تركيا والموصل والخرائط

تركيا والموصل والخرائط!

المغرب اليوم -

تركيا والموصل والخرائط

بقلم : عبد الحسين شعبان

برّرت تركيا إرسالها قوات عسكرية إلى العراق، بحماية الأمن القومي التركي ومكافحة "الإرهاب"، وهما مبرّران مشروعان يحق لتركيا بموجبهما الدفاع عن أراضيها وحماية مواطنيها من شرور "الإرهاب"، لكن هذين المبرّرين لا يعطيان الحق لتركيا أو لغيرها في اختراق سيادة بلد آخر أو اجتياز حدوده الدولية.
وإذا كانت سيادة العراق معوّمة ومجروحة بفعل عناصر متداخلة ومعقّدة، منها تداعيات الاحتلال الأميركي، ثم سيطرة "داعش" على الموصل وأجزاء واسعة من مناطق غرب العراق، يضاف إليها النفوذ الإيراني المهيّمن على السياسة العراقية، لكن ذلك ليس مبرّراً لتركيا لانتهاك السيادة أو ما تبقّى منها، بحجة أن الآخرين يخرقونها.
إن مثل تلك المبرّرات تعني العودة إلى القانون الدولي التقليدي الذي كان يجيز "الحق في الحرب" و"الحق في الغزو" بزعم حماية المصالح القومية، ولكن ذلك أصبح من تراث الماضي، ولا سيّما بعد تأسيس الأمم المتحدة. لقد حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البحث عن سند قانوني يدعم المطالب التركية، من خلال إعادة قراءته وتحفّظه على معاهدة لوزان المبرمة في العام 1923، والتي رسمت الحدود بين الدولة التركية الجديدة وجيرانها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي جرى تقاسمها وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو السرّية لعام 1916، وتبعاً لنتائج الحرب العالمية الأولى.
وقال أردوغان: إن المشكلة الأساسية في الموصل هي "إعادة بناء المنطقة وفقاً لخطة تطبّق فيها، وهي ليست في مصلحة تركيا"، بل تهدّد بقاءها. وذهب أبعد من ذلك حين صرّح بخصوص محاربة الإرهاب: "لن ننتظر حتى تدقّ المنظمات "الإرهابية" أبواب بلادنا، سنقوم من الآن بملاحقتها وننقضّ عليها أينما وجدت"، وأضاف: إن وجود قوات تركية في منطقة بعشيقة قرب الموصل هو من أجل حماية "استقلالنا ومستقبلنا".
أردوغان على حق حين يسعى لحماية بلاده، ولكن عليه اتباع الوسائل القانونية وعدم التجاوُز على حقوق الآخرين، الأمر الذي يتطلّب التعاون مع دول الجوار، ولا سيّما العراق، إضافة إلى قوات التحالف الدولي، بخصوص مكافحة "الإرهاب". أما اتخاذ قرارات فردية ودخول الأراضي العراقية حتى دون التشاور مع حكومة البلد، فإن ذلك سيزيد من تعقيد المشاكل، كما أنه لا يساعد على توحيد الجهود للقضاء على "الإرهاب".
لم يكتفِ أردوغان بذلك، بل حذّر العراق وسورية بقوله: لقد بدأنا بتنفيذ خطتنا، وأن النار التي تحاولون إشعالها ستحرقكم أكثر منّا. ولم ينسَ في ظل هذا الاندفاع والحماسة البعيدة عن الدبلوماسية والقواعد القانونية الدولية التعاهدية أو العرفية، أن ينتقد معاهدة لوزان، ويقول إنها كانت مفروضة على تركيا مثلما تم فرض معاهدة سيفر عليها، العام 1920.
لقد حدّدت معاهدة لوزان الحدود لعدّة بلدان كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية، مثل بلغاريا واليونان وقبرص ودول المشرق العربي، والتي حكمتها لنحو أربعة قرون، فكيف يمكن إعادة القديم إلى قدمه؟ أليس في ذلك ضرب من إسقاط الرغبات على الواقع؟ فالعالم تغيّر كثيراً منذ نحو قرن من الزمان، والأمر لا يتعلّق بدول المنطقة فحسب، بل يشمل أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا، وعلى من لديه خيال أن يتصوّر ماذا تعني إعادة القديم إلى قدمه، غير نزاعات وحروب وحرائق ستندلع لتشمل العالم كلّه؟
إذاً ماذا تعني إعادة جريدة ديليليش (وهي الجريدة المؤيّدة للرئيس التركي) نشر الخرائط التركية الجديدة "القديمة"، وهي تضمّ فيها أجزاء من العراق وسورية وبلغاريا وأرمينيا وجورجيا إلى تركيا؟ وبالطبع، فكركوك والموصل وإربيل وحلب وإدلب والحسكة هي في الصدارة من ذلك. أليس في الأمر ثمة أزمة، وهي أزمة تفكير وواقع؟
يمكنني القول: إن تلك الآراء كانت تظهر وتختفي تبعاً لتوازن القوى، فكلّما كان العراق ضعيفاً، وهو ما حصل منذ الحرب العراقية – الإيرانية، وبعد الاحتلال الأميركي، وكذلك كلّما كانت سورية ضعيفة ومنقسمة كما هي اليوم، بسبب الاحترابات الداخلية، تطلّ تلك المطالبات برأسها، فضلاً عن ارتفاع منسوب الشحنة القومية الاستعلائية فيها.
إن الخطاب العالي النبرة الذي ذهبت إليه القيادة التركية، والذي ازداد تطرّفاً بعد محاولة الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا في شهر يوليو/ تموز الماضي (2016)، يستبطن الرغبة في توجيه الأنظار نحو الخارج وصرفها عن المشاكل الداخلية المستفحلة، وهو أحد الأسباب الأساسية لتصعيده في الفترة الأخيرة، كما يمكن تفهّم محاولة أنقرة مداعبة المشاعر القومية للتركمان تحت عنوان حمايتهم، وخصوصاً في تلعفر التي تسكنها غالبية تركمانية، إضافة إلى كركوك التي فيها نسبة تركمانية وازنة.
ولكن حماية التركمان وبقية المجموعات الثقافية واجب، يستلزم من تركيا إذا أرادت تحقيقه، مخاطبة الحكومة العراقية باحترام حقوق الإنسان وإقرار مبادىء المساواة والمواطنة المتكافئة وعدم التمييز واعتماد مبادىء المشاركة والشراكة الحقيقية، وكذلك مناشدة الهيئات الدولية لممارسة ضغوطها لتحقيق ذلك، الأمر الذي يتطلّب منها أولاً وقبل كل شيء احترام حقوق الكرد في تركيا، وتلبية مطالبهم العادلة والمشروعة في حكم ذاتي أو إدارة ذاتية، والسماح لهم باستخدام لغتهم بصورة رسمية وحقّهم في التعلّم بها، وممارسة حقوقهم السياسية كاملة كمجموعة ثقافية متميّزة، وتأكيد ذلك دستورياً، والأمر يشمل الحقوق الثقافية للمجاميع المتنوّعة الأخرى بمن فيهم العرب.
أعتقد أن خشية القيادة التركية من تفجّر الموضوع الكردي في تركيا، ما بعد تحرير الموصل وما بعد حسم الصراع في سوريا، ومطالب الكرد في البلدين بصيغة من صيغ الحكم الذاتي أو اللاّمركزية أو الفيدرالية أو غير ذلك، هي التي تدفعها إلى هذا الخطاب المتشدّد بدلاً من البحث فيما يمكن التعاون به لمكافحة "الإرهاب" من جهة، ومن جهة ثانية لإيجاد تسويات لمشكلات تتعلّق بالمسألة القومية والهويّة وذيولها.
إن الدعوة لإعادة النظر بمعاهدة لوزان ومخرجاتها، ليس ورقة خاسرة فحسب، بل هي مسألة غير ممكنة، فقد مضى نحو قرن من الزمان على حسمها وتثبيت عائدية الموصل إلى العراق، وقد شكّل مجلس عصبة الأمم لجنة للتحقيق الأممي في 30 سبتمبر (أيلول) العام 1924، وأجرت هذه اتصالات وقامت بزيارات إلى لندن وأنقرة ودمشق وبغداد والموصل، وقابلت عدداً من الشخصيات والأعيان وأهالي المنطقة، وقرّرت في نهاية العام 1925، ضم الموصل إلى العراق لاعتبارات جغرافية وقومية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وسياسية، كما ورد في تقريرها، ووافقت عليه تركيا مع تعديلات طفيفة، ووقّعت في تلك الفترة معاهدة عراقية – تركية – بريطانية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تركيا والموصل والخرائط تركيا والموصل والخرائط



GMT 07:43 2016 الجمعة ,05 آب / أغسطس

الحدث التركي المدبلج

GMT 22:17 2016 الثلاثاء ,19 تموز / يوليو

دراما أردوغان التركية

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 09:34 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

تنظيم الدورة الثالثة لدوري أنزا لركوب الموج

GMT 08:07 2017 الأربعاء ,16 آب / أغسطس

شبكات التواصل بين السلبي والإيجابي

GMT 14:01 2017 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

5 أسرار طبيعية للحصول على رموش جذابة و كثيفة

GMT 03:34 2015 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

اطلاق أشغال مجمع الفردوس السكني في خريبكة

GMT 23:33 2016 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تأخير قطع الحبل السري مفيد للمولود

GMT 03:55 2016 الأربعاء ,28 كانون الأول / ديسمبر

"البحث عن الإلهام على انستغرام" أبرز أفكار تنظيم الخزانة

GMT 17:08 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مباي نيانج يرفض فكرة الرحيل عن فريق "ميلان" الإيطالي
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya