بقلم - عبد الحسين شعبان
حين أهداني الدكتور فرحان باقر، الطبيب الاختصاصي الكبير في الأمراض الباطنية كتابه "حكيم الحكّام: من قاسم إلى صدام"، قرأته باستمتاع شديد، وكنت قد عزمت العقد للكتابة عنه، ودوّنت بعض الملاحظات، لا سيّما ما ورد فيه من لقطات مثيرة، لكنني فقدتها في زحمة كتب ومشاغل وأسفار وهموم وأمراض.
وحين دعاني في المرّة الثانية على العشاء في مطعم في أبو ظبي بصحبة الدكتور كوثر الواعظ، طبيب الأسنان والشخصيّة الوطنيّة العراقيّة، قرّرت إعادة البحث عن الملاحظات أو إعادة قراءة الكتاب مرّة أخرى للإضاءة عليه. إنه كتاب بقدر ما هو تلقائيّ وعفويّ بامتياز، فهو عميق وغنيّ بالمعلومات والحقائق، ناهيك عن أنه يعكس تجربة إنسانيّة في غاية الدقة والحساسيّة، لا سيّما إذا أخذناها بسياقها التاريخيّ ارتباطاً بظروف البلد العامة والسريّة المطبقة التي كانت تحكمه.
يضاف إلى ذلك أن للدكتور فرحان باقر مقام خاص، سواء على المستوى الشخصيّ أو الاجتماعيّ أو الأكاديميّ، وهو ما أقدّره حق قدره، وبعد كل ذلك أن الكتاب احتوى على حوادث مثيرة ومعلومات خاصة عن حياة وسلوك الرؤساء، وقد وددتُ أن أشرك القارىء في متعة الاطلاع عليها، والاستمتاع بها من جهة، ومن جهة أخرى توخّيت الفائدة التي يمكن أن يتحصّل عليها القارىء والمتلقي من علاقة طبيب برئيس، بما تحمله هذه من تناقض في بلد مثل بلدنا، وفي ظل أنظمة مثل أنظمتنا.
وكنتُ قد كتبت عن علاقة الشاعر الجواهري بالزعيم عبد الكريم قاسم تحت عنوان "الزعيم مرافقاً للجواهري"، حين التقاه لأول مرّة في لندن العام 1949، وعن علاقة الشاعر أدونيس بعبد الفتاح إسماعيل رئيس اليمن الجنوبية، الذي قدّم له ديوانه، وعن علاقة الروائي ماركيز بالزعيم الكوبي كاسترو، وعلاقة الأديب والمنظّر أندريه مالرو بالزعيم الفرنسي ديغول، وعلاقة الروائي الروسي غوركي بلينين، فكيف كانت علاقة الطبيب بالرئيس؟
ومهما كانت أسباب هذه العلاقات ودوافعها، فإنه لا يمكن النظر إليها من زاوية ندّية أو صداقية بحتة، حين يكون أحدهم على رأس السلطة، والآخر "مجرد" أديب أو مفكّر، فالعلاقة مع إيجابياتها، لكنها ستفتقد لعنصر التكافؤ وهو أساس كل علاقة سويّة.
قد تكون الصداقة بالطبيب مختلفة، وحسبي ما أقوله إنه "الدكتاتور" الوحيد الذي لا أعارضه، بل أمتثل بكل قناعة لحُكمه وأنصاع بكل أريحية لتعليماته، فـ"دكتاتوريته" محبّبة لا تستوجب المقاومة أو الرفض.
عدتُ إلى ملاحظاتي ووجدتها ما زالت طازجة وتحتفظ بطراوتها وحيويتها، وهو ما أحاول أن أدوّنه هنا من لقطات ثلاث لها دلالاتها ومعانيها:
اللقطة الأولى – اعتقال عبد الرحمن البزاز، حسبما يروي كبير الأطباء فرحان باقر الذي كان الطبيب الخاص للرئيس أحمد حسن البكر، أن الدكتور مكي الواعظ، لم يتمكّن حينها من إيصال الدواء والعلاج اللازمين إلى الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق الأسبق لمرتين: الأولى (في أيلول/ سبتمبر 1965) والثانية (في نيسان / أبريل 1966)، بعد سقوط طائرة الرئيس الأسبق عبد السلام محمد عارف، وقد قدّم استقالته بعد أن تعرّض إلى ضغوط كثيرة من جانب العسكريين في (6 آب/ أغسطس 1966) في عهد الرئيس عبد الرحمن محمد عارف.
وكان البزاز وهو أحد فقهاء القانون حينها، معتقلاً بعد انقلاب العام 1968 في ظروف سيئة. وعند زيارة فرحان باقر للرئيس البكر يقول: كنت منزعجاً أيّما انزعاج، وحين سألني عن سبب تجهّمي قلتُ له: يا سيادة الرئيس، إن إيصال الدواء هو من أبسط حقوق المعتقل، ليس هذا فحسب، بل إن طاقم أسنان البزاز الاصطناعيّة كانوا قد حرموه منها أيضاً، ويضيف قلت له: يا سيادة الرئيس ليس لي علاقة بالتحقيق، وما سيقوله القانون، (ولا أتدخّل في ذلك)، ولكن الأمر بالنسبة لي، أنظر إليه كطبيب ومن زاوية إنسانية بحتة وتلك هي مهنتي. (حديث خاص في أبو ظبي مع فرحان باقر، العام 2013).
ويضيف باقر في روايته: أن البكر فوجىء بتلك الأخبار، وقرّر جلب البزاز إلى القصر الجمهوري لفحصه، وهذا ما حصل، وحسب باقر يبدو أن الرئيس البكر لم يكن يعلم ما يجري في المعتقلات، وتكرّر الأمر مع أستاذ جامعي آخر، كما يقول، وهو استنتاج يؤكّد أن الأمن والمخابرات كانت "دولة داخل الدولة"، فهي فوق الحزب الحاكم، بل إنها بالتدريج أخذت تدير حتى الحزب بدلاً من أن تخضع إليه، وهي التجربة ذاتها التي عاشتها البلدان الاشتراكية السابقة وجميع البلدان ذات الأنظمة الشمولية.
وقد سمعت من عامر عبد الله الوزير الشيوعي (1972 – 1978) قصصاً عجيبة، بما فيها حين أصبح لبعض الوقت وزيراً للداخلية بالوكالة، وقد نقل لي شبيب المالكي، أن بعض المتشدّدين كان قد اعترض على كون عامر عبد الله وزيراً للداخلية بالوكالة لخطورة المسألة، فما كان من البكر إلاّ وأنْ خاطبهم بغضب: الجماعة معنا، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ وكان عامر عبد الله قد حاول تخفيف أحكام الإعدام التي صدرت بحق ظافر حسن النهر وأربعة من رفاقه من جماعة "جيش التحرير الشعبي" ومن بقايا القيادة المركزية، ووعده البكر خيراً، إلاّ أنه عند المراجعة الثانية، اتّضح أنهم أعدموا بعد لقائه ومحاولته الأولى مع البكر (العام 1974).
ويستنتج باقر أن المخابرات (ما يسمى يومها العلاقات العامة هي امتداد لجهاز حُنين السرّي، وهو جهاز صدامي) أصبحت ومعها الأمن تحت إدارة صدام حسين (النائب حينها)، ويضاف إليها مكتب الإعلام القومي، وأن البكر كان يتصل بنائبه ليطلب منه المساعدة لحل هذه القضية أو تلك (ص 44 – 46 وص 60)، وحسبما هو معروف، ليس كل ما كان يطلبه البكر كان يتم تنفيذه، وتدريجياً أصبح يسمى صدام حسين، "الرجل الأقوى في الحكم"، حتى حان الوقت ليكون "الرجل الأول" في العام 1979.
وقد سبق أن روى لي صلاح عمر العلي عضو مجلس قيادة الثورة سابقاً وعضو القيادتين القطريّة والقوميّة، قصة تعذيب وزير الصحة السابق شامل السامرائي، وهي التي كانت إحدى أسباب الخلاف والاحتكاك بينه وبين القيادة، وأنه طلب التحقيق بشأنها، وتم تشكيل لجنة وجيء بالسامرائي إلى القصر الجمهوري، وكان في اللجنة طه ياسين رمضان (الجزراوي)، وفي اجتماع للقيادة قدّم تقريره بأن السامرائي أجاب بنفسه أنه لم يتعرّض للتعذيب، وهكذا كانت تسير الأمور (حديث خاص مع صلاح عمر العلي – لندن 1990).
اللقطة الثانية – زيارة غريشكو وزير الدفاع السوفييتي إلى بغداد، حسبما يروي فرحان باقر أن الجنرال أندريه غريشكو وزير الدفاع السوفييتي تقرر أن يزور العراق (بغداد) في أيار (مايو) 1972. وأعتقد أن التاريخ الدقيق هو العام 1971، وقد ارتبط هذا التاريخ بذاكرتي باعتقال ثابت حبيب العاني بعد خروجه من اجتماع كان قد ضمّه مع عزيز محمد (عن الحزب الشيوعي) في بيت مظهر المطلك، وصدام والرئيس البكر (عن حزب البعث) في مفاوضات بخصوص حلحلة بعض القضايا، ولا سيّما بعد حملة الاعتقال التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية بعد بيان آذار (مارس) العام 1970، وقد رويت حادثة الاعتقال وملابساتها في كتابي عن عامر عبد الله "النار ومرارة الأمل – فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، ودقّقت المسألة لأكثر من مرّة مع منذر المطلك خلال زيارتي إلى عمّان، وهو من قام بإيصال ثابت العاني (أبو حسّان) بسيارته إلى منطقة الكرادة بعد انتهاء الاجتماع، ولكن الخاطفين الذين كانوا يتابعون السيارة، اطمأنوا إلى أن العاني ترجّل منها وأنها ابتعدت عن المكان، فقاموا باختطافه ونقله إلى "قصر النهاية" ليتعرّض إلى أبشع تعذيب. (1 أيار/ مايو/ 1971).
وكنت قد وصلت براغ قبل فترة قصيرة، وكُلفت حينها بترؤس وفد من الشيوعيين العرب لمقابلة السفير العراقي في براغ، احتجاجاً على اعتقال ثابت حبيب العاني، في حملة نظمناها في الخارج، وهو ما رواه السفير محسن دزئي في مذكراته أيضاً، وقام بنقل صورة عن مذكرتنا الموجّهة للرئيس البكر، إلى وزارة الخارجية العراقية، وقال إذا لم يكن لديكم مانعاً، فسأنقل صورة عنها إلى الملاّ مصطفى البارزاني، فرحّبنا بذلك.
كان من المؤمل أن يزور أندريه غريشكو بغداد، لكن الزيارة تأجّلت، وفهم الجانب العراقي أن السبب هو اعتقال ثابت حبيب العاني عشية الزيارة، ووعد بإطلاق سراحه، وهو ما حصل عند زيارته فعلاً، وسافر العاني بعدها للعلاج من اثر التعذيب الذي تعرّض له.
وهنا حصلت المفارقة التي يتحدّث عنها فرحان باقر، فقد أصيب غريشكو بمرض مفاجىء عند قدومه إلى بغداد (أيار / مايو/ 1971) وكان الرئيس البكر قد أسند علاجه إليه، في ظرف سرت فيه شائعات كما يقول عن تسميمه، ولذلك اهتم به المسؤولون العراقيون كثيراً وعلى نحو مبالغ. ويقول باقر: إن المرض انحسر خلال 72 ساعة (ص 69).
اللقطة الثالثة – سفر الرئيس البكر إلى جنيف، ويروي فرحان باقر قصة سفر الرئيس البكر إلى سويسرا، وحسب روايته: أن البكر هاتفه وأعلمه بنيّـته السفر إلى جنيف للاستشفاء والاستجمام، منتهزاً وجود صهره السيد منذر المطلك سفيراً للعراق، وعرض عليه رغبته في مرافقته، علماً بأنه كان ينوي السفر إلى براغ مع عائلته كما يقول للعلاج، واتفقا على اللقاء في جنيف حسب قول فرحان باقر.
وقد سألت منذر المطلك عن زيارة البكر إلى سويسرا، وروى ما يلي: اتصل بي (عمي) الرئيس البكر شخصياً من بغداد، وقال: أنا أحضّر حقائبي للسفر إليكم، وكانت هذه هي السفرة الأولى (تموز/ يوليو العام 1982)، ومكث فيها شهراً كاملاً في جنيف. أما السفرة الثانية، فإنها لم تتم، حيث يقول المطلك: اتصل بي عدنان خير الله وزير الدفاع في حينها، وقال لي: (عمّنا) في وضع صحي سيّىء جداً، وكنّا ننوي إرساله بطائرة خاصة إليكم، لكن الرأي استقرّ على استقدام أطباء له من بريطانيا، خصوصاً بارتفاع نسبة السكر في الدم، ويمضي إلى القول إن هؤلاء جاؤوا فعلاً، ولكنه توفي بعد فترة قصيرة. وبالمناسبة فقد توفي البكر في شهر تشرين الأول (أكتوبر) العام 1982.
وكانت قد سرت شائعات في حينها عن ضغوط كان قد تعرّض لها الرئيس البكر، بسبب اعتقاد أن الجيش ما زال يميل إليه، وبما أن العراق في حالة حرب، بل في مأزق، خصوصاً بعد معركة المحمّرة "خرمشهر"، وانسحاب القوات العراقية (في أيار/ مايو، العام 1982)، فلا بدّ من التفكير في حلول ومعالجات من شأنها أن تستجيب للتغييرات الحاصلة. وهو ما دفع الدكتور رياض إبراهيم حسين وزير الصحة الأسبق، إلى تقديم اقتراح يمنح البكر دوراً في المشهد السياسي، لا سيّما وأن نفوذه في الجيش كبير، والهدف هو استقطاب العسكريين وزيادة حماستهم، كأن يكون أميناً للقيادة القومية بدلاً من ميشيل عفلق، وهو الاقتراح الذي أودى بحياته كما قيل، فقد تمّت تصفيته في ظروف غامضة ودون تهمة محدّدة، ومرّت "الفعلة" بصمت ودون أي سؤال عن مصيره. وكان رياض إبراهيم حسين هو المشرف على علاج البكر في حينها، لكنه استبدل على نحو مفاجىء ليكون بدلاً عنه الدكتور صادق علوش.
وحسب رواية فرحان باقر أن هواجساً كانت تقف وراء استبدال سفر الرئيس بتوفير العلاج له في بغداد، باقتراح من الرئيس صدام حسين. وأياً كانت الدوافع، فإن البكر لم يسافر، كما روى المطلك، ولكن للقصة ذيول أخرى، حيث يقول فرحان باقر: لكنني مضيت في خططي للسفر، فاتجهت حسب الحجز إلى المطار، وإذا بي أفاجىء بمنعي من السفر، الأمر الذي يعني أن هناك من كان يتنصّت على مكالماتي مع الرئيس البكر ولا يريدني السفر معه.
وعلِمَ الدكتور فرحان باقر لاحقاً أن جواز سفره موجود في دُرج الرئيس صدام حسين، وذلك من خلال سكرتير رئيس مجلس قيادة الثورة طارق حمد العبد الله، الذي قضى منتحراً في العام 1986، وهو ما دوّنه الصحافي ليث الحمداني في كتابه "أوراق من ذاكرة عراقية – هوامش من سيرة صحافية" (الصادر عن مطابع دار الأديب، عمان، 2016)، والعبدالله هو من قام بإعادة جواز سفر فرحان باقر إليه بعد حين. (حديث خاص مع فرحان باقر في أبو ظبي، العام 2013 وآخر مع منذر المطلك في عمان 2007)، كذلك انظر: (ص 88 – 91 من كتاب فرحان باقر).
وبعد، فالكتاب بكل ما فيه يُقرأ من الغلاف إلى الغلاف بمتعة حقيقية، وهو عبارة عن سردية جميلة لعراق الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات، في مجالات مختلفة من الطب إلى التعليم ومن الاجتماع إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى الإدارة، ومن الشارع إلى الرياسة، وهو مكتوب حسب قناعتي بلغة شفافة ورقيقة وتكاد تكون عفوية، مثلما هو مكتوب بكثير من التهذيب والأخلاقية.
إنه كتاب يستحق القراءة لشخصيّة تستحق التكريم والاحتفاء، والدكتور فرحان باقر، قدّم زهرة شبابه وعلمه وجهده إلى العراق، ورغم شيخوخته فما زال حالمًا بأيام أكثر أمنًا وسلامًا وعدلًا.