عام الغلاء بتوات السنة التي صاحت فيها عصافير البطون

عام الغلاء بتوات.. السنة التي صاحت فيها عصافير البطون

المغرب اليوم -

عام الغلاء بتوات السنة التي صاحت فيها عصافير البطون

بقلم : الصدّيق حاج أحمد الزيواني / جريدة الجمهورية الجزائرية

لعلّ أبلغ توصيف كَنَّى به علماء اللغة، عن حالة شدّة الجوع والمسغبة الجائرة؛ أن قالوا: صاح عصفور بطنه.. وهو أمر ينطبق تماما، بما أصاب أرض توات الكبرى"قورارة، توات الحنّة،تيدكلت" في ذلك العام المنحوس زمن الأربعينيات من القرن الماضي.. فمُذ تشكّل وعيي بالعالم الخارجي للقصر الطيني، ويومها أحسب نفسي طفلا صغيرا، لم أبرح طقوس التمائم المعلّقة برقبتي، ولم يُأذن بحلق عرف شعر رأسي بعد، إذْ كثيرا ما تناهى إلى سمعي، ذكر عام الجوع في حكايات الجارات مع أمي، ومن ثمة بمجالس الشيوخ، بفم القصبة، وفم أتْحَصّفْ، وفم البرجة، وديار الطايحين، وأغزولوض، وهي مجالس جليلة وخطيرة في حياة القصر الطيني، فكنتُ لا استسيغ هول هذا الذكر السمج للجوع، رغم عمري المبكّر يومها، وقد ازداد هذا الوجل، مع تنامي إدراكي الطفولي للأشياء، إذْ كثيرا ما سمعتُ أولئك الشيوخ، يؤرّخون به، فقد تسمع منهم، أن فلان ولد عام الغلاء، وعلاّن توفى عام الجوع، وكيلان سافر إلى تونس عام البون أو عام الجراد، مما كرّس في ذهني – وأنا صغير – جلالة هذا العام اللّقيط، وهو أمر طبيعي ومنطقي، كون العرب قديما، كانت تؤرّخ بالأحداث الجليلة في حياتها، كعام الفيل وعام الرمادة وغيرها.

وإذا كانت النوائب والصروف، التي مرّت على توات كثيرة ومتعددة، كالغزو، والسلب، ومجيء الجراد، والأوبئة؛ غير أن عام الغلاء، أو كما يصطلح عليه في القاموس المحلي بعام الجوع، هو الأكثر صدى وتداولية في يومياتهم، نظير ما لاقوا فيه من فوالِع فجيعة، إذ تزامن ذلك مع الحرب العالمية الثانية، وفيه غزا الجراد المنطقة، فأهلك الحرث والنسل، حيث تحتفظ الذاكرة الجمعية، هلاك تلك الأعداد المهولة من الناس في ذلك العام اللّعين، حتى ترك هذا الشُّؤم، وشما غائرا على جبين تاريخ المنطقة، فكثيرا ما سمعتُ في أحاديث الأهوال لدى أهل قصرنا الطيني، أن زيدا هلك، وهو يردّد في آخر حشرجته: ياتمرة.. ياتمرة.. أو أن عمرا مات، وهو يكرّر عند آخر عهده بالدنيا: ياكسرة.. ياكسرة.. الأغرب من هذا، أن مقبرتنا قد حوت حيزا كبيرا لهذه الفئة، يكفي أن تقيس ببصرك حجم مساحة القبور المزروعة من أولئك الهالكين، لتعرف هول الحدث الجلل يومئذ.

فقد عرف الناس عندنا في هذا العام البائس، المجاعة والمخمصة حقا وصدقا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. الزرع نفد من المواشير، كما فُقد التمر من المطامير، وأكل الجراد سعف النخلة، وأصبحت عارية كالأوتاد، وهو أمر أدى بساكنة توات، لأن تسلك مع التمرة والنّعمة مسلكا غريبا، منه ما يضحك، وفيه ما يدعو للبكاء فعلا. يحضرني في هذا المقام، تلك الأغنية الشعبية، التي تناقلتها الأجيال، معبّرة عن هذه النكسة (الله الله الله*ياسيدي بوتادارة * يامن جاهك عند الله* يارجال الصَبّارة*جيتْ أمْهَوّدْ لتوات*ألقيتْ الزَّعْفَة ما أبْقاتْ* أدّاها بوريشاتْ*والعار على مولانا)، والمقصود ببوريشات هنا؛ هو الجراد. ولم يكن من سبيل أمام القوم، لأن يسكتوا هذا الجوع المتغوّل، ويلجموا تضوّرهم منه، سوى أن يقتاتوا بالجراد نفسه، فسمّوا مسحوقه المأكول "هِنَسْ"، وإن كان ذلك حتمية قاهرة؛ غير أنهم وجدوا في ذلك تسلية وثأرا على ما يبدو. كما عرف الناس في هذا العام، أكل الحشائش، ونبات الحرّة، والغرّيم، وقديد الذرة، وعظام القطن، حيث تطحن، ويخبّز منها الخبز. أما من اشتهى اللّحم، فيمكنه أن يستأنس في خياله بشبه من ذلك، فالتمسوا طهي أغْروسْ "جلد الإبل"، أو التّاغوية، وهي محضن اللّبن من جلد الشاة، حيث يترك اللّبن ترسّبات طبقية بداخلها، كانوا يستلذون طعمها المطهي. هذا حالهم فيما يسلك بجعبة البلعوم من خشن الأكل، أما ما يدثّر أجسادهم الضامرة من اللّباس، فالمحظوظ من وجد عباءة سَملة يتدبّر بها عامه مع مهارته في الترقيع، أما السراويل فحدّث عني ولا حرج، وقُل رويتها عن الزيواني بسند صحيح؛ أن حكمها كان في العدم بلا مواربة، وهذه هي الحقيقة بلا تثريب.. النساء لم يكن بأحسن حال من الرجال، فالمَجُدودة منهن ذات البخت الوافر، من عثرت على إزار، أو لباس كتّان، كان يُدعى في تلك الأيام، بـ(كودة) أو(التيسور) أو(المحمودي)، وهو أمر ينسحب على البنات، اللائي يجدن قناعا يستر جسدهن شبه البضّ. أما حال أغطية أصحابنا وأفرشتهم، فأغلبها مصنوع من القطن المحلي، وقس على ذلك نعالهم المصنوعة من ألياف النخيل، المسمّى محليا بـ(لفدام)، كما التمسوا من هذا الأخير، غطاءً يُدعى (أجرتيل)، كانوا يستعملونه رداء للأبواب زمن الشتاء لانعدام الأبواب. ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى رقّت السلطة الاستعمارية لحال ساكنة توات، فعمدت إلى نظام توزيع المؤن بالوصل، أو ما يُعرف وقتها بـ"البون"، حيث يقوم عمدة القصر الطيني، أو شيخ القبيلة المخوّل، بإحصاء تعداد رعيته ومن تحت وصايته، ويقدّم ذلك لمنتدب السلطة الاستعمارية، يفرد له ما يسمى البون، ليذهب به إلى مدينة أدرار، عند تجّار مخصوصين بهذه العملية، فيصرفون له المؤنة المرصودة، من سكر وشاي ولباس وغيرها، مما يسدّ الرمق ولا يشبع.

لا يمكننا الحديث عن عام الغلاء بتوات الكبرى، دون أن نغفل تلك الهجرات الكبيرة، من أبناء المنطقة، نحو تونس العامرة، فقد احتضنت هذه الأخيرة، أعدادًا هائلة من تلك الأجيال أيام تلك المحنة، فسكنوها، واتخذوا من عاصمتها، ما يُعرف بالوكالات، وهي بيوت جماعية بسيطة على أية حال، بها غرف مستقلّة ومطبخ جماعي؛ منها وكالة التمّارين، ووكالة الحاج الصدّيق البوحامدي، ووكالة سوق العصر وغيرها، حيث يلتقي أبناء توات في العشيات بعد الانتهاء من العمل، فيشربون الشاي جماعة، ويتداولون أخبار توات وحنينهم إليها.

أجيال أفَلَت.. قرون مرّت.. أيام ولّت.. لكن هول الفاجعة، لازال يرنّ في جرس الزمان الغابر من تاريخ المنطقة الضائعة، وبما ترك من ندوب على أسوار قصباتها وأطلال أبراجها المتصدّعة من غدر الأيام، فيحكي السابق للاّحق، حدّوثة الغلاء وحكاية الجوع، لتصبح دُعابَة طريفة من نوادر توات الباسلة العظيمة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عام الغلاء بتوات السنة التي صاحت فيها عصافير البطون عام الغلاء بتوات السنة التي صاحت فيها عصافير البطون



GMT 12:34 2019 الجمعة ,19 تموز / يوليو

يحدث عندنا.. ذوق أم ذائقة

GMT 11:33 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يَموت حقٌّ لا مقاومَ وراءَه

GMT 17:37 2018 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

أخونة الدولة

GMT 13:49 2018 الأحد ,02 كانون الأول / ديسمبر

عدن مدينة الحب والتعايش والسلام

GMT 14:02 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

ٰ مواطن يمني يبحث عن وطن بدون حواجز

GMT 09:13 2018 الجمعة ,16 آذار/ مارس

الفرار الى الله هو الحل

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 15:03 2014 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الجوز " عين الجمل " لا يعلمها إلا القليلون

GMT 12:28 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الفرسان يتطلعون للفوز بثاني جولات بطولة "هذاب"

GMT 06:07 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

سيت الأفضل لقضاء شهر عسل لتميزها بالمناظر الجذابة

GMT 03:45 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

مديرة الأزياء جين ماكفارلاند تستعرض مجموعة كافالي

GMT 06:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تصنف المغرب أبرز مُصدّري اليهود منذ استقلال المملكة

GMT 00:00 2014 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

" أوراق بوكافر السرية " جديد الكاتب ميمون أم العيد

GMT 23:10 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رشيد غفلاوي سعيد بانضمامه إلى فريق الساحل النيجيري

GMT 23:08 2017 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

المهاجم فيصل عجب يثبت جدارته مع نادي التضامن

GMT 17:14 2016 الجمعة ,01 إبريل / نيسان

سر إغماض العيون أثناء تبادل القبل على الشفاه

GMT 10:51 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنان أمير كرارة يفاجئ المعجبين بإطلالة مختلفة تمامًا

GMT 17:38 2015 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

عبدالفتاح الجريني يحضر لديو غنائي مع العالمي مساري

GMT 03:16 2015 الجمعة ,22 أيار / مايو

شاطئ مرتيل يلفظ أحد ضحايا موسم الاصطياف

GMT 08:17 2017 الأربعاء ,30 آب / أغسطس

إخلاء السفارة الكندية في برلين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya