ادريس الكنبوري
خطوة مهمة تلك التي أقدمت عليها حركة"ضمير" عندما عقدت في الأسبوع الماضي ندوة دولية حول سؤال الحرية والدين، وذلك بمناسبة قرب انعقاد المنتدى العالمي لحقوق الإنسان بالمغرب؛ فقد كان من شأنها أن تطلق نقاشا عموميا حقيقيا وعميقا حول هذه القضية، لكن الذي حصل هو العكس. فإذا كانت المناسبة شرطا، كما يقال، فإن عقد الندوة على هامش هذا الحدث جاء بهدف سياسي بالدرجة الأولى، الأمر الذي أفرغها من مضمونها العلمي، وجعلها تنكب على مقاربة للموضوع باتت اليوم مقاربة كلاسيكية تقريبا. لقد كان عصر الأنوار الأوروبي، الذي ركز عليه كل من الأستاذين هاشم صالح ورشيد بن زين بوجه خاص، مرحلة مفصلية في قضية حرية الاعتقاد في العصر الحديث، ولكن الوقوف عنده يعني أن العالم لم يتطور وأننا ما زلنا نضع أقدامنا في القرن الثامن عشر، وفي فرنسا بالذات، بينما الندوة عقدت في المغرب الذي يوجد في العالم العربي.
سبق لعبد الله العروي، في معرض انتقاده للنخب الفكرية العربية خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، أن وصف ميلها إلى الاقتباس العشوائي من الغرب بوصف لاذع، هو"حرية العبيد"، فهي تعتقد بأنها تتمتع بالحرية الفكرية اللازمة لإعادة النظر في مجموعة من القوالب الجاهزة، لكنها لا تجد بديلا عما يقدمه لها الفكر الأوروبي؛ فهي حرة في الاختيار، لكنه اختيار مشروط بالفكر الأوروبي.
الفهم التقليدي لحرية الاعتقاد، خصوصا في عالمنا العربي حيث الدين جزء منا، يضع معادلة بسيطة للغاية، ومن ثم يسهل حلها بكل بساطة. هذه المعادلة هي أن الدين ـ بشكل عام ـ عدو لحرية الاعتقاد، فالحل إذن هو التضحية بالدين نصرة لحرية الاعتقاد. ومن الناحية الفلسفية، تنتمي كلمة"الدين" وعبارة "حرية الاعتقاد" إلى حقل الإيمان نفسه؛ فكلمة"الدين" تتضمن الإيمان بدين، لكن عبارة"حرية الاعتقاد" تتضمن هي الأخرى الإيمان بدين، فقط تضيف إليه شرط الحرية، التي تُخرج الإكراه. والاعتقاد الشائع لدى جزء كبير من النخبة التي تتطرق إلى مثل هذه القضايا، مثل أستاذنا هاشم صالح، أن مفكري عصر الأنوار الذين دافعوا عن حرية الاعتقاد كانوا غير متدينين أو ملاحدة، وهذا غير صحيح إلا بالنسبة لعدد قليل جدا منهم. فهؤلاء لم يحاربوا الدين ولكنهم حاربوا الكاثوليكية، لأنها كانت رمز الاستعباد ودين السلطة؛ وكبار المفكرين الأوروبيين الذين درسوا الدين كانوا من البروتستانت، لأن البروتستانتية كانت مذهبا تنويريا من داخل الدين في زمنها؛ وعندما كتب ماكس فيبر كتابه الشهير عن علاقة البروتستانتية بالرأسمالية فهو لم يفعل شيئا سوى أنه قال بأن الدين محرك للتاريخ والاقتصاد، لأنه كان بروتستانتيا متدينا، وكان يريد نصرة مذهبه. ويستقيم مع هذا الكلام ذلك الخلط الذي نجده عند الإسلاميين وغيرهم، وهو أن العلمانية شقيقة الكفر، بينما هي كانت أداة إجرائية ضرورية لنزع القداسة الدينية عن السلطة، أو قل إنها كانت كفرا بدين السلطة، لا كفرا بالدين إجمالا.
أنصار هذه المقاربة الكلاسيكية لمسألة حرية الاعتقاد يضعون أنفسهم في خصومة مع الدين نفسه، لا مع المؤسسة الدينية، الأمر الذي لم يحصل حتى داخل الغرب، اللهم من بعض الغلاة المسيحيين أو اليهود، الذين ضاعفوا من ثورتهم على الدين مع الماركسية بعد ذلك. فالإشكالية في العالم العربي والإسلامي مختلفة تماما. وخلافا لمن يدعي ـ جهلا أو جحودا ـ بأن العرب لم يعرفوا هذه الإشكالية فقد عرفها الفقهاء وكتبوا عنها الشيء الكثير، ولكن تناولها عندهم كان يتم تحت عنوان"الاختلاف"، وليس حرية الاعتقاد، لأنهم عاشوا فترات من التاريخ تم فيها التعسف على الناس باسم اختلاف المذاهب، بل وصل الأمر أحيانا إلى حد الإبادة كما جرى بين الحنابلة والأشاعرة، أو بين المتصوفة وأهل الحديث، ومثال ما حصل في عصر المأمون في محنة خلق القرآن مثال مشهور لدى الجميع.
في زمن تعددت فيه التنظيمات الدينية، السلفية وغير السلفية، ووصل بعض هذه التنظيمات إلى الحكم وبعضها الآخر قد يصل إليه مستقبلا، وصار لكل واحد مرجعية نظرية باسم الدين نفسه، وحتى قائمة بالعقوبات والمحرمات، فإن المعركة الحقيقية التي يجب فتحها ليست معركة حرية الاعتقاد، بل"الحق في الاعتقاد". لقد أسس التنويريون في أوروبا ثقافة التسامح وحرية الاعتقاد من داخل المسيحية نفسها، لا من خارجها، بينما نريد نحن اليوم أن نؤسس لها من خارج الإسلام، وهذا أكبر خطأ إبستيمولوجي يسقط فيه أنصار حرية العقيدة الذين يعتقدون أنهم يأخذون من أوروبا المنهج فقط، بينما هم يأخذون مع المنهج حتى الثقافة التي صدر عنها، لذلك يسهل القبض عليهم من طرف التنظيمات الدينية المتطرفة. والفرق بين "حرية الاعتقاد" و"الحق في الاعتقاد" أن حرية الإنسان في الإيمان ليست أمرا صادرا عنه باختياره بسبب نضجه الحضاري أو الثقافي، بل هو حق يخوله الدين نفسه، قبل أن يتقرر في الثقافة السياسية أو الاجتماعية أو الفلسفية.
بالنسبة إلى الإسلام، فالأمر محسوم سلفا بمقتضى النص، لكن المشكلة طرحت مع الفقه أو"السلطة الفقهية" التي وضعت نفسها سلطة إلى جانب سلطة أصلية، هي سلطة النص، ثم صارت هي السلطة المركزية مع تطور ونمو سلطة ثالثة هي السلطة السياسية، التي كيفت السلطة الفقهية بحسب مزاجها، لكي يتم نسيان السلطة الأولى الأصلية، التي هي النص؛ وهكذا فنحن اليوم ـ العقلية الجماعية ـ عندما نتعرض إلى قضية الحق في الاعتقاد لا نتعرض لها بإزاء السلطة الأصلية، بل بإزاء السلطة الفقهية، وحين يريد أحد إشهار النص دفاعا عن هذا الحق، يتم إشهار الفقه في وجهه.
لا نريد هنا الخوض في تفاصيل أوفى، وندع ذلك إلى مناسبات أرحب، لكننا نكتفي بالإشارة فحسب إلى أن إجماع المسلمين على أن الإسلام جاء بعد تحريف اليهودية ثم المسيحية لا يعني شيئا إذا لم يتم وضع ذلك في سياقه التاريخي، أي في سياق احتكاك الدينين المذكورين مع الواقع. يقال اليوم إن محاكم التفتيش ظهرت في أوروبا خلال القرون الوسطى، التي سميت بعصور الظلام نظرا إلى عسف الكنيسة؛ فقد كانت السلطة الكنسية تحاسب الناس على إيمانهم، الذي هو أمر شخصي، وكان يجري عكس التراتبية الاجتماعية على التراتبية الدينية في سلم الإيمان، حسب لوائح الكنيسة. لكن لو تأملنا الأمر من زاوية أخرى لاكتشفنا بأن مبدأ التفتيش على العقائد ظهر قبل ذلك بقرون عدة في اليهودية ثم في المسيحية، لأنه لا يمكن فهم التركيز القرآني على الحق في الاعتقاد إلا بالنظر إلى هذه التجربة التاريخية للدينين السابقين، وهي تجربة مفصلة في القرآن بشكل أوسع، إذ جوهر الدين يقتضي عدم الإكراه على الإيمان. ومن هنا الخطأ الشائع الذي يقول بأن اليهودية والمسيحية لا تعترفان بالحق في الاعتقاد، لأن هذا القول مبني على واقع النص المحرف، لا على واقع النص في ذاته، وهذا واحد من المعاني الكثيرة للآية "لا إكراه في الدين"، لأن المقصود هنا ليس الإسلام فقط، بل مطلق الدين؛ فكأن الآية فيها انتقاد للإكراه الذي حصل في الدينين السابقين، وتأسيس للحق في الاعتقاد في الدين الجديد.