وداعًا مدرسْتي الحِلوة

وداعًا مدرسْتي الحِلوة

المغرب اليوم -

وداعًا مدرسْتي الحِلوة

بقلم - المصطفى المريزق

كنت في سن السابعة من العمر حينما وطأت قدامي عتبة المدرسة لأول مرة، لأجد في استقبالي "المدير السيتي". رجل مفتون بالإدارة، يمشي بسرعة البرق، يلوح بيده اليمنى واليسرى داعيًا كل تلاميذ المدرسة لـ"مثنى مثنى" في الساحة أو قرب القسم. لا يعرف المزاح ولا الضحك، ويلزم الجميع بالانضباط واحترام الوقت وإجبارية الهندام الحديث عن "المدير السيتي"، هو استحضار لذاكرة مشتركة بين بنات وأبناء منطقة جبالة بني زروال، الذين عند قراءتهم لهذا النص سيتذكرون أيام "مدرستي الحلوة"، لكي لا ينسوا تاريخهم وجذورهم، ولكي يستحضروا الماضي في علاقته بالحاضر المهين للقيم وللمدرسة وللعائلة وللدولة والوطن.

لم نكن نئن من قساوة أحوال الطقس، ولا من انعدام حطب التدفئة والألبسة الشتوية، ولم نكن نشتكي غياب النقل المدرسي، كنا نذهب للمدرسة محررين من العقد ومن التمييز الطبقي والجنسي

لم نكن نفرق بين المعرفة السائدة وبين الفقه وبين قواعد المنهج العلمي، وبين تملك المنطلقات الأولية للعلوم بكل أصنافها، كنا نعشق المدرسة باعتبارها حاضنة بنات وأبناء

الشعب
كان ذلك في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، وللتاريخ دلالته. يوم كانت المدرسة لا تنتج فقط أطر الإدارة، بل كانت مشتلًا لخلق الإرادة والجواهر الخالدة، وتضطلع بمسؤولية إنتاج النخبة وإن كانت معارضة للدولة.

واليوم؟ لدينا مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، نؤدي ثمن وجوده من مالنا الخاص، ليعقد دورته العاشرة على إيقاع سمفونية الفزع، تقضي بإلغاء مجانية التعليم وخصخصته، للإجهاز على ما تبقى من وطنية الدولة وما يربطها بحقوق الشعب الدستورية وعلى رأسها الحق في التعليم كحق مقدس.

هادْشِي عِيبْ وعارْ. لو كان مازال بيننا "المدير السيتي" لهاجم عمر عزيمان في بيته واعتصم أمام بيت بنكيران ووزير تعليمه ضد مشروع القانون الإطار لإصلاح المنظومة التربوية، والذي يكرس اختيارًا تلا شعبية تضرب في العمق المساواة بين المواطنين، وتعمق الهوة الطبقية بين المدينة والقرية، وبين كل الطبقات والشرائح الاجتماعية في بلادنا.

وْشكُونْ الرابَحْ؟، طبعًا من يتباهى بالسلوك الحسن لصندوق النقد الدولي، ومن يُطبل ويُزمر للتدخل المتوحش للدولة في كل المجالات والقطاعات، ومن يجعل من الاهتمام بترشيد حالة التدين ببلادنا همه الأساسي، متناسيًا أن المدرسة التي بنى أعمدتها "المدير السيتي" وأمثاله باتت مصنعًا لإنتاج التيار الجهادي، ومشتلًا للداعشية، وماكينة لإعادة إنتاج الفقراء والمقهورين والمعذبون في الأرض.

إن الإحساس اليوم بالإجهاز على ما تبقى من كل شيء، هو نفس الإحساس الذي راود أبناء الشعب المغلوب على أمرهم منذ أن تربص بنا "بلعباس" (الوزير الذي حاول ضرب مجانية التعليم في الستينات وأدى قراره إلى انتفاضة مايو\أيار 1965)، وظل شبحه يسكن عظامنا باستمرار لإجهاض كل من له علاقة بالمساواة والمناصفة وبالحريات.

إنها نهاية مدرسة "المدير السيتي" وبداية مدرسة من دون مدير أو معلم أو أستاذ. إنها مدرسة الحگرة وقطّاع العلم والمعرفة، وسوق المضاربة بين السماسرة الذين حولوا "مدرستي الحلوة" إلى بضاعة، وإلى بيوت ومساكن ودور لإنتاج التخلف والثقافة النكوصية من دون حسيب أو رقيب.

ورغم ذلك، لن نشيع المدرسة، ولن نعلن وفاة المعلم والأستاذ مادام التلميذ حي يرزق، والطالب يرفض الذهاب في أي جنازة أو مسلسل انهيار العلم والمعرفة. طبعًا، نشعر بالغثيان كلما جاءنا خبر إغلاق مدرسة، أو زرنا مدرسة آيلة للسقوط، أو علمنا بإغلاق مدرسة بسبب تغير أحوال الطقس وتراكم الثلوج، أو بسبب غياب الأطر التعليمية أو نقص في الحجرات الدراسية.

وفي انتظار حق المغاربة جميعا في الفوسفاط والصيد البحري  ومناجم "النقرة" ومقالع الرمال وغابات الأطلس، يعتبر ما يحدث اليوم ضد المدرسة جريمة يُساء لنا جميعًا من دون رحمة ولا شفقة.
 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وداعًا مدرسْتي الحِلوة وداعًا مدرسْتي الحِلوة



GMT 12:34 2019 الجمعة ,19 تموز / يوليو

يحدث عندنا.. ذوق أم ذائقة

GMT 11:33 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يَموت حقٌّ لا مقاومَ وراءَه

GMT 17:37 2018 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

أخونة الدولة

GMT 13:49 2018 الأحد ,02 كانون الأول / ديسمبر

عدن مدينة الحب والتعايش والسلام

GMT 14:02 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

ٰ مواطن يمني يبحث عن وطن بدون حواجز

GMT 09:13 2018 الجمعة ,16 آذار/ مارس

الفرار الى الله هو الحل

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين

GMT 20:47 2018 السبت ,08 كانون الأول / ديسمبر

"الوطني للسكك الحديدية "يعلن عن تخفيضات في تذاكر القطار

GMT 10:42 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حركة إعفاءات وتغييرات جديدة في صفوف الدرك الملكي

GMT 02:26 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ورق جدران بألوان جذابة لديكورات غرف معيشة مبهجة

GMT 22:03 2018 الإثنين ,06 آب / أغسطس

صعقة كهربائية تودي بحياة شاب في سلوان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya