القاهرة ـ وكالات
ربما يظن البعض أن ازدهار مصر أو انتكاستها على مدار القرنين الماضيين يرجع فقط لمدى وطنية الحاكم وحكمته ، وتحديدا منذ تولى الوالي الألباني محمد علي سدة الحكم 1805 وحتى نهاية عصر مبارك 2010 .. لكن الدكتور جلال أمين، المفكر البارز، يرى شيئا آخر تماما ؛ فربما كانت تلك العوامل هامة لكنه يدلل أن الأهم يظل دائما هو تلك الظروف الدولية التي تدفع قوى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا نحو العالم الثالث والعالم العربي أو تصرفها عنه .. ليس هذا فحسب، بل إن كتاب "قصة الاقتصاد المصري" الصادر عن دار الشروق مؤخرا، يلحظ مؤلفه أيضا تشابها صارخا بين تجربة محمد علي بالقرن التاسع عشر ، وجمال عبد الناصر في القرن العشرين ، وتشابها كبيرا أيضا بين أبناء محمد علي، والرؤساء المصريين السادات ومبارك ! فقديما تخلت فرنسا عن حليفها محمد علي لتلهمه بريطانيا، وحديثا تخلى الاتحاد السوفيتي عن حليفه عبدالناصر لتلتهمه إسرائيل وأمريكا . وقديما أجبر محمد علي 1840 على معاهدة لندن التي شلت إرادته، في حين أجبر ناصر أيضا على حرب استنزاف ضاع معها حلم دولته .. ويعبر الكتاب بدقة كيف ازدادت الأمور سوءً بعد رحيل عبدالناصر، حيث أصبحت مصر تابعة تماما لأمريكا، واستمر تدهور الدخل والبطالة وحين أذعن مبارك لنصائح صندوق النقد والبنك الدوليين منذ التسعينيات فيما سمي ببرنامج الاصلاح الاقتصادي في مقابل رفع بعض ديون مصر ، وكانت الاشتراطات تتمثل في رفع دعم الدولة للقطاع العام بل وبيعه ، وتحرير العملة والتجارة والاستيراد والتصدير بلا قيود ، والأخطر من ذلك هو اتفاقية الكويز 2004 التي ربطت قدرة الصناعة المصرية على النفاد إلى السوق الأمريكية بدرجة تعاونها مع اسرائيل ، وبالفعل حين خضعت مصر انهالت عليها الاستثمارات الأجنبية بل والخليجية !! في عصر محمد علي كانت مصر لديها اكتفاء ذاتي من الغذاء وكانت تصدر محاصيل كثيرة وتستورد فقط المواد اللازمة للصناعة، وقد أقام محمد علي نظاما للاحتكار يحظر على أي مستثمر غربي الاحتكاك مباشرة بالتجار المصريين إلا من خلاله، كما أقام والي مصر الخزانات والسدود والمصانع وأحدث ثورة تعليمية وعسكرية .. ومع كل ذلك لم يتورط بالديون! أما اتفاقية لندن التي أكره عليها محمد علي فقد أصابت بالشلل الصناعة في مصر وسوريا والعراق والسودان حيث تدفقت البضائع الأوربية على البلاد العربية وخرجت المواد الأولية لتغذية مصانع أوروبا فماتت الصناعات المحلية . وعلى سبيل المثال فقد تضاعفت واردات مصر من المنسوجات البريطانية ثلاثة مرات في 30 عاما فقط ، وزادت صادراتنا من القطن 8 أضعاف ! لكن الأمور سارت على نحو جيد حتى جاء عباس الأول وتسلم الحكم 1848، والذي تعرض لاغتيال في 1854 ، والحقيقة أن البعض ربط رحيله بأوروبا التي طالما أعلن عن كراهيته لها ورفضه لمشروع شق القناة . في عهد سعيد يرى جلال أمين أنه صنع ديونا بلا تنمية من 1854 حتى 1963 ، فقد كان على نقيض سلفه شديد الحب للأوروبيين، حتى أنه وقع على اتفاقية قناة السويس دون استشارة أحد وثقة فقط في صديقه ديليسيبس صاحب المشروع ! وقد بدأ يتورط في الديون شيئا فشيئا دون تحقيق تنمية تذكر فلجأ في 1862 لعقد أول قرض خارجي تعقده الدولة المصرية في تاريخها الحديث. والحقيقة كما يراها مؤلف الكتاب أن اتصاف سعيد باتلاف النقود لم يكن السر وراء تلك القروض الهائلة، فقد كانت بريطانيا لديها فائضا ماليا كبيرا وكان الطريق مفتوحا في مصر بعد إلغاء الاحتكار، فامتلأت مصر بنحو 20 ألف أجنبي من التجار عصر اسماعيل يصفه أمين بأنه الاستدانة في عصر الرخاء وقد امتد من 1863 حتى 1879 وقد كانت الحرب الأهلية الأمريكية 1861 – 1864 قد بدأت قبل تولي إسماعيل العرش بنحو عامين وترتب عليها زيادة الطلب على القطن المصري ومع ذلك لجأ اسماعيل للاستدانة في أول عامين من حكمه حتى بلغت ديون مصر في عهده نحو 91 مليون جنيه بفوائد ستة ملايين سنويا. ويؤكد جلال أمين أن اسماعيل وإن كان يذكر ببناء القصور الشامخة ودار الأوبرا وتوسيع الشوارع والميادين وتجميل القاهرة لتكون قطعة من أوروبا، فإنه أيضا أضاف لشبكة الري والمساحات الزراعية والسكك الحديدية وجسورا وميناء الاسكندرية وفنارات ، وزاد عدد المدارس كثيرا ، ولكن كلها أشياء للأسف كانت نابعة من مطالب الأجانب في مصر والأثرياء ، يضاف لذلك أن إجمالي تلك النفقات يقل عن الدين بنحو 22 مليونا تمت إهدارها. ولم يكن من قبيل المصادفة ان يأتي إفلاس اسماعيل بعد سنة واحدة من الباب العالي العثماني 1876 وهو ما يؤكد أن الخطأ لم يكن فقط في ميل كل منهما لتبديد الأموال وإنما أيضا لشدة حاجة أوروبا إلى الإقراض وحاجتها لتلك المشروعات تحديدا لربط مستعمراتها . حروب أوروبا .. وازدهار العرب في الفترة بين 1882 – 1956 نتذكر أن أول حجة قدمتها الحكومة البريطانية لتبرير احتلالها لمصر هي حماية حقوق الدائنين الأوروبيين، وبالفعل كان المراقبون الماليون الأوروبيون يقتطعون من موارد مصر الثلث لخدمة دينهم ، ولم تسمح سياسة بريطانيا لمصر بتفوق صناعي على أية حال . لكن ما جرى أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى استطاعت مصر أن تحقق فائضا متراكما في ميزان مدفوعاتها، وانخفضت مديونياتها للنصف، وهو أيضا ليس من قبيل المصادفة، فقد كانت بريطانيا مشغولة بالحرب. أما العقدان الفاصلان بين الحربين العالمتين الأولى والثانية أي من 1918 حتى 1939 فقد شهدت اختفاء الإمبراطورية العثمانية والروسية أيضا، وألمانيا النازية، وانشغال الولايات المتحدة بنفسها لاستغلال مواردها ، وانحصر التنافس بين مناطق النفوذ على انجلترا وفرنسا، واللتان ورثتا الامبراطورية العثمانية باستثناء ليبيا المحتلة من قبل إيطاليا . كما شهدت تلك الفترة الكساد العظيم في الاقتصاد الغربي فاستغرقت أوروبا خلال السنوات السبع التالية للحرب بإعادة بناء نفسها.. فلا عجب أن تحولت مصر في تلك الفترة إلى تسديد ديونها بدلا من الاقتراض بل وتحولت خلال سنوات الحرب العالمية الثانية لدولة دائنة لبريطانيا . وشهد العالم العربي ازدهارا كبيرا في تلك الفترة، حيث قلة الاستيراد والتصدير، كما ازدهرت حركة التصنيع العربية، وقد حققت مصر درجة عالية من الاكتفاء الذاتي تجاوزت 90% من الاستهلاك. بانتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قد حلتا محل فرنسا وبريطانيا كقوتين عظمتين، ويرى أمين أن أمريكا أيدت الانقلابات العسكرية التحررية بالمنطقة العربية لإخراج المنطقة من نفوذ أوروبا . موجة الثورات العربية في الخمسينات قامت السوق الأوروبية المشتركة 1958 التي لعبت أمريكا دورا أساسيا في تكوينها، وزادت الاستثمارات الأمريكية هناك ما أدى لتراخي طلب المواد الخام من العالم الثالث والعربي، وهو ما أعان العالم العربي على قيام اقتصاد مستقل. وفي هذه الفترة تحديدا ظهر زعماء من نوع جديد مثل نهرو في الهند وسوكارنو في إندونيسيا وعبدالناصر في مصر وبن بيلا بالجزائر ونيكروما في غانا، والذين رفعوا شعار الحياد الإيجابي ونادوا بالتضامن الآسيوي والإفريقي، وأصبح عبدالناصر منذ تأميمه لقناة السويس 1956 رمزا لنضال العالم الثالث ضد الاستعمار ، وليس من المصادفة أيضا أن تشهد تلك المرحلة اتحاد مصر وسوريا ونشأة السوق العربية المشتركة التي وقفت أمامها امريكا وأجهضتها.. نكسة الآمال حين بدأت اليابان وأوروبا الغربية تتعافى من آثار الحرب العالمية، ازدهرت صادراتها والتي غزت أيضا أمريكا، فعملت الأخيرة على تصريف منتجاتها بالعالم العربي ودعم الاستثمار فيها ، خاصة وقد أرهقت ميزانياتها بحرب فيتنام .. لكن الخطر الحقيقي بدأ حين اتفقت أمريكا والاتحاد السوفيتي، بعد مقتل كينيدي وسقوط خروتشوف، فنجحت كلا القوتين على إجهاض الدول التي تمتعت بحرية الحركة عربيا وإفريقيا .. بخصوص إسرائيل ، فيمكن اعتبارها في ذلك التوقيت بحسب جلال أمين "الوسيلة المناسبة لتحقيق التحول المطلوب بالشرق الأوسط" ، إلى جانب عصا المعونات الاقتصادية الأمريكية، وقد زودت أمريكا إسرائيل بصواريخ هوك ودبابات في الستينيات وطائرات مقاتلة .. وجرى الضغط على مصر وغيرها لوقف المساعدات للعالم العربي ، وبالفعل توقفت المعونة الغذائية لمصر بالستينيات، وجاءت الضربة الكبرى في يونيه 1967 حينما هاجمت إسرائيل كلا من مصر وسوريا والأردن. لم يكن أمام ناصر فرض سياسة تقشفية بعد إصابة بلاده بنكسة ورغم توقف المعونة الغربية لإجبار مصر على صلح غير مشرف مع إسرائيل، وقد اضطر لوقف كثير من خطط التنمية في مقابل عدم التوقف عن خوض حرب الاستنزاف لاسترداد حقوقنا المسلوبة، وكان إلى جانب ذلك أن فقدت مصر إيرادات آبار البترول بسيناء وإغلاق قناة السويس ونفقات تهجير وتسكين مليون فرد بمدن القناة وانخفاض ايرادات السياحة .. ورغم كل هذا فسيظل يذكر لعبد الناصر أنه رحل وديون مصر لا تتجاوز ربع الناتج القومي، جاءت عبر قروض طويلة المدى. السادات ومبارك .. الإرادة المتحطمة في عصر السادات تضاعفت ديون مصر من 5 بليون إلى 30 بليون دولار 1981 وذلك رغم المعونات العربية السخية التي تدفقت على البلاد، والحقيقة أن الأسباب تعود محليا لزيادة استيراد واردات غير إنتاجية واستهلاكية ورفاهية، والاتجاه للاقتراض قصير الأجل وباهظ التكلفة من الخارج لسد عجز الميزان . وحين ضغطت دول الخليج بإيماءة من أمريكا على مصر لقبول شروط صندوق النقد ، فوجيء المصريون بعدها بخبر زيارة السادات للقدس وخطبته الشهيرة هناك 1977 وقد شاهدوه وهو يضع الاكليل على قبر الجندي الاسرائيلي المجهول !. وحين قبلت مصر شروط الصندوق اعلنت السعودية في نفس العام مباشرة على قبولها المساهمة بهيئة الخليج لتنمية مصر، وانتعش الاقتصاد المصري كثيرا، وزادت إيرادات مصر من البترول والسياحة والعاملين بالخارج، والغريبة أنه رغم كل ذلك زادت استدانة مصر من الخارج، بل وأيضا زاد الانفاق العسكري رغم اتفاقية السلام 1979 بضغط أمريكي لتجارة السلاح في عصر مبارك كانت كل أسباب الرخاء قد انحسرت، خاصة بعد أن رفعت الدول العربية يدها عن مصر التي تصالحت مع اسرائيل، وقد اقترح الاقتصاديون على مبارك تخفيض الانفاق العسكري وترشيد النفقات ولكنه فضل الاقتراض قصير الاجل ذو الفوائد الضخمة، وهو الحل الأسهل برايه، حتى أنه في 1986 بلغت ديون مصر 45 بليونا ! ولم تذهب كلها للتنمية.. يضاف لما سبق فاتحة الشر؛ ففي 1990 كان الرطل الذي يطلبه شيلوك من لحم مصر هذه المرة هو دعم أمريكا في وجه صدام حسين خلال حرب الخليج، الى حد ارسال قوات للمشاركة في الحرب، ومن الطريف أن مصر حصلت على وعود بمساندات سخية من دول السعودية والإمارات والكويت خلال تلك الفترة ! ، واعفاءات من جزء من ديونها لأمريكا وأوروبا مقابل قبول شروط صندوق النقد ما عرف وقتها بسياسة الاصلاح الاقتصادي والتي دامت لنهاية عصر مبارك وقيام الثورة.