دمشق ـ سانا
كانت الأرض السورية عبر التاريخ مهدا لأول المعتقدات البشرية التي ازدادت عمقا عبر العصور وما ذلك إلا بفعل التنوع الحضاري والتراكم الثقافي المستمر منذ البداية القوية للعقائد التي سادت في عصر النيولين الحجري الحديث وقد انتظمت ضمن نفس السياق المعرفي لتحقق نضوجها وذلك خلال العصور التاريخية بعد أن أكسبتها التبدلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثراء وتلونا قل نظيره.
ويسعى الدكتور محمود حمود من خلال كتابه الجديد الديانة السورية القديمة خلال عصري البرونز الحديث والحديد إلى إلقاء الضوء على ملامح تلك الحياة خلال الفترة الممتدة من بداية عصر البرونز الحديث حتى نهاية عصر الحديد أي بين منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وحتى دخول الإسكندر لسورية وهي الفترة التي شهدت بزوغ شمس عدد من الممالك والإمبراطوريات وأفول أخريات.
ويرصد الكتاب أثر التغيرات الحاصلة على الفكر الديني المتجلية بكثير من أشكال العبادة كالآلهة وبيوتها وطقوس وممارسات دينية أخرى إضافة إلى رصد المصير الذي آلت إليه الكثير من أوجه العبادة الدينية المحلية والتأثير الذي تركته الديانة السورية على سكان المناطق المجاورة والتأثر الذي طالها أيضا من هذا الجوار وحالة التلاقح الناشئة عن هذا التداخل الحضاري.
ويشير الدكتور حمود في تصريح لـ سانا إلى أنه سعى من خلال كتابه إلى إيضاح جوانب مهمة من الحياة الدينية القديمة في سورية بما تتضمنه من عقائد وطقوس وممارسات كانت قد رافقت المجتمع السوري خلال عصري البرونز الحديث والحديد 1600 333 ق.م وهي الفترة التي شهدت الكثير من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة فبزغت خلالها العديد من الممالك والإمبراطوريات وأفلت أخرى وتواصلت شعوب وتلاقحت ثقافات وهذا ما انعكس على كل جوانب الحياة بما فيها الدينية منها فتجلى ذلك واضحا في العبادات والشعائر والميثولوجيا وكل أوجه الحياة الدينية.
ويضيف حمود” إن الكتاب يرصد أوجه الحياة الدينية ويقدم عرضا بانوراميا وصفيا وتحليليا لها معتمدا على أحدث الدراسات الأثرية والتاريخية المستندة إلى النصوص المكتشفة في المواقع الأثرية وعلى آخر نتائج ومعطيات التنقيب الأثري الذي أجرته البعثات الوطنية والأجنبية العاملة في سورية بهدف تقديم مادة علمية لقارئ العربية تطلعه على ثراء الحضارة السورية الغابرة التي تميزت عبر العصور بالتسامح والأصالة والقدرة على الاستمرار.
وقد قسم البحث لخمسة أبواب يتألف كل باب من عدة فصول سبقتها مقدمة وعرض تاريخي مختصر لأهم الأحداث والمتغيرات السياسية التي حصلت في سورية خلال فترة البحث.
وتناول الباب الأول الآلهة السورية في أوغاريت وقطنا والالاخ وإيمار والآلهة عند الفينيقيين والآراميين وتناول الباب الثاني المعابد السورية في أوغاريت والالاخ وإيمار وإيكلتي وتل براك ومعابد المنطقة الساحلية ومعابد العصر الارامي أما الباب الثالث فقد خصص للطقوس الدينية ومنها الاحتفالات والأضاحي والصلوات والكهانة والتنجيم والسحر ويعرض الباب الرابع للموت وتقديس الأسلاف أما الباب الخامس والأخير فيتناول موضوع التفاعل الديني بين سورية وجوارها كما يظهر في أوغاريت وإيمار والتفاعل السوري المصري والتفاعل الديني الآرامي الحثي اللوفي وينتهي البحث بعرض للخاتمة والنتائج ثم المراجع وملخص باللغة الإنكليزية.
ويشير حمود إلى أن الهدف الأساسي من وراء الكتاب هو تسليط الضوء على الفكر النبيل والاصيل الذي أنبتته الأرض السورية والذي كان ساميا وعابرا للقوميات أشرقت فضائله خيرا ونورا على أربع جهات الأرض.
ويرى حمود أن الكثير من السوريين عرفوا قيمة وطنهم منذ سالف الأزمان ومنهم ملاغر الشاعر القديم الذي عبر عن ذلك بقوله” أيها الغريب إننا نقطن بلدا واحدا هو العالم وشيئا واحدا أنبت كل البشر” وأردف بعده الشاعر الآخر فيلوديمي موضحا حقيقة وجوهر الفكر السوري النبيل الذي استطاع أن يستوعب كل الديانات والاجناس “يبدو أن الأقدار أسمتني محب الناس لأنني اشعر برغبة ملحة لشخص اسمه الإنسان”.
وقد استطاع البحث أن يظهر القيمة العالية للعنصر الروحي في الفكر السوري القديم الذي ترتبط به منظومة السلوك الاجتماعي التي تحكم العلاقة بين أفراد نفس المجتمع وكذلك علاقة المجتمع مع المجتمعات الأخرى وتعد قدرة هذا الفكر على الاستمرار والتطور والتكيف والتفاعل مع محيطه الحيوي أهم ملامح الفكر الديني السوري على الإطلاق.
ويبين البحث أن الكثير من تفاصيل المعتقدات بما فيها أسماء الآلهة والطقوس والممارسات الدينية لم تظهر فجأة للوجود خلال عصري البرونز الحديث والحديد بل كان لها وجود مؤكد منذ الألف الثالث أو قبل ذلك ومن الامثلة على ذلك عبادة الآلهة وعبادة وتقديس الأسلاف وغيرها.
ويشير إلى أن التسامح والأصالة والاستمرارية أحد أهم السمات التي تحلت بها العقلية السورية عبر التاريخ والتي استطاعت من خلالها أن تهضم وتكيف الكثير من المؤثرات الخارجية بما فيها الدينية منها.