لا يختلف اثنان أنه كان لعبيد البريكي ، الوزير السابق اليوم للوظيفة العمومية والحوكمة، وزن خاص وحضور محترم في حكومة يوسف الشاهد، خاصة وأن الرجل يأتي من بيئة مختلفة لبيئة باقي الوزراء، واعتبر دومًا أنه يمثّل طرفًا قويًا يقف ظاهريًا على الحياد، لكن عبيد البريكي لا يمكنه تجاوز هذا الطرف، الاتحاد العام التونسي للشغل، وتهديده السبت بالاستقالة، أو أن كان نفّذها فعلًا لكن الحكومة تكتّمت عليها في بادئ الأمر وجاء الحسم الأحد بالإعلان عن تحوير وزاري جزئي، لا يمكن إدراجه إلا ضمن انزعاج لا يتعلّق بشخصه فقط، بل بالاتحاد أيضًا.
فالروايات المتضاربة منذ يومين حول استقالته، أو نيته الاستقالة، تصبّ كلها في التأكيد على أن هناك أزمة حقيقية داخل الحكومة، خاصة وأن كل من حضر اجتماع مجلس الوزراء يؤكد أن عبيد البريكي قد امتنع عن الحضور، بل إنه التجأ في الأخر الى إغلاق هاتفه الجوال، بعد أن وقع تأجيل الاجتماع من العاشرة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، وبعد أن استنفد المتدخلين كافة محاولاتهم في جعله يتراجع عن قراره ويلتحق بمجلس الوزراء ، وهو ما يؤشّر إلى أن طبيعة عمل الحكومة، وطريقتها في معالجة الملفات الاجتماعية والشغلية، لم تعد قادرة على الايفاء بالتعهدات التي أخذتها على نفسها زمن المفاوضات حول وثيقة قرطاج، كما لم تعد مسارب التفاهم مفتوحة بين القصبة وبين بطحاء محمد علي، ولم تعد الطرق سالكة كما يُقال.
وكان عبيد البريكي في وضع حرج للغاية، فلا وزارته استطاعت أن تتقدم خطوة واحدة في حلّ الإشكالات الاجتماعية والتشغيلية وأزمة البطالة، ولا استطاع أن يخفف من الاحتقان في القطاعات تقريبًا، ولا هو مستعد لأن يقف موقف الذي يدافع عن الشيطان، تجاه احتجاجات بالجملة، واعتصامات في كل مكان، ومعارك لا تنتهي بين زملائه سابقًا، النقابيون، وبين زملائه حاليًا، بعض الوزراء.
وهذا الاحراج الذي وجد البريكي نفسه في داخله، لم يكن وليد اللحظة، بل انطلق منذ اليوم الأول لتوليه الوزارة، رغم أن الرجل حاول جهده أن يكون صوت الحكمة، وصوت العقل، وأن يحلّ الإشكالات العالقة بين الحكومة والاطراف الاجتماعية، إلا أنه جوبه في كل المرات تقريبًا، بنوعين من السلوك لم يقدر ربما على مجاراتهما.
أولهما سلوك رسمي يعبّر علنًا عن اعتزازه بالاتحاد وينوه بدوره في وسائل الإعلام، لكنه يتعاطى معه كخصم وجب ضربه وتحجيمه سرّا، وهو أمر لم يستطع البريكي التعايش معه، رغم محاولاته التي لا تنتهي لتقريب وجهات النظر وخلق تحالف حقيقي بين الحكومة والاتحاد، يضع حدًا للتوتر والاحتقان.
أو سلوك نقابي يجاهر برغبة في الهدنة وسعي للسلم الاجتماعي، ويباشر اللجوء الى الإضراب لاتفه الاسباب، بل ويصعّد معاركه في كل مرة مع عضو من الحكومة، زملاء البريكي الملزم بمبدإ التضامن معهم، وكثيرًا ما يتحول هذا التصعيد الى تصفية حسابات شخصية بين بعض الوزراء وبعض النقابيين، بما حول الساحة السياسية إلى حلبة ملاكمة، يجد البريكي نفسه دائما في موضع داخلها لا يُحسد عليه، فلا هو قادر أن يصطفّ مع الوزراء ولا هو قادر على مجاراة بعض المطالب المشطّة للنقابيين.
وهي مكانة ربما لم يحسب حسابها عندما ترشّح لهذا المنصب او عندما رغب في التّوزير، فالساحة ساعتها كانت في أشد فترات الشدّ والتحشيد ضد حكومة الصيد، وبدا الطرف الأخر الذي سيأتي بديلا له، وكأنه طرف حليف للاتحاد، أو خُيّل للبريكي أنها ستكون حكومة وحدة وطنية حقيقية، وأن الاتحاد والحكومة سيعملان معًا في انسجام تام، وأن خبرته النقابية السابقة، ستجعله يذلّل العقبات في سبيل ارساء تفاهم دائم، أو ما يُصطلح عليه بالتوافق الاجتماعي والسياسي.
صحيح أن الرجل قد يكون بذل كل ما في وسعه، وقد يكون أعطى أكثر حتى من طاقته من أجل احتواء عديد الملفات، وتجنّب التصعيد في عديد المناسبات، واحتوى موجات شديدة من الغضب في عديد الجهات والقطاعات، وعمل طيلة أشهر في منصب "عسكر الحريقة" وأطفأ لهيب عدد لا بأس به من الفتن التي لا يعلم الا الله من يشعلها في كل مرة، وكيف وأين ولماذا، لكن كل ذلك كان بدافع الغيرة على تجربة حكومة الوحدة الوطنية، ومحاولات مستمرة من وزير الشؤون الاجتماعية لترسيخ تفاهم مستمر، وتوافق دائم بينها وبين كل مكونات الطيف الاجتماعية وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل.
كما لم يعتقد البريكي ربما أن المتداخلين في تسيير الشأن الحكومي كُثر، وأن الاطراف التي تقرر ليست بالضرورة هي التي تظهر حاكمة في الصورة، وأن مساعي التوتير والتصعيد، من الجانبين الحكومة والاتحاد، أكثر بكثير من مساعي التهدئة التي كان حريصًا عليها، حتى بات ما يقوم به من وساطات وتهدئة خواطر ورتق جراحات، أصبح يصنّف من بعض الحاكمين على أنه خدمة منه للاتحاد، منظمته الأم، وفُهم من بعض النقابيين على أنه استسلام من الرجل لمغريات المنصب الوزاري وتخلّ منه عن رفاق دربه القدامى في سبيل الحقيبة والكرسي.
وهي وضعية ربما لم يستطع السيد عبيد البريكي المواصلة فيها، خاصة وأنه يتعرّض باستمرار لهجمات إعلامية مجانية من هذا الجانب أو ذاك، كما يتعرّض لحملات ممنهجة على صفحات التواصل الاجتماعي وسبّ وحجم كبير من الإهانة، حتى من بعض رفاقه القدامى ومن بعض الذين يحسدونه على نجاحاته.
لكن الآن وقد تمّ الامر وخرج الرجل من الحكومة فان ذلك سيكون بمثابة الصدع الكبير في حكومة يوسف الشاهد، خاصة وأن الخروج يأتي في وقت لم يبق فيه تقريبًا قطاع واحد لم يعلن العصيان أو الاحتجاج أو الإضراب، وفي وقت تشتد فيه الأزمة في بعض الجهات، وتتصاعد حدّة التوتر بين السلطة وبين المعطلين وأصحاب الشهادات والمفقرين والمناطق المهمّشة، والقطاعات الفاعلة ايضا، خصوصا النخبوية منها كالاساتذة والمعلمين والأطباء والصيادلة والقضاة وغيرهم، بما يوحي أن تصعيدًا كبيرًا قادمًا في الافق، وأن ما استطاعت الحكومة تجنّبه في يناير/كانون الثاني ، بفضل تدخلات البريكي والطرابلسي والدهماني، قد لا تستطيع تجاوزه في مارس/أذار.
وهذه الاستقالة أو الإقالة سوف تكون أيضًا جرس إنذار، وصفارة خطر في وجه حكومة الشاهد التي ستجد نفسها عارية من كل الصيغ الإعلامية التي حاكتها حولها، من توافق وتحالف وائتلاف، بل ستظهر للرأي العام على أنها مفككّة وان كل طرف فيها يعدّل بوصلته على الجهة التي يمثّلها، وليس على المشروع الحكومي، الذي يبدو أنه لم يستطع ان يكون قوة جذب وتوحيد وتجميع أضف إلى ذلك استبدال وزير منحدر من نقابة الشغالين بآخر آت من نقابة الأعراف.
وبذلك خروج عبيد البريكي بكل المقاييس سيكون أكبر ضربة توجّه إلى مفهوم حكومة الوحدة الوطنية وإلى مشروع وثيقة قرطاج ، وستكون بداية النهاية لمشروع وقع التخطيط له، ربما على عجل، وربما دون ربط خيوطه جيدًا.