دمشق - سانا
يتناول الباحث والفيلسوف البريطاني روجر سكروتون "الجمال" من خلال طرح أسئلة مفتوحة بقصد إجابة القارئ عنها من دون أن يعطي أحكاماً أو قيماً من ناحية فلسفية وليس تاريخية فالجمال الذي يؤدي دوراً بالغ الأهمية في تكوين العالم البشري ذو قيمة لها أساسها المتين في طبيعتنا العقلانية فينتهج الفيلسوف البريطاني في بحثه منهجاً يشكك في كل الأفكار والطروحات التي تناولت الجمال وأفردته على أنساقها من أدب وموسيقا وعمارة ومقدساتٍ وحتى الجمال اليومي. ويصنف سكروتون الجمال بين أن يكون اهتماماً بالشخص المجسد أو أن يكون قيمةً مجردةً في ذاتها فالجمال هنا يأتي بين التقديس والتدنيس.. الابتذال والبورنوغرافيا.. تفاعل الجمال الإنساني كموضوع للرغبة والجمال الفني كشكل للمعنى وموضوع للتذوق فالجمال وفقاً للفيلسوفين الإغريقيين أفلاطون وأفلوطين قيمة مطلقة نسعى إليه من أجل غايته ومن أجل السعي فقط وليس لأي سبب آخر. هذه الفكرة التي وصلت إلى داخل التفكير المسيحي اللاهوتي وهي واحدة من ثلاث قيمٍ مطلقةٍ تبرر نزعاتنا العقلية متركزة في الحقيقي والجيد.. فالخير والحق لا يتنافسان أبداً والسعي وراء أحدهما متناغم دائماً مع الاحترام اللائق للآخر ومنذ زمن الفيلسوف كيركيغارد إلى زمن وايلد كانت الحالة الجمالية كقيمة مطلقة عرضة للمقارنة بحياة الفضيلة فقصص فلوبير وتخيلات بودلير وإيقاعات فاغنر والأشكال الحسية لكازانوفا كانت قد وصفت باللاأخلاقية من أولئك الذين يعتقدون أنهم رسموا الشر بألوان مغرية. ويفتتح المؤلف كتابه المعنون بـ"الجمال" الذي نقله للعربية المترجم السوري عهد صبيحة ليصدر حديثاً عن دار رفوف بدمشق بعبارة: "قد يحدث الجمال شعوراً بالاطمئنان أو الاضطراب أو القداسة أو النجاسة أو الفرح أو الرضى أو الإلهام أو القشعريرة" إذ ينحي سكروتون هذه النظرة اللاهوتية للجمال متفكراً في الجمال من دون أي ادعاءاتٍ لاهوتيةٍ فالجمال هو موضوع ظهور وليس موضوع وجود وربما باستكشاف الجمال نبحث في عواطف البشر أكثر مما نبحث في البنية العميقة للعالم. "إن أحكام القيمة تتوق إلى أن تكون نسبية أمر حسن للفلاسفة والشعراء وعلماء اللاهوت أن يشيروا إلى الجمال في أرقى صوره" يقول الباحث البريطاني المعروف.. لكن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة إلى معظمنا هو الوصول إلى الترتيب في الأشياء التي تحيط بنا من دون إزعاج حس التناسب عندنا فالاهتمام بالجمال والاهتمام بالحصول على فائدته مع الجيد والحقيقي والنافع كما كتب شيللر: "الإنسان جاد لكن مع الجميل هو يلهو" حيث نمت هذه الفكرة في القرن الثامن عشر لتميز بين الفنون الجميلة والفنون النافعة كالهندسة المعمارية التي يحكم عليها وفقاً لجودة إنجازها لكن العمارة كفن نافع يمكن أن يحتفى بها كغاية في حد ذاتها كشيء ذي معنى جوهري. ويلفت الكاتب إلى أن هناك رأيا قديما حول الجمال فيقول: "إن الجمال موضوع حسي أكثر منه موضوع بهجة فكرية والحواس يجب أن تكون مستخدمة في إدراكه ولذلك حين أدركت فلسفة الفن نفسها في القرن الثامن عشر سمت نفسها علم الجمال وعندما كتب كانط أن الجميل هو ذاك الذي يسعد مباشرةً ومن دون أي مفاهيم كان يقدم تزييناً فلسفياً لهذا التقليد من التفكير وقد صادق توما الأكويني على هذه الفكرة معرفاً الجمال بأنه أول جزء من بحث شامل وهو ذاك الذي يبهج عند رؤيته. وقد ميز روسكين في كتابه "رسامون معاصرون" كما يورد سكروتون بين اهتمامٍ حسي سماه إحساساً واهتمامٍ حقيقي سماه تأملاً وإذا ربطنا الجمال بإحكام إلى الحواس ربما نجد أنفسنا مستغربين لما قام به الكثير من الفلاسفة من أفلاطون إلى هيغل باختيارهم أن يبعدوا حواس الذوق واللمس والشم عن تجربة الجمال فالخواص المميزة للحكم على الجمال من ناحية الموقف غير الغائي للحكم أن تكون مهتماً بالجمال يعني أن تضع كل اهتمامك جانباً فتعتني بالشيء نفسه وهي الفكرة التي بنى عليها كانط نظرية جمال انفعالية إلى حد كبير لكن أن تكون غير غائي تجاه شيءٍ ما لا يعني بالضرورة أن تكون غير مهتمٍ به. ويتوقف سكروتون كفيلسوف معاصر عند ما كتبه أفلاطون عن الحب الحسي الذي يحتفظ ببقائه حياً فناقش بعضهم أنه ليس الجمال الذي يحث على الرغبة بل الرغبة هي التي تدعو إلى الجمال فعندما أرغب في شخص ما فإنني أجده جميلاً ويعرف الكاتب الشهوة بأنها أصل كل من الرغبة وحب الجمال حيث تستلزم الرغبة الشهوانية في شكلها الشائع الرغبة في امتلاك ما هو فانٍ وعابر وحب الجمال هو إشارة إلى تحرير أنفسنا من ذلك التعلق الحسي وإلى البدء بارتقاء الروح في اتجاه عالم الأفكار ذاك هو النوع الحقيقي من الحب الحسي. وأما عن المقدس فهو كالجميل برأي الكاتب البريطاني إذ يتجسد في كل الأصناف لكن الأشياء المقدسة مفصولة عن الواقع ولا يمكن أن تمس أو تقال من دون طقوس أو شعائر ولا توجد تجربة تميز الكائنات البشرية عن الحيوانات أكثر من تجربة الغيرة فالمحبوبة تصبح قذرة بالطريقة التي أصبحت بها "ديزدمونة" في عينَي "عطيل" بطلا مسرحية شكسبير المعروفان فهذه الظاهرة تشابه حالة التدنيس التي تتعلق بسوء استخدام الأشياء المقدسة. ويقول المؤلف ان "الوثنية هي أنموذج للتدنيس مادامت تعترف بفكرة التداول إذ يجب على المعبود أن يكون منفرداً في العالم وليس جزءاً منه" فمعظم أمثلة كانط عن الطبيعة هي لكائنات حية.. نباتات وأزهار وطيور وكلها برأي سكروتون عندها كمال في شكلها وتناغم معقد لتفاصيل تخاطب فينا ترتيباً يكمن عميقاً في نفوسنا شغلت لوحات المناظر الطبيعية المشاهد مكاناً أكثر مركزية في العمل الرائد لكل من جوزيف أديسون وفرانسيس هاتشيسون اللذين جعلا جمال الطبيعة رئيساً بالنسبة إلى موضوع الجمال. ويخلص الكاتب إلى أن كانط وجد أن المناظر الطبيعية بعيدة عن الأعمال الفنية لأن لديها مطالبها الخاصة ليس بالتناسق والوحدة والشكل بل بالانفتاح والجلال والتكلف فرؤية الطبيعة كطبيعة ألزمتنا باستشراف الطبيعة كما هي حقاً فالاهتمام الجمالي بألوان منظر طبيعي وأشكاله يقود في اتجاه علم البيئة ودراسة الزراعة حيث كان للطبيعة كمادة خام دور في الفن البصري فمصممو الحدائق العظماء من القرن الثامن عشر أمثال "ويليام كينت" كانوا يخضعون لأذواق رعاتهم ومهمتهم هي تسجيل النتيجة. ويقول سكروتون ... تصبح فكرة الجمال اليومي أكثر وضوحاً إذا انتقلنا إلى المجالات التي يبدو فيها الناس العاديون منجذبين على نحوٍ كبيرٍ إلى إطلاق أحكام جمالية كالأعمال اليدوية والديكور والأسلوب واحد من سمات الحكم الجمالي اليومي الذي نحوله إلى فن بشكل يضمن دورنا في الوجود الاجتماعي اليومي فالموضة مكملة لطبيعتنا ككائنات اجتماعية برأي الكاتب حيث إنها تنشأ من الإشارات الجمالية التي نجعل معها هويتنا الاجتماعية مكشوفة للعالم وتضخمها أيضاً. لقد سعى الجمال إلى الديمومة بهدف القبض على تفرد المناسبات وتلاشيها كما في طقوس تقديم الشاي الياباني حيث يسمو تقديم الشاي إلى الضيف إلى حالة الطقس الديني فهناك تقاليد قاسية تحكم الأكواب والإشارات وطبيعة الكوخ الخاص لشرب الشاي فجاء موضوع الفن ليحل محل موضوع جمال الطبيعة كموضوع جوهري في علم الجمال في القرن التاسع عشر إثر محاضرات هيغل في علم الجمال فيحل الفن لغز الوجود.. إنه يخبرنا سبب وجودنا من خلال إشباع حياتنا بإحساس الملاءمة فأرقى أشكال الجمال كما هو موضح في الإنجازات الفنية السامية على نحو.. "فاوست لغوته ورباعيات بتهوفن وهاملت شكسبير وتمثال موسى لمايكل أنجلو" هي أكثر منح الحياة روعة بالنسبة إلينا فهي الخلفية الحقيقية لقيمة الفن.