بقلم - محمد بو عود
هل تراجعت موجة التأييد وحتى التهليل التي صاحبت مقدم حكومة السيد يوسف الشاهد، وهل تراجعت تلك الشعارات وشبه الالتزامات من أغلب القوى تقريبا بتأييدها، بل هل تراجع حتى ذاك الزّخم السياسي والإعلامي الذي رافقها، والذي سمّاها حكومة وحدة وطنية؟فحتى هذا المصطلح "الوحدة الوطنية" وقع التراجع عنه من كثير من القوى السياسية، وفيهم من نفاه مباشرة كالسيد سليم الرياحي الذي كان عنصرًا نشيطًا في الإتيان بهذه الحكومة، أو السيد محسن مرزوق الذي كان له دور حاسم في تأييدها رغم عدم اقتناعه بالدخول فيها، لأسباب حزبية تخصّ وضعه الداخلي.
كما سبق للاتحاد العام التونسي للشغل وللمحامين والأطباء والصيادلة وغيرهم من القوى الاجتماعية والجماهيرية أن بدأوا يتراجعون عن هذه التسمية، ويمكن القول أن ما يجري الان هو عملية انسلاخ جماعي من منظومة "الوحدة الوطنية" واتجاه نحو عودة الخصام الحزبي والتنافس الظاهر والباطن، وكأن المشهد السياسي يستعد لميلاد حكومة أخرى بديلة عن هذه الحكومة التي قيل عند تكوينها أنها حكومة إجماع وطني.
كثيرون يرون في تصرّفات السيد يوسف الشاهد أنها كانت المبعث الحقيقي لانفضاض الناس من حوله كما يُقال، فالرجل إلى حد الآن يتصرّف كرئيس وزراء وليس كرئيس حكومة، ولم يستوعب بعد متطلبات منصبه الدستوري الذي يخوّل له قيادة الحكومة وحلّ مشاكلها وإيجاد توافقاتها وحسم نزاعاتها بعيدًا،عن كل مؤثرات خارجية سواء من قصر قرطاج أو قبّة باردو او حتى من القوى السياسية والحزبية التي تتشارك في هذه الحكومة.
ويرى كثيرون أن السيد يوسف الشاهد ربما لم يتخلّص بعد من عُقدة "المنّة" أو الفضل الذي منحه له رئيس الدولة عندما اختاره دونًا عن آخرين أقدم منه وأكثر تجربة واشعاعًا ومكانة شعبية، ليكون على رأس حكومة الوحدة الوطنية، التي مثّلت في وقتها مطمحًا تاريخيًا للكثيرين، لكن لم ينل هذا الشرف إلا السيد الشاهد، وهو ما جعله حسب المراقبين، لا يقدر على "ليّ العصا في يد" السيد الباجي قائد السبسي، ولا تجاوزه في أي موضوع مهما كان صغيرًا أو كبير الأهمية.
هذه الثغرة السياسية في تصرفات رئيس الحكومة، أو على الأقل هذا الولاء المطلق من قبله لرئيس الجمهورية، جعل الأخير يتصرّف بشكل قال عنه سليم الرياحي أنه في نظام رئاسي، وأنه قضى على كل السلطات واحتكر الحكم في قصر قرطاج، بل ذهب بعيدًا إلى حد القول أن مستشاري الرئيس هم من يسيّرون الحكم فعلاً، ودعا إلى انتخابات مبكّرة تضع حدًا لما سماه ضياع السلطة وتخبّط الحكومة وعجز رئيسها، يوسف الشاهد، عن ممارسة دوره الدستوري.
وهو كلام قاله قبله بيوم واحد الكاتب والصحافي توفيق بن بريك، في برنامج تلفزي على قناة خاصة، أكد فيه أن كل السلطات في يد الباجي قائد السبسي ومستشاريه، وأن النظام عاد رئاسيًا بأتم معنى الكلمة، وأن الشاهد لا يحرّك ساكنًا في القصبة ولا يتحكم في شيء.
وسبق لكل من محسن مرزوق وحمه الهمامي وحسين العباسي وغيرهم أن نفوا عن حكومة الشاهد صفة الوحدة الوطنية، وتحدثت وسائل إعلام عديدة عنه، كرئيس للوزراء وليس كرئيس للحكومة، ولا شك أن عديد الأحداث الأخيرة التي وقعت في المشهد السياسي أثبتت نظرية هؤلاء، وكرّست وضعية الشاهد كرئيس للوزراء أكثر منه رئيسًا للحكومة، كما كرّست السيد الباجي قائد السبسي، كرئيس مطلق الصلاحيات يتدخّل في كل شيء، ويحسم في كل القضايا.
ولعل أحداث الخلاف مع الاتحاد العام التونسي للشغل حول مسألة ترحيل الزيادة في الاجور، والتي حسمها رئيس الدولة عند لقائه بالعباسي قبل الاعلان عن إمضاء الاتفاق مع الحكومة، وكذلك مسألة التامبر الجبائي التي لم تُحسم إلا بزيارة وفد المحامين إلى قصر الرئاسة واستقبالهم من قبل رئيس الجمهورية، بما يعطي دليلاً قاطعًا على أن الملفات تخرج من قرطاج لتُحسم في قرطاج، وأن دور القصبة حاليًا هو فقط حامل رسائل، أو حامل ملفات في سكرتارية القصر.
وهي وضعية لا يمكن أن ترضي حلفاء الحكومة، الذين استبشروا كثيرًا بمقدمها، بل سعوا جاهدين للإطاحة بالحبيب الصيد لأنه تصرّف بمفرده في عديد الملفات، وفيهم من أوعز لرئيس الجمهورية ساعتها بأن هذه الاستقلالية تجعل من الرجل يمثّل خطرًا على الحكم ولا بد من إزاحته، لكن لماذا انقلب هؤلاء الآن على هذه الحكومة التي هللوا كثيرًا لمقدمها؟
سؤال يبقى معلقًا طالما لم تنكشف بعد النوايا الحقيقية لعديد الوجوه السياسية، التي يبدو أنها لم تعد قادرة على البقاء في التحالف الواسع الذي شكلّ "الوحدة الوطنية" وطالما لم تتوضّح أيضًا سياسة رئيس الجمهورية وما اذا كان ينوي فعلاً التخلّي عن هامش من التسيير لرئيس الحكومة، أم أنه مستمر في تكريس نظام رئاسي حتى وإن كان دستوريًا يسمّى "نظامًا برلمانيًا".؟