارها من العقول والقلوب… حتى إن نساء كثيرات بدأن يطبعن مع هذه الظاهرة، ويتعايشن معها، وبعضهن يحولن الضحية إلى مجرمة، فيلقين بالمسؤولية على المرأة التي لا تحترم ضوابط معينة في اللباس، والمرأة التي تغري الرجال بفتنتها! وهذا ما يسمى: إدانة الضحية لنفسها عندما تصبح عاجزة عن رد حقها وضمان اعتبارها، فتلوم نفسها على جرم لم ترتكبه.
 قبل ثلاثين سنة، كانت النساء في المغرب يلبسن أكثر تحررا من اليوم، وكان عدد المحجبات أقل مما هو الآن بكثير، وكانت مظاهر التدين أقل، وكان الوعظ والإرشاد أقل، لكن التحرش الجنسي ضد النساء لم يكن بهذه الدرجة من الشراسة والاتساع والتواطؤ، كما هو عليه اليوم. كيف نكون أكثر تدينا وأكثر انحرافا في الوقت ذاته؟  
ظني أن اتساع التحرش بالنساء كـ«سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق جسديا أو نفسيا المرأة ويعطيها إحساسا بعدم الأمان»، في مجتمعنا يرجع إلى ثلاثة عوامل غير التفسير الكلاسيكي للتحرش باعتباره انحرافا أخلاقيا فرديا وقلة تربية من شخص غير سوي.
أولا: تؤكد الدراسات النفسية أن الجرائم الجنسية لا ترتكب دائما بغرض إشباع الشهوة، فالتحرش الجنسي، مثلا، كثيرا ما يرتكبه الرجال كوسيلة للانتقام من المجتمع، أو للتنفيس عن الغضب أو الإحباط أو الإحساس بالدونية لدى المتحرش، فتصير المرأة في الشارع أو في البيت هي المتنفس أمام هذا الذكر المحبط واليائس، وبعدها يصير الأمر شبيها بالإدمان الذي يعطي صاحبه وهم أنه ناشط جنسي أكثر من غيره، وفحل أكثر من الآخرين، وله مواهب خاصة في اصطياد البنات، أو بالأحرى في الاعتداء عليهن.
ثانيا: إن انتشار الأفلام الإباحية وسهولة الوصول إلى مادتها، بسبب الأنترنت وتكنولوجيا الاتصالات، يخلف أضرارا كبيرة على نفسيات الشباب وسلوكهم تجاه المرأة… ضرر انتشار المواد الإباحية على الشباب لا يقف عند إثارة الغرائز، وجعل الجنس بضاعة بدون إحساس ودون مشاعر. أكثر من هذا، المادة الإباحية وصناعة البورنوغرافيا ترفع الاحترام عن العلاقات الجنسية، وتجعل من جسم المرأة بضاعة يمكن أن تمتد إليها يد الرجل بسهولة حتى دون إحساس بالطابع الجرمي للتحرش، مادامت عقول الشباب مملوءة بالجنس الإباحي المحيط بهم، ومادام المجتمع يتسامح مع المتحرش، بل ويلتمس له العذر أحيانا كثيرة، فإن التحرش يصبح جريمة آمنة من كل عقاب.
ثالثا: انتشار القراءة السلفية والوهابية المنغلقة للدين الإسلامي في المغرب نتيجة اتساع قاعدة السلفيين بالمملكة، ونتيجة انتشار القنوات الدينية والمواقع الممولة من الخليج، هذه القراءة الحرفية للدين بعقلية بدوية لها مشاكل كبيرة مع المرأة، فهي لا ترى للنساء من دور إلا كونهن أداة متعة، أو مصدر غواية، أو آلة لإنتاج الأطفال، أو خادمات في البيت، ولهذا يكبر الشاب في جو ثقافي و«ديني» لا يعطي قيمة للمرأة، ولا يستحضر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معها في البيت والمسجد، وفي السلم والحرب، وفي أمور الدين والدنيا. يكبر شبابنا اليوم في وسط لا يكن احتراما عميقا للمرأة، ومن ثم تدفعه هذه النظرة الذكورية المغلفة بغشاء ديني إلى استسهال الاعتداء الجنسي عليها مادامت أقل إنسانية من الذكر، ونظرا إلى أن التمييز ضدها ليس مجرما قانونا ولا عرفا ولا ثقافة.. تمنع السلطات في السعودية المرأة من السياقة ليس خوفا عليها من السيارات الأمريكية والكورية والألمانية.. لكن لتمنع المرأة من الحركة والعمل والتنقل والاندماج، ومن ثمة احتمال أن تخرج عن سيطرة الرجل وتحكمه بها وبمصيرها، وللأسف، السلطات السعودية تساير المؤسسة الدينية هناك، بل وتشجعها على تصدير هذا النموذج إلى البلدان العربية الأخرى. هذه المؤسسة الوهابية هي نفسها التي تصدر إلى المغرب الدعاة والكتب والأشرطة والقنوات الدينية والفتاوى المعلبة التي يروجها هذا الفكر الذي أصبحت له علامات بارزة في الثقافة الدينية والواقع المغربيين. الفكر الوهابي يخاصم المغاربة مع نمط تدينهم البسيط والعميق في الوقت نفسه، فالتدين السلفي المنغلق يفصل المظاهر عن الجوهر، والمقاصد عن النص، والإنسان عن الواقع، ولهذا يتناقض هذا الفكر مع المدرسة المغربية في التدين التي تربط الدين بالمعاملات، والشعائر بالقيم، والطقوس بالأخلاق، والإنسان بالبيئة، وفي الأخير تردد هذه المدرسة الحديث النبوي الشريف: «الدين المعاملة».
هذا ورش كبير مفتوح لإنصاف المرأة في مجتمعنا، والبداية من القانون، والنهاية بالتربية والتوعية والتأهيل والتحسيس في المدرسة والتلفزة والأنترنت. لا أعرف ما السبب الذي جعل الحكومة تجمد مشروع قانون مناهضة العنف ضد النساء، الذي سيساعد على تطوير منظومة حماية المرأة في مجتمعنا، خاصة إذا تبعته شرطة خاصة ومؤهلة لملاحقة المتحرشين وأعداء الجنس الناعم في المجتمع الخشن.. ستكون «سبة» في وجه الحقاوي إذا غادرت منصبها دون أن يرى هذا القانون النور.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنسان ناعم في مجتمع خشن إنسان ناعم في مجتمع خشن



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 05:15 2018 الأربعاء ,25 تموز / يوليو

واتساب يضيف ميزة نالت إعجاب مستخدميه

GMT 02:06 2018 الخميس ,12 تموز / يوليو

سعر ومواصفات "كيا سبورتاج 2019" في السعودية

GMT 23:49 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

وفاة أب وإبنته غرقا في نهر ضواحي جرسيف‎

GMT 23:59 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

معلول يؤكد أهمية فوز المنتخب التونسي على بنما
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya