عبداللطيف وهبي
ليسمح لي الفيلسوف الهرم سقراط، أن نوظف قولته الشهيرة (كل ما أعرفه جيدًا هو أنني لا أعرف شيء)، ولا نُفشي سرًا إذا قلنا أنه بعد أربعة أعوام، ونصف من انضمامنا إلى حزب "الأصالة والمعاصرة"، يُمكن أن نُجزم أنّ كل ما فهمناه هو شيء واحد، ذلك أنّ هذا الحزب عصي الفهم، ومُعقد الضبط، ويستوعب المنخرطون دون أن يستوعب هؤلاء طبيعته وخباياه، ويعيش بين السرية في أذهان قيادييه "ربما لأنها من ثقافة اليسار"، وبين العلانية في الوجود السياسي "ربما من ثقافة القرب من النظام"، كائن يحتاج إلى دراسة عميقة وجدية، خصوصًا وأننا غالبًا ما ننطلق من مقارنات عشناها كتراكمات في الحياة، كان من حظنا أن عايشنا عن قرب قيادات حزبية من مستوى عال كعبدالرحيم بوعبيد، وعبدالله إبراهيم، وبنسعيد أيت يدر، ومحمد اليازغي، وأحمد لحليمي، وأحمد بنجلون وغيرهم، كثيرون تربينا بينهم لأسباب أسرية تقاطعت مع ما هو سياسي، وكان الذكاء المفرط لهذه القيادات بقدر ما يتعبنا في التحليل بالقدر ذاته يثير إعجابنا، تأخذنا الذاكرة إلى القائد عبدالرحيم بوعبيد وهو يلقي خطابه في تجمع انتخابي في ساحة تالبورجت في مدينة أكادير، تحديدًا يوم الأحد 29 مايو (أيار) 1977، وكنا في عز الشباب وحماسه، كانت كلمات خطابه الانتخابي تهز صمت أكادير، وتتصدى لهدير أمواج بحره، له قدرة خارقة في بعث الرسائل يمينًا ويسارًا، مُتحدثًا عن الدولة وعن الإدارة وعن المجتمع، يترفع عن كل شعبوية يمكنها أن تلغي مرامي خطابه، كان طويل القامة، ونحيف البنية، وخطيب بالفطرة، ويحمل نظارات للبصر قاتمة اللون، وسلس اللغة تتدحرج الكلمات حاملة سهام من النقد، كنت محظوظًا وأنا أرافق والدي آنذاك وأجالس هذه القيادات، أسمعها وهي تتكلم عن الدولة وعن الملك وعن الصحراء وعن التاريخ، ومن عام 1977 إلى اليوم، نشعر وكأن الزمن يتدحرج إلى الوراء، وهكذا ساقتنا الظروف في عام 2015 كي نكون مرة أخرى في مدينة أكادير.
وفي مناسبة انتخابات أخرى في 4 سبتمبر (أيلول) 2015، أصبحنا في موقع آخر ومرت غيوم سياسية كثيرة في سماء مدينة أكادير، رحل خلالها عبدالرحيم بوعبيد وسافر من زمن قد لا يكون زمانه نحو الخلود، وجاء من الماضي شخص اسمه عبدالإله بنكيران، متوسط القامة، ومعتدل البنية، ويحمل نظارات غير قاتمة اللون، ربما تعبر على اختلاف نظرتهما، واجتمع الناس حوله ليخطب فيهم، فاستمعت لخطابه بأذني اليمنى، وكان خطاب عبدالرحيم بوعبيد لا يزال يرن في أذني اليسرى، تحدث بنكيران عن المواد المخدرة وعن الرشاوى ولم يتحدث مثل عبدالرحيم بوعبيد لا عن الدولة ولا عن الإدارة ولا عن مشاكل المجتمع، ولا عن مصائب الزمن، ربما في المغرب وحده يعود الزمن إلى الوراء لتتقهقر معه السياسة، وإلا قارن بين الاثنين رغم وجود الفارق، وربما هذا من إيحاءات الاستثناء المغربي.
في ظل هذا الخليط كنا نفكر في ما نحن سائرين إليه، وإلى ما نحن عائدين منه، هل يجوز أن نُقارن بين بنكيران وعبدالرحيم بوعبيد؟، قد نكون مخطئين ولكن الزمن هو الذي جنا على ذاكرتنا لنسافر مع عبدالرحيم بوعبيد إلى المستقبل ونعود مع عبدالإله بنكيران إلى الماضي لتشدنا خطابات أفقدت السياسة والأحزاب السياسية توهجها وقدراتها الإبداعية، فالزمن السياسي في المغرب يخضع لطبيعة الأشخاص أكثر من التطور الطبيعي للتاريخ، ليتدحرج حزب "الأصالة والمعاصرة" داخل التاريخ يحمل من الماضي أصالته، ومن المستقبل معاصرته وعرف بنكيران ولم يعرف عبدالرحيم بوعبيد، ترى كيف كان سيكون تقييم هذا الأخير للحزب لو كان حيًا؟.
وعند ما نتجرأ التفكير والمناقشة في حزبنا "الأصالة والمعاصرة" سنحاول أن نكون مستقلين عنه وعن الآخر، فمن الإهانة الفكرية أن نلم به فكريًا من خلال الآخر، والآخر كثير الوجوه مُتعدد الدلالات مُعقد الوصف، فالحزب يعرف لذاته وليس بالآخر، ووجوده غير مرتبط بالآخر كما يدعي ذلك الآخر، فالأحزاب تحمل أفكارًا وتحمل أهدافًا، وقد تحمل بشكل افتراضي نوعًا من الأخلاق، وربما توجد بسبب ذلك، وعليها أن تبقى لذلك، ولكن أن نعتبر تأسيس حزب سببه وجود حزب آخر كأنه احتكار لشرعية الوجود، فهو سطحية تعليلية وتقزيم للأمور أو نفخ في قربة سياسية مثقوبة، كما هو تبعثر للرؤيا واندحار للسياسة، فكيف سنتعامل إذن مع هذا الحزب "الأصالة والمعاصرة" لنفهم وجوده؟، هل نشده إلينا إلى درجة الاختناق أم يجب أن نذهب إليه كضيوف؟ "كما يقول عبد الله العروي في موضوع آخر"، ربما قد نمسك بمنهجا نفك به تعقيدات وجوده، كأنّ العمل الحزبي طالته لعنة أفسدت طبيعة وجوده وأفقدت للأحزاب لغة الخطاب وقدرة الإبداع وتوهج التفكير، فكيف يمكن أن نخرج حزب "الأصالة والمعاصرة" من هذا الحكم العام وانتمائنا إليه يفرض علينا الدفاع عنه؟ وكيف هي درجة موقعه من هذا الحضيض السياسي العام ونحن جزء منه؟ لن نبحث عن من أفسد هذا الواقع بلغة الهمز واللمز وبخطاب الواقع أو بشرذمة السياسة، لذلك سنحاول أن نمسك بشعرة معاوية التي قد تشدنا إلى فهم مكوناته، ليس لنخنقه هذه المرة، بل لنتسرب إلى كنه وجوده وفهم حجم أخطائه، وملامسة جدية إسهاماته تارة وإلى عنف انفلاتاته تارة أخرى، قد يحتاج الأمر إلى حلقات وإلى قدرة في التفكير وخلق المسافات بين الذات والموضوع، لأننا نعتقد أنّ الحزب لكي يكون مُنتجًا ومُساهمًا عليه أولًا أن يؤسس نموذجًا ثم يتطابق معه، فهل استطاع هذا الحزب أن يبني هذا النموذج وهو الذي توزع ثارة بين الأصالة وأخرى بين المعاصرة؟ بين الخطاب الحداثي الجميل والحضور القروي العنيد؟ بين المعارضة للحكومة والدفاع عن النظام الغارق في الأصالة لدرجة أنّ أحد المفكرين العظام استنتج بأنّ "الأصالة" هي الملكية ونحن ندعي أنّ المعاصرة هي الديمقراطية والحزب بينهما؟ بين الدفاع عن الدين والرغبة في التفكير باستقلالية عنه؟.
في بعض الأحيان نملك شعورًا أنّ هذا الحزب يملك رؤيا أو منهاجًا، وحين نتجرأ لاكتشاف ذلك نجده غامض الوفاض، حاضر بقوة وغائب بحضوره، دعونا نقرأ جميعًا هذا الحزب في حلقات ربما نفككه أو على الأقل نكتشف موقفنا منه، إمّا أن نكتشفه هو كحزب بالشكل الذي نتصوره فإنّ ذلك مغامرة غير مأمونة الجانب، فقد يخنقنا أو نخنقه أو ربما نصطدم باكتشاف دواتنا ليتسرب الحزب من بين أناملنا.