أزمة تعليم أم أزمة شُعَب

أزمة تعليم أم أزمة شُعَب؟

المغرب اليوم -

أزمة تعليم أم أزمة شُعَب

ادريس الكنبوري

لا يختلف إثنان في بلادنا حول وجود أزمة في التعليم، لكنهما لا يختلفان أيضا حول استمرار التخبط في تشخيص هذه الأزمة طيلة العقود الماضية. وأكاد أزعم أن ليست هناك أزمة ـ من بين الأزمات الكثيرة التي نعيشها في دولة ما بعد الاستقلال ـ تخضع للكثير من النقد وعمليات التشخيص وفي نفس الوقت تظل مستمرة، بل وتستفحل عاما بعد آخر، سوى الأزمة التعليمية.
والتصريحات التي جاءت على لسان وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، الحسن الداودي، حول رؤيته لهذا الأزمة، هي جزء من الأزمة لا جزء من الحل، بمعنى أن السيد الوزير تعامل مع هذه القضية بعقلية مأزومة هي نتاج الأزمة التعليمية ذاتها التي تربى في أحضانها، والحال أن من يريد التصدي للأزمة عليه أن يحاول أولا الارتفاع عنها حتى يمكنه رؤيتها بوضوح.
لقد كان الداودي قاسيا في جلد ظهور خريجي الجامعات، خصوصا الشعبة الأدبية التي لم يقصر في انتقادها، بسبب ما رآه إقبالا واسعا للطلبة عليها، وبسبب عدم التوازن بينها وبين الشعب العلمية. ورغم ما في هذا الكلام من صواب، إلا أن صدوره عن المسؤول الأول في الحكومة على القطاع يجرده من صوابه، لأن المفروض فيه أن يبتكر الحلول لا أن يكتفي بالوصف، إذ إن وصف الأزمة التعليمية مهمة انتهت منذ زمن بعيد، وقام بها خريجو الشعب الأدبية ذاتها، أي الباحثون والمفكرون. وهذه أولى أوجه الأزمة في قطاع التعليم بالمغرب: أن المسؤولين وأصحاب القرار لا ينتبهون إلى ما يؤلفه الباحثون الجادون، ويضربون صفحا عن مخرجات البحث العلمي في بلادنا، على قلته، ثم إنهم بعد ذلك يشتكون من الفجوة بين الجامعة ومحيطها، في مفارقة غير مقبولة.
وما ورد على لسان الوزير ظلم من شقين، ظلم للشعب الأدبية وظلم للشعب العلمية على السواء. وتفسير الأمر أن الشعب الأدبية ليست الأدب العربي فقط، بل أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والدراسات الإسلامية، أي المعارف التي تصنع حضارة الشعوب وترتقي بثقافتها. وهذه المعارف ـ لسوء الحظ ربما ـ هي التي تشكل مرآة الدول والحضارات، ومنها يتخرج أكثر من تسعين في المائة من مفكريها وفلاسفتها وشعرائها، ومن هذه الزمرة تصاغ صورة الأمم. فنحن نعرف فرنسا بفيكتور هيجو وإسبانيا بسرفانتس وبريطانيا بشكسبيير وألمانيا بغوته وكولومبيا بماركيز والهند بطاغور، وقس على ذلك. ثم إن المفكرين الكبار الذين غيروا الحضارات وأنتجوا النظريات والأفكار لم يكونوا سوى من خريجي هذه الشعب، لكن إذا كانت من شكوى توجه إلى هذه الشعب عندنا فليس لأن الناس يقبلون عليها بل لأنها لا تخرج لنا من نفخر بهم، ولماذا لا يخرج قسم الأدب أدباء وقسم التاريخ مؤرخين وقسم الفلسفة فلاسفة وهكذا.
إن الأزمة التي تعيشها هذه الشعب ليست أزمة الكم ولكن أزمة الكيف، أي أزمة مناهج التدريس التقليدية المسيطرة. وإذا شئنا الدقة فإن صعوبة التغيير في هذه الشعب أكثر منها في الشعب العلمية، ذلك لأنها توجد في تماس مباشر مع الثقافة السائدة في المجتمع والبنيات التقليدية في الدولة، ويكاد يكون التغيير في مناهج تدريسها نوعا من الثورة داخل هذه الثقافة السائدة، لأن المهمة المناطة بها إلى الآن هي إعادة إنتاج هذه الثقافة وتكريسها ومنحها المشروعية"الأكاديمية". ولذلك بدل انتقادها يجب انتقاد المنظومة بكاملها، أما الاكتفاء بلوم الطلبة لأنهم يقبلون عليها فهو الكلام العادي الذي يمكن أن يصدر عن أشخاص يريدون تزجية الوقت في صالون حلاقة.
أما لماذا تشكل تلك التصريحات ظلما للشعب العلمية فلأن البنيات والشروط الواجب توفرها لاحتضان البحث العلمي الدقيق غير موجودة أصلا، حتى نحاكم الطلبة على أوضاع هم غير مسؤولين عنها. أعرف طلبة من جيلي الدراسي كانوا آية، لكن رحلة طلب العلم في الشعب العلمية انتهت بهم إلى العمل مدرسين في مدارس قروية لا ماء فيها ولا شجر، وندموا على تعب السنين. فمن نلوم إذن، أهؤلاء الذين قضوا زهرة عمرهم في مراودة بحث علمي لا وجود له؟ أم أولئك الذين يقبلون على الشعب الأدبية، طالما أنهم جميعا سيلتقون في القرية؟.
بد أنه إن كانت الحكومة فعلا تشتكي من عدم الإقبال على الأقسام العلمية، بحسن النية، وتريد أن تقنع الطلبة بالتوجه إلى هذه الأقسام، فما عليها سوى أن توفر بنيات الاستيعاب وتبدأ من الآن في استقبال الطاقات العلمية المهاجرة في أوروبا، وهي طاقات جاهزة، بدل الانتظار سنين قادمة. هناك طاقات مغربية هائلة أتيحت لها فرصة الهروب إلى الخارج لأنها وجدت أن ما تعلمته لن تستطيع استثماره في بلادها، والحل العملي أن توفر لها الظروف للعودة، اللهم إن كانت الحكومة تريد تقديم تشخيص لمرض التعليم من باب الاستهلاك السياسي، مع أننا لا نرى ذلك ممكنا في الوقت الذي يقول فيه نفس الوزير إن ميزانية البحث العلمي هي واحد في المائة. إنها تناقضات غير مقبولة ونحن في شهر الصيام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أزمة تعليم أم أزمة شُعَب أزمة تعليم أم أزمة شُعَب



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya