إدريس الكنبوري
خلال هذه الأيام، تحل الذكرى الرابعة لانطلاقة شرارة الربيع العربي من تونس، عام 2011، وهي المناسبة التي سيختلف فيها التقييم وسط الباحثين والخبراء وأصحاب القرار حول مآلات الربيع العربي ونتائجه، بعد انقضاء أربع سنوات على اندلاع شرارته الأولى، وما إن كانت الشعوب هي التي ربحت أم إن الفوز عاد إلى الأنظمة، وما إن كانت رياح الربيع قد انتهت إلى غير رجعة أم إن هناك عاصفة تمشي ولا بد أن تصل.
لقد أثار الربيع العربي نقاشات كثيرة انصبت على المجال السياسي، خصوصا لأنه كان مناسبة تاريخية سنحت للإسلاميين في عدد من البلدان للاستفادة من نصيبهم في السلطة، بعد عقود طويلة من سعيهم إليها دون جدوى. ويمكن التمييز هنا -سريعا- بين ثلاثة نماذج تصلح لأنْ تكون قاعدة تحليلية: النموذج الأول تمثل في الشراكة العامودية بين الإسلاميين والدولة، ومثاله المغرب؛ والنموذج الثاني يتمثل في الشراكة الأفقية بين الإسلاميين والمجتمع السياسي، ومثاله تونس؛ والنموذج الثالث يتمثل في القطيعة بين الإسلاميين والدولة، ومثاله مصر.
إلا أن المجال الديني لم يستقطب اهتماما يناسب الحجم الذي أعطي للمجال السياسي، فقد انصب جل التركيز على عملية الانتقال التي مست الفاعل السياسي، دون التركيز على عملية الانتقال التي همت الخطاب الديني وأدخلته عصرا جديدا غير مسبوق، بحيث يتعين الحديث عن ربيع عربي ديني، وليس فقط عن ربيع عربي سياسي عصف بأنظمة حاكمة.
شكل الربيع العربي مناسبة لتفجير الخطاب الديني الإسلامي من أساسه على أكثر من صعيد، سواء على المستوى الفقهي أو على المستوى الاعتقادي. على المستوى الفقهي، كان الشيخ يوسف القرضاوي جريئا في وصف التونسي محمد البوعزيزي، الذي انتحر بإشعال النيران في جسده احتجاجا، بكونه شهيدا. وقد كان الشيخ القرضاوي في هذا الرأي سياسيا أكثر منه فقيها، لأن المنطلق الذي بنى عليه رأيه نظر إلى ذلك الحدث باعتباره نقطة الانطلاق للربيع العربي من أجل تحقيق طموحات التغيير. وعلى الرغم من أن هناك بعض القواعد الأصولية التي يبني عليها الفقهاء أحكامهم في مثل هذه القضايا، من مثل «ما بني على باطل فهو باطل» و»الضرر لا يـُزال بمثله»، فإن الشيخ القرضاوي غلب القاعدة المقابلة التي تقول إن الضرر الخاص يحتمل من أجل دفع الضرر العام. وعلى الرغم من أن عمومية تلك القاعدة تصلح للانطباق على أي نازلة، فإن القول بتجويز الانتحار وإدخاله تحت تلك القاعدة شكل أهم عنصر في موقف القرضاوي، لأن الانتحار عـُدَّ دائما خطا أحمر في الشريعة.
وقد مهد ذلك الرأي لموقف جديد في الفقه، سعى إلى محاولة تطبيع الفقه مع ظروف الربيع العربي، وهو الموقف من مفهوم الثورة؛ فعلى امتداد عقود طويلة ظل الإسلاميون والفقهاء ذوي حساسية مفرطة من المصطلح، المحمل بحمولة أوربية، لكون الثورة قرينة «الفتنة» في المصطلحات الفقهية والشرعية المتداولة؛ ذلك أن كلمة ثورة، كما طبقت في جميع الدول الأوربية، كانت تعني التغيير الجذري الذي يرافقه الدم والقتل والتدمير، ولذلك كان الموقف منها ذا حساسية دينية واضحة. كما أن هذه المحاولة لتطبيع كلمة الثورة في الفقه كانت تدل بوضوح على الاعتراف بغياب النخبة أو الطليعة، سواء كانت من العلماء أو من رجال السياسة، لأن «الثورة» تعني سلطة العامة في التغيير؛ وفي تاريخ الإسلام ارتبطت سلطة العامة بالفتنة والحرابة أو الفوضى، لذلك كان هذا التسويغ بمثابة تأكيد على ضرورة اللجوء إلى الشارع في غياب الوسيط بين الشارع والسلطة.
أما على المستوى الاعتقادي، فقد شهد "الربيع العربي الديني" فورة لا سابقة لها من حيث معدل إصدار الفتاوى الدينية ذات الطابع السياسي أو المتأثرة بالمواقف السياسية المتقابلة. ومثلت مصر نموذجا صارخا بسبب الصراع الذي ظهر بين الإخوان المسلمين والمؤسسة الدينية، من جهة، وبينهم وبين السلفيين، من جهة ثانية، ثم بين السلفيين بعضهم بعضا، من جهة ثالثة. وفي الجانب المقابل، تفجرت مجموعة من المواقف الشرعية المتعارضة داخل الجهاديين في العالم العربي في مواجهة بعضهم البعض، وخصوصا في سوريا والعراق بعد ظهور ما يسمى «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق»، إلى جانب المواقف الشرعية الأخرى الصادرة عن الجماعات الجهادية تجاه الشعوب والأنظمة.
أظهر «الربيع العربي الديني» مجموعة من الدروس الهامة التي تفيد في دراسة الحالة الإسلامية بشكل عام؛ وأول تلك الدروس أن الإسلام، الذي كان ينظر إليه في الماضي القريب باعتباره دينا واحدا مشتركا بين الجميع، ليس كذلك في الواقع السياسي والاجتماعي، فهو يأخذ الاتجاه الذي يتخذه صاحب الدعوى، بدل أن يتخذ صاحب الدعوى الاتجاه الذي يأخذه الإسلام، وأن الدين يمكن أن ينقسم بالتناسب مع الانقسامات في المواقع السياسية أو الاجتماعية. وفي واقع الأمر، ما حصل يعيد طرح بعض القضايا الجوهرية التي كانت تستند إليها سوسيولوجيا الدين في الغرب: هل الدين معطى ثابت أم معطى متغير، يسير وفقا للاجتماع البشري ويتحول مع الثقافة والموقف السياسي والطبقة الاجتماعية؟
"المساء"