تراها فتتأكد أنَّ شيئًا مغايرًا عن المألوف فيها، طرأ على حالها، قد يؤثر سلبًا أو إيجابًا على مآلها. التجربة لا زالت قيد متابعة (عن كثب وبتُؤدة) أطوارها، في ظروف الكل قائم يتحسس ظاهريًا أو في السر أسبابها كمسبباتها، دفعًا إلى التعميم العلني (إن نجحت) بما تستحقه من تمكين النصف على واقع أرضها، تطال مجالات لها في الأدنى كالأقصى أهميتها، طبعًا الدهشة ترافق "للمرة الأولى" وصولاً لثانيها فوق جسر الأخذ بالثالثة معيار الإبقاء على حسنات وجودها، أو التخلي ما دام المجتمع لم يتقبلها، وهو السيد أنَّ أنيطت به حرية الاختيار بين الاستمرار متعاونًا معها، أو الكف عن مجاراة أبعادها، وبالتالي المطالبة كنضال له مشروع (لحين محدد) برفعها.
تعابير بالمنطق مرصعة مفاهيم وعي أصحابها، نابضة أفئدتهم بما يرضي عقولهم كلما تعلق المقصود بما يجري تدبيره داخلها، مرتبط أساسًا بما يمتزج ماديًا أو روحيًا بالقائمين على خدمة الوطن (بالتخطيط المحكم الأقوم) في العاصمة على مقربة منها، في تناغم لا يُبقي للشوائب فرصة مهما كان حجمها أو ميقاتها، لتعكير صفو أجوائها، القائمة على مناشدة التطور التربع وسطها، لتصبح قطبًا مؤهلة بما يختزنه لبها، المنتشر بسخاء بين أطرافها، اقتصاديًا كالرافع المستوى من حيث خدمات إنتاجها، برًا وبحرًا يُعزز ليس انطلاقة طموحاتها المجازة بالتشريعات والقوانين المعمول بها، وإنما لتعميق جذور استقرارها، في تربة مجد ولاية جهة سماها التقسيم الإداري حتى ساعتها، "الغرب – الشراردة - بني أحسن"، كعاصمة لها ما لها، من مسؤوليات هي أهل لها، وواجبات معروفة في ذات الموضوع بخصالها.
طبعًا الحديث عن "القنيطرة"، ما نسعى إليه في مرحلة خصبة بالتجديد، والبرهان امرأة تقود الآونة تدبير شأنها العام انطلاقًا منها ليشمل النفوذ الترابي للجهة المذكورة وبأدق تحديد.
الأمر شيق للغاية بالنسبة للقنيطرة، وفيها كأعلى سلطة على مستوى جهتها "والية"، تتصدر قائمة المحظوظات في عهد ملك شرَّف المرأة قولاً وفعلاً وسمى بها لأرفع الدرجات وأدق وأخطر المسؤوليات، في ثقة لم تحظ بها نساء في كبريات الدول الممتدة من البحر إلى النهر بما فيها جمهورية مصر العربية، التي لم يصل لعلمنا أنَّ الدولة ذاتها عيَّنت امرأة بدرجة "محافظ"، على الرغم مما تتمتع به الشقيقة الكبرى من مستوى تعليمي كان الأرقى والأشمل لعقود طوال، نسجل هذا كحقيقة مستمدة من احترام خصائص الوظيفة اللاعادية بكل المقاييس، رغم انضباطها للقوانين المعمول بها في الإطار، مُلْزَمُ من يتحمل عبء ثقلها (بكل ما تعنيه الكلمة من ثوابت أو اجتهادات قائمة على خلاصات علمية مدروسة أكاديميًا بجدية وليس تصورات أو تخمينات سابحة في متاهات لا تحصرها نظرية معينة) بالتوفر على ذكاء غير عادي هو الآخر، مادام الهدف في الأول والأخير ضمان استمرارية السلم الاجتماعي داخل المساحة المعهود تدبير ما يتعلق بنفوذها الترابي وفي كل المجالات، ومنها السياسية المعروفة جوهرًا وسطحًا بكل تياراتها، وتجاعيد أوجهها، ومراميها الداعية للقلق، المتقدمة بمراحل عن الباعثة للاطمئنان، إذ في مثل المقامات، لا مكان للعواطف الجافة كالجياشة، ولا استلطاف لغاية حصول الصدف، المكلفة المطمئن للاطمئنان الزائف ما تكلف، كأقل تقدير خروجه عن الصف، واستحضار المساءلة له كهدف، ليعود كبش فداء أو يُقذفَ به في أحقر كهف.
مرتبة الوالي / الوالية ليست بهرجة أو انتفاخ أوداج، أو الغرور المفخخ بشخصية معتلة بالازدواج، أو موجة في بحر متى وصل لشط هاج، أو ركوب آخر أصناف السيارات وألمعها لونًا وأنظفها صورة وقتما لذاك احتاج، لا يحس راكبها بالصداع من كثرة الارتجاج، وعن اليمين رجال الأمن وفي اليسار مكلفون بأخذ الحذر والتبليغ المسبق لحدوث ما يندرج في الخطر كأن العريس أو العروسة في هودج، وفي الأمام مَن يفسح الطريق بأسلوب غير المتخصص في المهنة لتعبه لا يطيق ينبع من كل جسمه عرق مثلج، ومن الخلف أياد ممدودة لأخذ نصيبها من المنافع بعدما خدعتها بل خذلتها ظروف عيش أصابه الاعوجاج.
القضية أكبر من ذلك وأزيد، لا يمكن اختزالها في جمل معدودات ولا اختصارها بمعالجة القشور وترك الدواخل، قضية منصب النوم فيه الساعات المفروضة وبالعمق المطلوب للحفاظ على رشاقة المخ (غالب الأحيان) مفقود، كما الأكل في أوقات معلومة بالقطع محذوف، أيضًا التمتع الأسري بخصوصياته المتعارف عليها منعدم، الهاتف بالنسبة للمتحمل مسؤولياته في يسراه والقلم في يمناه وعند الوسط الترقب بتمعن شديد للمستجدات على طول الوقت باستثناء الافتراء على العياء بما قلّ، بعيدًا عن وقوع أي خلل.
مرة كنتُ جالسًا مع والي ولاية في الشمال أحيل على التقاعد، أكن لذكراه الود والاحترام، نتبادل الرأي (بطلب منه) عن الصحافة المحلية، والدور الحيوي الذي من المفروض القيام به لتوعية الرأي العام وتنبيهه للمجهود المبذول من طرف السلطات المحلية كالإقليمية خدمة للوطن وعامة المواطنين، فإذا الهاتف يرن، وسمعته يرد بالحرف الواحد:
احتراماتي معالي الوزير، حاضر.
أردت الانصراف فأبقاني بإشارة، لأسمعه مخاطبًا وزير الداخلية وكان ساعتها الراحل إدريس البصري، الذي جمعتني به دقة الظروف أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1975 في مدينة أغادير مباشرة بعد عودتي من الجزائر، بأمر منه وليس من تلقاء نفسي.
سمعتُ السيد الوالي يجيب:
- لكنه العنصر الأكثر استقامة والأكفأ عملاً عندي كقائد في تلك الجماعة القروية.
- حاضر معالي الوزير، السمع والطاعة .
استفسرتُ بحس صحافي لا يُفَوِّتُ المناسبة للحصول على معلومة يحقق بها سبقًا، ولحسن الحظ وجدتُ استعدادًا لثقته في شخصي المتواضع، ليطلعني بما تضمنته المكالمة جملة جملة، إذ حكا لي
معالي وزير الداخلية السيد إدريس البصري أمرني بتوقيف القائد (...) عن العمل، كرئيس للسلطة في جماعة (...)، طبعًا أنت أستاذ مصطفى منيغ تعرفه عن كثب، وتدري مدى مصداقية عمله كقائد واعي مثقف محترم عن تصرفاته الإنسانية واجتهاده في إطار إخلاصه للعمل وتفانيه في أداء مأمورياته الوظيفية متحصنًا بالقانون أحسن أداء، ومع ذلك يقول عنه وزير الداخلية أنه غير صالح ليكون رجل السلطة، معتمدًا على مجموعة من الناس يصل تعدادهم العشرين، وصلوا لمقر الوزارة على متن شاحنة، يتزعمهم رجل، شخصيًا أعرفه منعدم الضمير، شرير للأقصى، يرى مصالحه في الافتراء على الغير، والتوسط مقابل مبالغ مالية، كوَّن بها ثروة مقارنة مع الاقتصاد المحلي لتلك الجماعة، وقد سبق أنَّ رفعتُ تقريرًا بشأنه، محدّدًا موقفي منه، وأمثاله، منتظرًا أي تعليمات تمكنني من أداء واجبي في حقه، لكن لمعالي الوزير رؤية خاصة في الموضوع ملخصها (من يترك شاحنة تنطلق بما انطلقت به من جماعة قروية يتحمل مسؤولية تدبير شأنها العام في شطرها التنفيذي حتمًا لا يصلح أنَّ يكون قائدًا، أو رئيس سلطة محلية، مهما كانت أخلاقه مثالية، وأداؤه للواجب مُقدّر ومُعجبٌ به من طرف رئيسه المباشر، عاملاً كان أو واليًا).
طبعًا استوعبتُ الدرسَ جيدًا، وما يُصاحب أداء الواجب (في تخصصات وزارة الداخلية) من عمق فهم مباشر أنَّ "الاتحاد ولو كان قائمًا على باطل يخدمُ مصالح من سعى إليه على انفراد، نأيًا عن اقتسام المنافع المُدركة، إقصاءً للفتنة بأقل الأضرار الممكنة".
القنيطرة مدينة ومحافظة وولاية وجهة، مكانتها كمقامها، أصعب من الصعب، وأشد صمودًا حينما يُطلب منها لأسباب سياسية صرفة عن مواقفها الانسحاب، أو تبديل انتسابها لمنهج تراه لمصيرها التنموي الأنسب، بجديد انتساب، عن خضوع لمن ظن في نفسه كحزبه لخدمة الطموحات المشروعة أقرب من الأقرب، تلك وضعية لمن يتصدى بالحلول وليس الترقيعات إبقاءً لهيبة الدولة كره من كره وأحب من أحب.
لا بد وأن تكون الوالية الجديدة على الجهة تمتاز بشيء يليق وطليعة المسؤولية الكثيرة العبء على متحملها ذكرا كان، أو تزيد من ذلك أنَّ خص الأمر أنثى، لعوامل شتى، أبرزها اختصارًا:
التواصل البشري الآتي من الشمال في اتجاه العاصمة يُمتص غضبه في القنيطرة، امتصاصًا لا يُلمَس لكنه يُحس، يُمنع من التقدم، أو يُخفف من ضغطه ليواصل المسير، بتقنيات في التدخل لا صلة للعامة بها ولا حتى نسبة عالية من المسؤولين ذوي المناصب السامية، لذا تتمركز "المراقبة عن بعد" بآلياتها الحديثة ورجالها المختصين الدارسين في محطات خارجية منها الشرقية وأيضا الغربية والأهم منهما الأميركية، في حيز ما من القنيطرة، صمام الأمان لاستمرارية الاستقرار على محوري الشمال بالنسبة لمراكز أساسية منها القصر الكبير – طنجة – تطوان، والوسط بالنسبة لمحطات سيدي سليمان – سيدي قاسم، لغاية مدخل فاس، مرورًا على جماعة سبع رواضي القروية التابعة لإقليم مولاي يعقوب.
ويتمثل العامل الثاني في أنَّ القنيطرة مدخل مرشح لأيّة فتنة قد تقع مستقبلاً إنَّ لم تتوحد الجهود ومنذ الآن بضبط الأمور أكثر مما هي عليه الناقصة الجدية طبعًا، المُدَمَّرَة (في جزء منها) بعدم حصر العمل السياسي الحزبي في تأطير المواطنين باطلاعهم على الحقائق حتى يكون في مقدورهم جعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، عوضًا عن ترسيخ الاهتمام على من يقع عليه الاختيار في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة بالطرق المعهودة للأسف الشديد، الفارزة أشكالاً من الصراعات المقصود إشغال الناس بها تبعدهم عن الانتقال للتفكر وتنفيذ متطلبات تقدمهم المحسوب على التطور الحقيقي المنبعث عن إنتاج كفيل بخلق الاكتفاء الذاتي.