دمشق- سانا
يحاول الكاتب الروسي ميخائيل تشيخوف أن يعيد قراءة سيرة أخيه الروائي والمسرحي الروسي الأشهر أنطون تشيخوف في كتابه الصادر عام 1933 ونشرته وزارة الثقافة مؤخراً تحت عنوان "حول تشيخوف.. لقاءات وانطباعات" فهذا التوثيق المقدَّم من أقرب الناس إلى "تشيخوف" لا يعتبره المؤلف عملاً توثيقياً بقدر ما هو نفحات من هنا وهناك لذكريات خاصة ونادرة تغني تصورنا لشخصية واحد من أهم أدباء العالم على مر العصور. وفي حكاية لطيفة يروي لنا مؤلف العمل كيف التقى تشيخوف بالموسيقي العظيم تشايكوفسكي الذي قام بإهداء صاحب "بستان الكرز" صورة فوتوغرافية له كتب عليها.. "إلى أنطون بافلوفيتش تشيخوف من عابد متحمس 14 تشرين الأول 1889" فرد تشيخوف على تلك الرسالة بأن أهدى الموسيقي العظيم كتابه الثاني "بشر عابسون" بعد نقاشات جرت بينهما في الموسيقا والأدب. ولا يغفل المؤلف صاحب نظرية "فن الممثل" الرسالة التي أرسلها الكاتب الروسي ديمتري غريغوريفيتش إلى تشيخوف موقعاً عليها بجملة.. "من كاتب عجوز إلى موهوب شاب" وفي مناسبة ثالثة يكشف لنا الكتاب الذي نقله إلى العربية المترجم زياد الملا عن لقاء جرى بين تشيخوف وتولستوي في العام 1895 بينما لم يذكر لنا المؤلف أي لقاء جمع بين صاحب مسرحية "النورس" ومكسيم غوركي إلا أنه دائماً ما يحكي عن مواقف تشيخوف الداعمة لصاحب رواية "الأم" المعارض للسلطة الاستبدادية حتى أن تشيخوف في إحدى المناسبات تخلى عن لقب الجنرال العزيز على قلبه والذي كانت أكاديمية العلوم منحته إياه بعد أن عرف أن هذه الأخيرة فصلت "غوركي" من عضويتها بسبب مواقفه السياسية. ومما يثير ذكره أن تشيخوف الشاب نشر أول أعماله الأدبية في صحيفة "اليعسوب" التي ردت على إلحاحه على نشر إحدى قصصه وبعد طول مراسلته لها بالعبارة التالية.. "ليست رديئة على الإطلاق.. موافقون. مع التأييد اللاحق" لكن المجلة ذاتها عادت وردت عليه بعد نشر بعض أعماله.. "لم تبلغ مرحلة الريعان وإذا بك تذبل.. شيء مؤسف للغاية وهل أنت غير قادر على الكتابة دون موقف نقدي من القضية" الأمر الذي جعل هذا الكاتب الكبير يتنقل في النشر بين عدة صحف معروفة في ذاك الوقت حتى بات كاتباً في معظم المجلات الروسية آنذاك ولم يدعمه في ذلك سوى موهبته وإصراره ودعم أبناء أسرته التشيخوفية كما أُطلق عليهم والذين لم يدنوا موهبة عنه. سافر تشيخوف إلى "ساخالين" بسيبيريا في رحلة قاسية التقى فيها المساجين المنفيين وذاق معهم مر العيش وعنهم قال: "ساخالين هي مكان الآلام التي لا تطاق.. لقد أهلكنا في السجون ملايين الناس وأهلكناهم سدى ودون محاكمة للأمور وبصورة همجية.. والآن تعرف أوروبا المثقفة كلها أن المذنبين ليس الحراس بل نحن جميعاً" وكان تشيخوف قبلَها قد جاب أصقاع روسيا مسجلاً ملاحظاته التي أفادت غير مرة في تنوع حبكات قصصه وغنى شخصياتها ولم تك رحلاته إلى أوروبا بأقل إفادة. ويسهب مؤلف الكتاب في سرد حكايات الأسرة التي تربى فيها أخوه تشيخوف الصغير متشبعاً من حكايات الأم والخالة المتميزتين بموهبة القص الرائع الذي أثر في تنمية خيال الحس الأدبي لدى تشيخوف وإخوته بالإضافة إلى دور الأب الذي ما فتئ يسعى إلى تنوير أبنائه وحثهم على العلم على الرغم من ضنك حاله وإفلاسه الدائم فظهر دور الأسرة واضحاً في حياة صاحب مسرحية "الدب" فأفراد أسرته رافقوه في رحلة إبداعه حتى ما قبل زواجه الغريب والمفاجئ من الممثلة المسرحية "أولغا كنيبير" قبل ثلاث سنوات من وفاته. اكتظت "ميلخوفو" القرية التي قضى فيها تشيخوف مع أسرته نحواً من الزمن بالبشر بحيث لم يعد ثمة مكان لأحد وكان الزائرون من الكتاب الشبان والفتية والمرضى ورجالات المنطقة والأطباء المحليين والأقارب يتقاطرون جماعات على منزل الطبيب الأديب الذي لم يبخل بوقته ولا بمساعدته لكل طالب حتى أصبح منزلُه قبلةً لكل مهتم رغم أن المرض بدأ ينشر سمه في صدره ورغم ضيق حاله الذي انكشف عندما باع أعماله الأدبية بيعاً قطعياً للناشر الروسي "أدولف ماركس" بمبلغ 75 ألف روبل دفعها الناشر على أقساط. ورحل أنطون تشيخوف في الرابع من تموز عام 1904 بعيداً عن عائلته بعد أن فتك المرض به في ريعان شبابه عن عمر ناهز 44 عاماً بين يدي زوجته التي لم يتحدث عنها المؤلف في كتابه موصياً بميراثه لشقيقته ماريا التي حافظت على إرث شقيقها بتأسيسها لـ "دار ومتحف أنطون بافلوفيتش تشيخوف في يالطا". لم يكن ميخائيل تشيخوف مؤلف الكتاب شقيقاً فحسب بل كان أديباً حيث كتب هذه الذكريات بصدق باهر ودفء ولغة جيدة وبسيطة كما يكشف عنوان الكتاب مضمونه على نحو موفق للغاية فلا تكمن أهمية الكتاب في سرد تفاصيل جديدة عن تشيخوف فقط بل أيضاً في سرد حكايات أولاء المعاصرين لبطلنا في توثيق لنمط الحياة والعلاقات الاجتماعية ونماذج الأشخاص في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مضيفاً بذلك إلى توثيق أخيه الأكبر أنطون تشيخوف لحياة أولاء البشر في قصصه بعداً جديداً. يذكر أن كتاب "حول تشيخوف" صادر عن الهيئة السورية للكتاب ويقع في 279 صفحة من القطع المتوسط والمترجم زياد الملا من مواليد دمشق حائز على ماجستير آداب من جامعة باتريس لومومبا عام 1968 وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب له ترجمات عديدة عن الروسية أهمها.. "المجلد الخامس من أعمال بليخانوف الفلسفية.. قضايا البحث الفلسفية في الفن.. فرويد التحليل النفسي والفلسفة الغربية المعاصرة.. الحركة العربية في المشرق.. حياة فيثاغورث وفلسفته".