يوميات روسيا9

يوميات روسيا..9

المغرب اليوم -

يوميات روسيا9

سان بتيرسبورغ
بقلم يونس الخراشي

ليست هذه مدينة. هي شيء آخر تماما. هي متحف مفتوح. أو ربما هي ملحمة. أو لعلها باليه كبير يشارك فيه السكان والوافدون على وقع موسيقى غير متفق عليها. بل قل تشارك فيه حتى الشمس والبحر. كل شيء يبتسم. وكل شيء يتحرك. وكل شيء يغري بالانطلاق. إنها سان بتيرسبورغ. عاصمة الثقافة الروسية. وعاصمة القياصرة وزعيم البلاشفة والحرب، والانبعاث أيضا.

أخيرا، ها نحن نستريح بعض الشيء. تركنا أمتعتنا عند المكلفة بالفندق، بما أنه كان علينا أن نغادر في الثانية عشرة. ابتسمت وقالت:"ضعوها هنا بجانبي. متى ما عدتم ستجدونها رهن إشارتكم". وانطلقنا نكتشف المدينة، ونقتني بعض الأغراض. إلى اليمين حيث الشارع الطويل الضيق يفضي إلى شارع فسيح. ومن هناك إلى اليمين حيث لا ندري، وحيث كل شيء يغري. ثم إلى الفضاء المفتوح من حولنا. 

بنايات بعمران أوروبي تقليدي خالص. باريس بعض الشيء. يشبه بنايات وسط مدينة الدار البيضاء التي بنيت في عهد الماريشال ليوطي، في بعض تفاصيله. عمارات بطوابق معدودات، وزخارف خارجية باذخة، ونوافذ كبيرة، وسقوف بقرميد لكي ينهمر منه المطر في أيام الشتاء. يعبر الترامواي القديم جدا بتأن عجيب، وتعبر الحافلات، وتعبر السيارات، ولا يعبر الهدوء مطلقا. 

الشوارع فسيحة جدا، ومعدة بأسفلت لا ثقب فيه أو حفر. وطوار كبير يتيح للمارة، وهم كثيرون للغاية، مكانا يعبرون منه، كل في الاتجاه الذي يرغب فيه. على أن أهل المدينة بدوا مرحبين جدا بالأجانب ممن جاؤوا لكي يتابعوا مباريات كأس العالم بملعب سان بتيرسبورغ.

الابتسامات توزع يمينا ويسارا، مثل ندف موسكو البيضاء التي تطير في الهواء. وكل يبادر للمساعدة.

عبرنا الطريق في الاتجاه الآخر، عسانا نكتشف شيئا آخر.

وإذا بنا أمام "قرية سياحية صغيرة".

بناؤها بسط جدا.

تتضمن عمارات كأنه غادرها محاربون للتو.

جدران غير مجهزة، وأدراج قديمة، وصغيرة.

حوانيت في كل مكان، بعضها لبيع المأكولات، وغيرها لبيع الملابس، وأخرى لبيع أدوات التزيين.

وفي السطح حديقة؛ أي نعم، حديقة رائعة ليطل منها الناس على المدينة من فوق. 

كان مغربي يعيش في روسيا قد نصحنا بالصعود إلى هناك.

التقينا به صدفة، ونصحنا.

وإذ كنا في السطح، إذا بنا نكتشف، مرة أخرى، طريقة بسيطة يربح بها هؤلاء القوم مالا وجمالا.

فكي تلج إلى السطح، الذي هو عبارة عن ألواح خشبية وضعت بعناية على أرضية عادية كي تبدو أنيقة، وعلى بعضها عشب صناعي، يتعين عليك أن تدفع مقابل ذلك.

بدت سان بتيرسبورغ، من هناك، كطلفة تحمل مرآة في يوم العيد.

تلك المرآة تعكس أشعة الشمس.

ونحن يروقنا المنظر كله.

نعم هناك عمارات بطوابق كثيرة جدا، وقباب ذهبية عجيبة لكنائس في كل مكان.

وهناك شوارع فسيحة، وأناس يتحركون مثل جيوش، بانضباط محير للغاية. القانون يصنع الجمال أيضا.

والخضرة حيثما وليت الوجه والنظر.

قرر الزملاء أن يجربوا جولة سياسة مقسمة إلى قسمين، أحدهما عبر الحافلة والآخر عبر الباخرة.

وفضلت العودة إلى الفندق.

كنت متبعا حقا، ومتعبا أكثر من ذلك الجمال الباذخ الذي فاق كل حد.

وإذ نحن نتجه إلى حيث يمكن العثور على الحافلة السياحية، إذا بنا نلتقي بشباب روس يستوقفوننا.

سألنا أحدهم:"من أي البلاد أنتم؟". قلنا له:"من المغرب". قال:"مزيان".

وانطلقنا، هذه المرة، في حديث بشجون.

سألناه، بعد أن تكلم معنا بالدارجة المغربية، كيف تعلمها؟ ففاجأنا بقوله:"تعلمتها لأنني أردت ذلك.

ليس معي طلاب مغاربة في الكلية.

ولم أسافر قط إلى المغرب.

تعلمت بالمراسلة الشفهية".

كان يتحدث ببطء، ويضغط على الحروف، ويخرج الكلمات من جوفه.

غير أنه كان يوصل المعنى؛ بل قل يوصل الكلمات بمعانيها المراد.

وضحكنا كثيرا في تلك اللحظات.

طلب صورة، واستجبنا.

ثم ودعنا بالدارجة، وواصلنا الطريق.

في لحظات تالية، وقد اتخذ الزملاء طريقهم واتخذت طريقي، استرقت النظر، غير ما مرة، إلى المحلات الموجودة في الشارع الضيق، شارع الكرنفال الصاخب.

كانت المقاهي صغيرة، بامتدادات على الأرصفة، غير أنها راقية جدا، وموضبة بطريقة ذكية، وفيها تجانس، وانسجام كبير مع محيطها.

هل قلت محيطها؟

نعم، وهو محيط تلخصه تلك اللوحات والزخارف والمنحوتات المعلقة على مدى الطريق، في الشارع الضيف الصاخب.

وكأني بنفسي كنت أمشي في رواق لمعرض فني كبير.

تعبت من النظر؛ تعبت لأنني كنت أستعد للكتابة عن سان بتيرسبورغ، وهناك أشياء كثيرة تملأ ذهني، فمن أين أبدأ؟ وهل أكون مخطئا في حق القارئ إن لم أنقل له كل ما رأيت؟ وكيف أكتب عن جمال الناس هنا؟ كيف أنقل ابتساماتهم التي تشفي؟ وأنى لي أن أصور جمال المعمار؟ 

شيء آخر أخذ بلبي.

إنه الرصيف.

كان يبعث المتعة أثناء المشي.

فهو ممهد بطريقة تجعله يدغدغ الرجلين.

على الأقل هذه المرة مشيي لم يكن متعبا؛ أو لعله كان متعبا وممتعا في آن، أو لنقل كان ممتعا بحيث يذهب التعب في حينه.

وإذ وصلت باب الفندق، وهو أشبه بباب خلفي لمستوصف، عدت أنظر إلى الشارع كي لا يفوتني أي تفصيل يمكنني أن أنقله إلى القارئ.

لاحظت شيئا آخر، هناك خيوط كثيرة في سماء المدينة.

تساءلت:"لم كل هذه الخيوط؟ الهاتف؟ لا يمكن.

الكهرباء، مستحيل. لماذا إذن؟ لست أدري. ولكنها تجعلنا إزاء استوديو لفيلم هوليودي قديم، وليس مدينة تستقبل كأس العالم".

وجدت بعض البنائين، جاؤوا من جمهوريات اتحادية تابعة لروسيا، يشتغلون على الجدران والأدراج.

قلت:"السلام عليكم"، فسمعت:"وعليكم السلام".

وبشت الوجوه.

كان منظرا عجيبا.

سألتهم، فقالوا إنهم مسلمون، جاؤوا من بعيد كي يشتغلوا في البناء.

وقلت لنفسي:"لا شك أن مثل هؤلاء لا يهمهم جمال سان بتيرسبورغ.

الذين يبحثون عن الخبز دائما ما لا تثيرهم الأشياء المثيرة لـ"سائح مثلي".

شعرت بالتعب مجددا وقد كنت أقتعد كرسيا وتيرا يفصلني عن الاستقبال بمتر أو متر ونصف.

طلبت من شابة مكلفة بالنظافة، تلبس وزرة زرقاء، أن تدلني على المرحاض. توضأت، وصليت في المكان الضيق.

أما وقد رحت أكتب جملا للشكر في كتاب وضع لذلك، فقد شعرت بمن يراقبني.

كانت الفتاة نفسها. قالت:"هل تكتب بالعربية؟".

قلت:"نعم، أنا عربي".

قالت:"وأنا مسلمة".

وحين سألتها عن الفاتحة لم تعرفها.

قالت إن والدها وأمها في البعيد يصليان، أما هي ففي بعض الأحيان.

وبعد أن أرحت رأسي على الحائط خلفي، وأغمضت عيني، شعرت بتربيت خفيف على كتفي.

فوجدت الفتاة، مرة أخرى.

جاءت تحمل وسادة. ماذا قالت؟ "يمكنك أن تتمدد".

وفهمت، غير بعيد، أنها تطلب من زميلتها الشقراء أن تتحدث بصوت منخفض، لأن هذا الأجنبي متعب، ويتعين أن نتركه يستريح.

لم يطل مقامي كذلك.

بدأت أعد للرحيل من سان بتيرسبورغ نحو موسكو.

كان يتعين أن نخرج في جولة أخيرة وقصيرة. وهل يملك المرء أن يصف جولاته في مدن كهاته إلا بالقصيرة؟ هناك أشياء كثيرة تستحق المشاهدة، ولكن الوقت لم يكن يسمح.

اقترح بعض الزملاء أن نمضي مزيدا من الأيام في المدينة الجميلة.

كان الاقتراح جميلا ويدغدغ المشاعر، غير أن ما لدينا من مال لا يكفي في ما نريد.

وقطعنا الشك باليقين، علينا أن نعود الليلة إلى العاصمة موسكو.

هناك عمل كثير ينتظرنا.

فقد اختارت الجامعة تهريب المنتخب إلى فورونيج البعيدة، والبديل الذي بين أيدينا هو نقل كل ما يحيط تنظيم كأس العالم إلى المغاربة. نعم، كل شيء ممكن نقله لإفادة القارئ في البلد، حتى تكتمل عنده الصورة.
حين حل وقت المغادرة، ووقفنا في ناصية الشارع الضيق الصاخب، الذي لاحظنا ساعتها بأنه بدأ يستقبل رواد الليلة البيضاء الجديدة، سرعان ما توقفت سيارة لرجل عجيب.

قال لنا إنه يعرف ما نريد، "تبحثون عن سيارة أجرة.

ها هي واحدة جيدة".

وإذ طلبنا منه أخرى، أوقفها في الحين.

وتوجهنا رأسا إلى المطار في رحلة مثيرة للغاية.

لقد كان الرجل شابا مسنا.

يغني ويتكلم بلا حد.

توقف للحظات. أزاح "بنارة" الطاكسي.

قال بنرزفة وتحد:"والآن، ليتبعوني. 

سنرى من الأكثر سرعة".

ثم راح يتجاوز الآخرين بحماقة.

وفي النهاية طالب بزيادة، وإذ وافقنا، قال:"مسلم جيد".

ضحكنا.

وودعنا المدينة الرائعة على أمل لقاء قد يأتي أو لا يأتي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوميات روسيا9 يوميات روسيا9



GMT 13:19 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"خوكم بدون عمل"

GMT 20:05 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

فاقد الشيء لا يعطيه

GMT 20:48 2018 الأربعاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

إدمان التغيير

GMT 20:16 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طاليب والحلوى المسمومة

GMT 12:48 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

"الكان" في المغرب

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 19:06 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الأسد

GMT 10:35 2016 الأحد ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ندوة حول "أطفال الشوارع" في مركز "عدالة ومساندة" الأحد

GMT 19:42 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

باتشوكا المكسيكي يقصي الوداد من كأس العالم للأندية

GMT 20:05 2017 الإثنين ,30 كانون الثاني / يناير

إيسكو يلعب عددًا بسيطًا من المباريات مع ريال مدريد

GMT 04:56 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عطيل عويج يُبيّن سبب تعاقده مع فريق الفتح المغربي

GMT 03:00 2015 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

مطاعم مراكش بديكوراتها الجديدة تستقبل العام الجديد 2016

GMT 07:25 2015 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

عصابة مدججة بالسيوف تحاول اغتصاب فتاة وسط الناظور

GMT 02:13 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

الصين تكشف عن دورات مياه جديدة ذات تقنية عالية

GMT 09:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

"المرسيدس" من أغرب الفنادق في ألمانيا

GMT 04:02 2017 السبت ,23 كانون الأول / ديسمبر

وائل جسار يستقبل العام الجديد بأغنية "سنين الذكريات"

GMT 17:34 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

إيران تواجه الجزائر استعدادًا لمباراة المغرب

GMT 05:34 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

بغداد صباح الجمعة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya