الحرب العالمية ضد “تنظيم داعش” بدأت أشواطَها، بينما الحرب العالمية ضد “تنظيم القاعدة” لم تضع بعد أوزارها!
القيادة الغربية لهذه الحرب رسمت لها خطتها وأعدت لها عدتها ووزعت أدوارها، كما وزعت تكاليفها وأرباحها وغنائمها، الحالية والآتية.
فأمريكا وشقيقاتها الدول الغربية ستبيع السلاح وخبرة القادة والخبراء العسكريين، الذين سيصدرون التعليمات والتوجيهات، ويجددون خبراتهم وتطبيقاتهم، ثم يأخذون ما لا يتصور من الأجور والتعويضات.
القوات الحكومية العراقية، والميليشيات الشيعية، والأكراد، والمعارضة السورية “المعتدلة”، هؤلاء سيدفعون الأنفس والأرواح، وسيتولون المواجهات الأرضية.
وأما شيوخ العرب، وخاصة منهم “الأغنياء الأغبياء”، فتكفلوا بالتغطية المالية الخيالية، وسيعطون الجزية عن يد وهو صاغرون.
ثم تأتي بعد ذلك “إعادة الإعمار”، التي ستتولاها الدول والشركات الغربية ذات الاختصاص والامتصاص… والفواتير يدفعها — كالعادة — شيوخنا الكرماء، “الأغنياء الأغبياء”.
ولست أدري هل بدأ، أو سيبدأ قريبا، التخطيطُ والتحضير لإنتاج جيل جديد من “الإرهابيين والجماعات الإرهابية”، مع إعداد الخطة الاستراتيجية للحرب عليهم ومواجهة “مخاطرهم على الاستقرار والسلم العالمي”؟!
وإضافة إلى الكلفة المالية المباشرة التي عادة ما تقدر ويعبر عنها بالتريليونات، فإن الدول والشعوب العربية والإسلامية تتكبد خسائر فادحة أخرى، قد تبدو خارجة عن قضية محاربة الإرهاب ومحاربة داعش والقاعدة… فتعزيز الاستبداد وخنق الحريات وترهيب الشعوب ومحاربة التدين والثقافة الإسلامية والتعليم الإسلامي واللغة العربية والعمل الخيري الإسلامي… كل هذه الأمور وغيرها تتم وتترسخ منذ عقود، باسم محاربة الإرهاب.
هل عجز العالم عن المواجهة السلمية لداعش وفكرها؟
هذا سؤال كبير وخطير لا بد من التفكير فيه بجدية والإجابة عليه بشفافية..
فكر داعش والقاعدة في معظمه عبارة عن ضلالات وجهالات وأوهام وأحلام. ووسائل نشره ضعيفة وبدائية، ثم هي محصورة ومحظورة. فكيف — والحال هذه — عجزت دول العالم عن دحر هذا التيار وكبح جماحه، سلميا وعلميا وفكريا وثقافيا، وهي تملك كل ما تملكه من مدارس ومعاهد وجامعات، ومراكز بحثية ووسائل إعلامية وثقافية، ومؤسسات دينية وعُلمائية، ومنظمات طفولية وشبابية، ومن أموال وأتباع ومؤيدين، ومفكرين وفلاسفة ومخططين، وفنانين وإعلاميين…
هل عجز عصر الأنوار والحداثة والعقل والعلم والحرية والعولمة، عن محاصرة فكر “بدائي متخلف”، وحصر تأثيره وانتشاره وإبطال مفعوله وخطره؟!
هذا عجز مشكوك فيه عند كل من لهم فكر ونظر، بل هو عندي مقطوع بعدمه.
أسئلة أخرى لا بد من طرحها، وإن كانت أجوبتها لا تخفى على أحد ممن يعيشون هذه الحقبة ويتابعون مجرياتها:
أليست “داعش” هي بنت الاحتلال الأمريكي للعراق، أليس هذا الاحتلال هو الذي هيأ جميع الشروط والمستلزات لنشوء داعش ونجاحاتها؟ هل كانت داعش لتكون أصلاً، ثم هل كانت لتصل إلى ما وصلت إليه، إلا بفضل الاحتلال وخدماته، سواء المقصودة أو غير المقصودة؟
إن الأمريكيين والشيعة العراقيين والأكراد، الذين يصطَـفُّون اليوم في “حرب داعش” هم أنفسهم الذين اصطفوا قبل سنوات قليلة لتحطيم الكيان العراقي والدولة العراقية، وإعداد كامل الظروف اللازمة لاستجلاب داعش وغيرها من الكوارث.
السياسات العربية في خدمة الإرهاب
يتفق كثير من الدارسين والمحللين العلميين من — عرب وغربيين — أن ما يسمى بالإرهاب مدين في تشكله وتوسعه وتجذره للأنظمة العربية الأشد فسادا واستبدادا وظلما وظلمة. بل الواقع المعيش والمشاهد يكشف هذه الحقيقة للخاصة والعامة. ففكر الغلو والعنف، الأكثر نجاحا والأشدُّ شراسة، يقترن عادة ويتلازم مع الأوضاع الأشد ظلما وفسادا.
ومن هنا — على سبيل المثال — نفهم ما يستعصي فهمُه على كثير من الناس، وهو أن السعودية ذات النظام الديني المعلوم، وذات الأماكن المقدسة والمحبوبة لدى عامة المسلمين، وذات الثراء والمستوى المعيشي الممتاز، نجدها هي الأكثر إنتاجا وتصديرا للإرهابيين والفكر الإرهابي!!
ذلك أن التجربة السعودية من أول أمرها قامت على السيف والبطش، تأصيلا وتنفيذا. ومعلوم أن سياسة السيف والبطش والعنف، حتى لو استعملت للحق والعدل، فإنها تترك جراحا أليمة وآثارا وخيمة، فكيف إذا استعملت لنصرة الظلم والعسف والاستبداد والاستئثار ومنع كلمة الحق وحق الكلمة؟! والسيف كما يكون لك، يكون عليك، ولو بعد حين.
ومن آخر ما استفادته “داعش” من المملكة السعودية وسياساتها الظالمة، إعلانُ آل سعود الحربَ على جماعة الإخوان المسلمين وتصنيفُها لأجل ذلك جماعة إرهابية. لقد غنمت “داعش” من وراء هذا الموقف السعودي الكريم عشرات الآلاف من الشباب، الذين تحولوا من “الإسلام السياسي” إلى “الإسلام العسكري”.
وقد حدثني صديق هندي أن حرب السعودية على جماعة الإخوان وعلى حركة حماس، جعل كثيرا من علماء الهند يتحولون من تأييد السعودية إلى تأييد “الخلافة الإسلامية” التي أعلنتها داعش!! وقد تداولت وسائل الإعلام مؤخرا خبرَ رفض (ندوة العلماء) بالهند استقبال وفد سعودي، بسببإعلان السعودية جماعةَ الإخوان وحركةَ حماس منظمتين إرهابيتين.
كلفة الوقاية لو كانوا يريدون
كل الناس يعرفون ويفهمون الحكمة العظيمة القائلة: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، ولكن القليل منهم من يعملون بها. أما أصحاب الأنظمة العربية المريضة الفاسدة، فلا يحبون هذه الحكمة أصلا، ولا يريدون العمل بها أبدا. لأنهم يرون أن كلفة العلاج موجودة ووفيرة، ولن تكون من جيوبهم ومصالحهم، فلماذا يحملون أنفسهم عناء الوقاية؟
كلفة الوقاية والسلامة هي رفع السيف عن الناس بدل رفعه عليهم، هي رفع السيف عن الرقاب بدل وضعه فيها. والسيف هنا هو سيف الظلم والقهر والقمع، وهو سيف الاعتقال والتعذيب والترهيب. هو تغييب الناس في الظلمات، بدون ذكر أسباب ولا مسببات.
كلفة الوقاية ليست أكثر من العدل في الرعية، والقسم بينهم بالسوية.
وكلفة الإصلاح تتطلب شيئا لا أيسر منه ولا أرخص، وهو ترك العلماء الصادقين المخلصين يقومون بواجباتهم التي هم أدرى بها. لكن حكام الجور والاستبداد عادة ما يمنعون ويسجنون ويُقْصون علماء الصدق والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويؤثتون ممالكهم ومؤسساتهم بمن يُرضونهم ويتملقونهم. فلذلك أصبح الناس لا يأبهون بهؤلاء ولا يثقون في كلامهم وفتاويهم، بل يعتبرونهم طائفة منزوعة الدسم، أي منزوعة المصداقية.
وهكذا ضاعت مكانة العلماء ورسالتهم: ما بين المنع للعلماء المخلصين، وعدم الثقة بعلماء السلاطين.
في الأيام الأخيرة تحدثت بعض وسائل الإعلام كثيرا عن اجتماع وصف بالحاسم لهيئة كبار العلماء، ناقشوا فيه إمكانية فرض رسوم على ما يسمى بالأراضي البيضاء (وهي الأراضي غير المبنية داخل المدن)، لكنَّ المواطنين السعوديين يتهامسون ويتساءلون بسخرية: لماذا لا يناقش العلماء حكم “الأراضي السوداء”، أي آلاف الكيلومترات من الأراضي التي يغتصبها الأمراء بدون أي سند سوى أنهم أصحاب السمو؟!