باريس ـ وفا
صدر قبل عدة أيام في العاصمة الفرنسية باريس كتاباً في النقد الأدبي للدكتورة رابعـة حَمو بعنوان: 'المشهد الأندلسي للشاعر محمود درويش' (L’Épilogue Andalou de Mahmoud Darwich) ، وذلك عن دار نشر ليه فواليه دي مير (Les Voiliers de Mer) في فرنسا. الناقدة الفلسطينية رابعة حَمو من مواليد مدينة دمشق، وأصل عائلتها من مدينة يافا حصلت على لقب الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس، وتعمل حالياً كمحاضرة للّغة العربية في المعهد العالي للّغات والحضارات في باريس.
ويعدّ هذا الكتاب النقدي الأول من نوعه في اللغة الفرنسية الذي يتناول شعر الراحل محمود درويش، الذي سبق وأن تُرجمت أشعاره الى اللغة الفرنسية بفضل صديقيه المؤرخ إلياس صنبر، والكاتب والناشر فاروق مردم بك، الذي نشر أكثر من ستة دواوين للشاعر محمود درويش عن دار نشر أكت سود التي يترأس فيها القسم العربي.
ويعدّ هذا الكتاب الصادر حديثاً مدخلاً مهماً للقارئ الفرنسي لفهم شعر وفلسفة محمود درويش. إذ لا تقوم هذه الدراسة على تحليل القصائد فحسب، بل تذهب عميقاً في نبش فكر درويش من خلال أبيات شعره وذلك بفضل الإطار المنهجي الفضفاض لنظرية التناص. الذي لا يقف على تحليل النصوص فقط بل يكشف أيضا عن قدرة درويش الكبيرة في توظيف التناصات المتنوعة في الشعر والتاريخ والانثروبولجيا والكتب المقدسة الثلاث: القرآن، الانجيل، التوراة.
وتقوم هذه الدراسة بشكل أساسي على دراسة ديوان أحد عشر كوكباً للشاعر درويش والصادر عام 1992 أي بعد عام واحد من مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر مدريد عام 1991. هذه الظروف المعبأة سياسياً وتاريخيا كانت الأرضية التي ارتكز عليها ديوان الشاعر. ويُقسم هذا العمل وهو من الحجم المتوسط ويقع في 240 صفحة إلى مقدمة وكلمة وست أقسام وخاتمة.
الكلمة للفيلسوف الفرنسي إيف لوتورنور. والمقدمة للدكتور صالح خليل سروجي من جامعة بايروت في ألمانيا. أما التمهيد فانقسم إلى جزئين. الاول ويتناول التطور التاريخي للشعر الفلسطيني منذ النكبة عام 48 وحتى الانتفاضة الأولى 87. أما القسم الثاني من التمهيد فقد تحدث عن الشاعر محمود درويش. وجاء التحليل في ستة أبواب رئيسة تُعتبر هي القصائد الست المكونة لديوان 'أحد عشر كوكباً' الصادر عام 1992. وقد حملت هذا الأبواب العناوين التالية:
أحد عشر قصيدة على سقوط غرناطة : نظرة إلى مستقبل فلسطين.
وفي هذه القسم يتكئ درويش على التاريخ كمحور أساسي له. ويعود هذا الاختيار لسببين، الأول: هو رواية اللحظات التاريخية الأخيرة (للابطل anti-hero ) الذي يدل على (الأنا العربيةmoi-arabe ) مجسدة بالملك عبد الله الصغير في لحظة تسليمه لمفاتيح غرناطة لملكي إسبانيا فرناندو وإيزابيل عام 1492. والثاني: أن هذه اللحظة المأساوية تثير في الوقت ذاته مأساة ذات وجهين: الأندلس وفلسطين. حيث يستبدل درويش صورة الأندلس كأرض ضائعة أو جنة مفقودة عاشت على أرضها ديانات ثلاث بصورة أخرى من الزمن الحاضر وهي أختها التوأم فلسطين أرض الديانات الثلاث على الناحية الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
أما القسم الثاني فحمل عنوان (الهندي الأحمر الجديد: الهندي الأحمر الفلسطيني). وفي هذا القسم استكمل درويش قصة نهاية الحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية والتي انتقلت فصولها الدامية للطرف الآخر من المحيط الاطلسي عند شعب الهنود الحمر. وعلى ضوء هاتين الحلقتين التاريخيتين جمع محمود درويش بين مأساة الهنود الحمر في أمريكا في الماضي البعيد وبين الفلسطينيين ومأساتهم في العصر الحالي. والواقع أن هذين الشعبين عاشا نفس التجربة الانسانية. ولذلك لا غرابة البتة أن يتكئ درويش في هذه القصيدة على الخطبة التي ألقاها سياتل وهو آخر زعيم هندي أمام الرجل الأبيض قبل أن يُسلّم له أرضه ويرحل إلى محمية هندية أعدتها الحكومة الأمريكية لهذا الغرض.
أما القسم الثالث فحمل عنوان (أرض كنعان : أرض الميعاد)
يعود بنا درويش في هذا القسم عبر الزمان والمكان إلى أرض فلسطين، وعلى وجه التحديد إلى مدينة أريحا حيث يصبح البحر الميت محور الرحى الذي يدور حوله هذا القسم. وقد أراد الشاعر أن يحيي ذكرى هذه المدينة بالعودة إلى التاريخ البعيد وهو زمن الكنعانيين. وذلك ليصف التطور الإنساني والحضاري الذي وصلت له هذه الحضارة في شتى الميادين بدءاً من الزراعة وأساليب الري المتطورة في زمنها، وانتهاء بالحروف الهجائية التي قدمتها للإنسانية من جهة.
أما القسم الرابع فحمل عنوان (نكبة فلسطين : تراجيديا سوفوكليسية).
في هذا القسم ينقلنا الشاعر إلى العصر الحالي ليظهر جدلية 'الأنا الفلسطينية' في علاقتها مع 'الآخر/ الإسرائيلي. وتنقسم القصيدة إلى أحد عشر مشهداً يروي فيها الشاعر قصة طرد الفلسطينيين من أرضهم عام 1948، مستخدما صوت الأنا الجمعية (moi-collectif) للتعبير عن هذه المأساة. وفي هذا الجزء يرفع درويش مأساة شعبه وقضيته الى باقي التراجيديات الإنسانية والقضايا الهامة.
القسم الخامس وقبل الأخير حمل عنوان (نشيد إنشاد محمود درويش لـريتا).
أهم ما يميز هذه القصيدة أنها اتكأت على سفر 'نشيد الانشاد' في الكتاب المقدس. يصف فيها درويش علاقة الحب المستحيل بينه وبين فتاة يهودية أحبها في شبابه. وافترق عنها بعد مشاركة هذه الفتاة في حرب الأيام الستة عام 67.
أما القسم الأخير فحمل عنوان: التتار الجدد يحتلون العراق
في هذه القسم أراد الشاعر أن يشجب الغزو الأميركي للعراق عام 1991 ونهب ثرواته وضياع حضارته التي تعود إلى آلاف السنين. وأن يربط بين مأساة العراق في العصر الحاضر ليربطها مع مأساة فلسطين والتي ترمز كليهما الى الهوية العربية المهددة بالضياع في العصر الحديث.
ويعدّ هذا الكتاب هو الجزء الأول من ثلاثية نقدية ستصدر تباعاً عن شاعر فلسطين محمود درويش عن نفس الديوان. وقد سبق أن قدمت الدكتورة حمو دراسة عن روايات إميل حبيبي والذي يعد مع الشاعر محمود درويش والروائي غسان كنفاني قمة الأدب الفلسطيني.