أيا كانت درجة الثبات عند الواحد منا، لا يمكنه أن يدعي الحياد والبرودة أمام مصاب جلل مثل رحيل عبد الله باها، ومهما بلغت درجة الخصومة لا يمكنها أن تزيف شعور المرارة من فقدان رجل سياسي مثل الراحل باها.
وكيفما كان التسليم القدري، صعب كثيرا أن يسلم أي كان بفجاعة الموت ولا يستنطق الجثة بعد رحيلها.
لكن خلف هذا كله، هناك ما كان هنري دومونترلان يقوله، "مأساة الصداقة توجد في قلب السياسة". ولا بد من أن يذهب التفكير إلى عبد الإله بنكيران ونحن نؤبن عبد الله باها.
الواضح، ولا شك، هو أن بنكيران فقد العقل المدبر، وفقد العلبة السوداء، لكنه فقد في قلب الفاجعة صديقا، وفيا، وأهلا للثقة.
كثيرون يرون عبد الإله بنكيران، في قلب العاصفة رئيسا بلا رأس، لكن الأكثر فداحة ولا شك بالنسبة له أنه بقي الآن بلا طمأنينة في قلب التحولات والتمرن على قيادة بلاد عصية، بعد دستور غير مسبوق.
ما يستحق الانتباه منا ولا شك، هو هذا التبادل العاطفي، والثقة والتحصين المشترك بينهما، ونموذج العلاقة بينهما.
كان عبد الإله بنكيران يجتهد طويلا، في تقديم استعارات عديدة لتوفير البلاغة الكافية لتقديم علاقته بالراحل عبد الله باها: في البرلمان كان يشهده على كل ما يقول (إيلا ما صدقتونيش سولوا باها) ، وأحيانا كان يذهب بالبلاغة الى ما لا تتصوره اللغة السياسية المتداولة، بنوع من التفجير الذي لا يسلم به العقل السياسي المغربي( أنا اعطيوني غير باها وديرو اللي بغيتو في الحكومة كمثال)، ومرات عديدة يشعرنا أن يشبه الراكب الثاني في سيارة تعليم، وأنه لا يقبض على المقود، إلا من باب التعلم أما السائق الفعلي فهو عبد الله باها.
ولم يتصور أحد، عند كتابة الدستور، أن رئيس الحكومة، سيطرح على العقل الدستوري أمرا غير مسبوق، عندما دافع عن وضع الراحل كنائب لرئيس الحكومة، وهو ما رفضته الأغلبية قبل المعارضة وقبل مسؤولي الدستور. ولا أحد سينسى أن زوجة رئيس الحكومة، قد أذهلت الجميع وهي تصرح بعفويتها التي دخلت بها من بعد إلى البيت الأبيض، أنها تشعر بأنها في الدرجة الثانية بعد عبد الله باها عند زوجها رئيس الحكومة.
الذين يشتركون معهما الحياة التنظيمية والجماعية، يذكرون أنه لم يكن يدخل اجتماعا هاما في حياة الحزب أو الحركة لا يحضره أولا عبد الله باها، البرلمانيون يذكرون كيف أن باها كان يلازم عبد الإله بنكيران، وأحيانا «يقرصه» كي يخفض من انفعاله العالي، كما لو أن الرئيس سلك كهربائي عالي الضغط والآخر هو الطيرموسطا الذي يهدئه..
كل هذا صنع ثنائيا سياسيا ومجتمعيا غير مسبوق، ولكل هذا لا أحد سيسلم بأن عبد الله بعد رحيل باها هو نفسه عبد الإله قبل الرحيل.. ونعود إلى مسلمة هنري دومونتريلان، أن مأساة الصداقة هنا توجد في قلب السياسة المغربية..
يمكن التسليم بأن عبد الإله بنكيران لن يبحث عمن يعوض عبد الله باها في حياته، كما لو أننا نسلم بأن عبد الإله بنكيران نفسه ليس قادرا على تعويض عبد الله باها.. عند عبد الإله بنكيران! ولكن سيصبح ولا شك هو ذاته ويحقق نفسه بعد وفاة صديقه.
إلى ذلك الحين نتأمل ضرورة هذه الصداقة والوفاء والثقة في بناء رجل السياسة في المغرب، ونتساءل: هل يمكن بالفعل أن يكون الإنسان إنسانا بدون صديق حقيقي يفجر فيه أجمل ما فيه، أو أحكم ما فيه أو أدهى ما فيه؟
لقد عرف الحقل السياسي المغربي الكثير من "الثنائيات"، ومن الصداقات التي تتوفر على مشترك يفوق المعدل الوطني في تبادل الثقة، وعرف أيضا علاقات ثقة تفوق الوصف، لاسيما بالنسبة لجيل من المناضلين والقياديين الوطنيين الكبار، الذين كانوا يعرفون أن السر هو مخزون السياسي المخصب، كما يمكن أن يكون السم القاتل، والمنهك، وكانوا يدركون أن من لا سر له لا سياسة له، ومن لا رجل سر لديه، لا نضال له!
رحم الله عبد الله باها، وأعتقد بأن موجة الحزن العميقة التي أشعر بها شخصيا على الأقل، ومعي غير قليل من الاتحاديات والاتحاديين، ربما تعود لأنه عاد بنا إلى .. مكان حزننا، هناك حيث الماء كان القاتل وكانت السيارة أداة الجريمة، وحيث كان القطار المجرم الرسمي في جريمة قتل باها. وربما أيضا رسمل الرجل حزننا وأعاده الى جمرته الأولى، ولهذا نشعر بفداحة المصاب الذي أصاب عائلته وأصدقاءه وإخوانه وأبناءه، نشعر لأن الموت، ذاتها لم تكن صديقة أحد وهي تطعن من الخلف... مثل صديق غير وفي تماما، مثل السياسة في البلاد، كما كان جان واتربوري، يعرف الحقل المغربي منذ الستينيات.