رام لله ـ وكالات
خلال أسبوع واحد، استمعت إلى مداخلتين منفصلتين من نبيل عمرو، أحد مستشاري الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، والوزير في عهده وفي الحكومة التي ترأسها محمود عباس أيضا، حول كتابه «ياسر عرفات.. جنون الجغرافيا»، الصادر عن دار «الشروق» المصرية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. المرة الأولى، كانت خلال لقاء في منزل المؤلف في رام الله، دعا إليه عددا محدودا من الكتاب والناشرين الفلسطينيين. والثانية خلال مداخلة له، في ندوة لي في المدينة، حرص عمرو خلالها، على أن يكون القسم الأكبر منها حول كتابه. كانت الندوة حول تجربتي مع الرواية. تطلب حديث نبيل عمرو عن كتابه، ربطا ذكيا، بين النقاش الدائر ومضمون مداخلته. فاستهل مداخلته بحديث خفيف مازح حول علاقته هو بالكتابة، وبالرواية، نافيا أن يكون كتابه شكلا من أشكال الرواية، تضمن وجها من وجوه سيرة عرفات، وانتهى إلى تقديم الخطوط العريضة للكتاب ورحلته معه. عندما انتهيت من قراءة «ياسر عرفات.. جنون الجغرافيا»، أدركت (بأثر رجعي)، أن ثمة أكثر من رابط مع مضمون تلك الندوة. فكتاب نبيل عمرو، يكشف عن راوٍ جيد، لحكاية لها وجوه عدة، لم نتعرف عليها في المؤلفات الكثيرة التي تناولت ياسر عرفات. يمسك نبيل عمرو بمادته التي تعكس خبرة طويلة متراكمة في التعامل اليومي مع الرئيس من أكثر المسافات قربا، ويبني سردا من حكايات شخصية ووقائع سياسية، التشويق أبرز تلك العناصر. يتحرك الكاتب بسلاسة، بين الأزمنة الثلاثة، مقتنصا من وقائعها ما يخدم «ثيمة» عمله، التي اشتق منها عنوان الكتاب. نبيل عمرو ليس روائيا كما قال، إلا أنه روى، وما عاشه بالقرب من عرفات، وما عاشه هو رواية عمرو بالفعل. أما لماذا «جنون الجغرافيا»، فلأنها مؤثر جوهري خارج فلسطين، وهي كما يصفها «مقلقة، ومخيفة، وغير مضمونة، وعرضة للتلاشي» (كحال التجربتين الأردنية حتى عام 1970 - 1971، واللبنانية حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982). وهي، أيضا، أرض الحلم «إن حضرت اقترب، وإن غابت يبتعد». وجنونها هو ما جعل عرفات يتعجل في أمور تحتاج إلى التريث. هكذا ألقى بنفسه في مخاض أوسلو، من أجل استعادة بعض جغرافيا الوطن، يمارس عليها حريته وسلطتيه المادية والمعنوية. على امتداد 286 صفحة من القطع الكبير، يقدم نبيل عمرو، سردا ذا مستويين، يتناول شخصية عرفات أولا، من الزاوية التي اختارها الكاتب لتفكيك «دلالات الرقم الصعب»، على ما أشار الكاتب والباحث الفلسطيني، فيصل حوراني، في مقدمته القيمة للكتاب، ملاحقا المؤثرات الجغرافية في حياة عرفات الشخصية وعلاقاته بمن يحيطون به، ومواقفه السياسية والكفاحية وحتى صياغته لتكتيكاته، وكذلك ما فعلته الجغرافيا في علاقاته العربية والدولية. والكاتب، في مستوى ثانٍ، كثيرا ما يترك خيط السرد لعرفات نفسه، مستعيرا أقواله وكلماته، ليقدم لنا بنفسه، نمطا من مواقفه وردود فعله، وحتى رؤيته للآخرين، وأساليب تعاطيه معهم، واختلاف تلك الأساليب باختلاف مواقعهم وما يريده منهم. وكثير من هذا لا يعرفه جمهور عربي عريض، وحتى كثير من الفلسطينيين. نستمع لعرفات يتحدث، بلسان الكاتب، عن الآخرين في حياته. بمعنى آخر، في هذا الكتاب نتعرف على رؤية نبيل عمرو السياسي والإعلامي الفلسطيني لعرفات، السياسي، في حالات قوته وضعفه، وكذلك الطريقة التي يرى بها عرفات نفسه والآخرين في حالات قوتهم وضعفهم أيضا، وفقا لما يخدم بناءه لدوره أولا، كزعيم ظلّت «القيادة والسيطرة بالجملة وبالتفصيل (...) الفكرة الثابتة في عقله وروحه وسلوكه، فهو قائد الفريق، واللاعب والمدرب والحكم، ومقرر النتيجة، وكل من معه وحوله كانوا بالنسبة له مجرد جمهور يلزم للمساعدة أو التشجيع، أو حتى المباهاة بهم أمام الآخرين». ويخدم شخصيته ثانيا، كاستثناء بين أمثاله من الزعماء. ويكشف المؤلف فيما ينقله من وقائع يومية، طبيعة كلا الشخصيتين (الزعيم والمستشار، هو والآخر) وسلوك كل منهما، والأهم من ذلك، مصاعب وتعقيدات، وحتى مخاطر التعامل مع هذا «الرقم الصعب» «الذي يتوجب عليك، أن تفهم عليه حين يقول ما يبدو لك أنه أمر واجب التنفيذ وهو ليس كذلك». وتلك لا تتميز بامتلاك موهبة البقاء مع عرفات، بل والقدرة على «الرقص مع الذئاب» المحيطة به أيضا في القفص الذي يضم الجميع. في تسليطه لضوء نادر كاشف ومختلف، على شخصية عرفات، يأخذ نبيل عمرو قارئه إلى دهاليز عقل الرئيس الذي برع في «صناعة الرئيس»، وأسلوبه في تكوين الصورة التي أرادها لنفسه كزعيم، والمظهر الذي أراد أن يطبعه في أذهان الفلسطينيين. في اختياره لنموذجه (لا يوجد لعرفات نموذج مثيل أو مشابه إلا واحد في متحف الشمع «مدام توسو» في لندن)، توقف عرفات أمام عدد من الزعماء الفلسطينيين والعرب. لم ترق له جبة الحاج أمين الحسيني التي ترسِّخ صورة رجل دين مسلم في بلد يدعو ثواره إلى وطن يتسع للمسلمين والمسيحيين واليهود. لم يعجبه أحمد الشقيري، ورأى فيه «زعيما نمطيا»، بزي أوروبي لا يليق بثائر مثله. ولم يعجبه حتى زي عبد الناصر على الرغم من كاريزماه الطاغية. في النهاية، وقع اختيار عرفات، على عبد القادر الحسيني، «حيث الكوفية الفلسطينية والعقال، وبذلة الكاكي». لقد رأى عرفات في الحسيني فارسا يطوق صدره حزام الذخيرة، قائدا خلق للقتال (استبدل عرفات التمنطق بالذخيرة، و«السلاحلك»، بالتمنطق بمسدس، كثيرا ما أثار إشكالات بروتوكولية ودبلوماسية). أما «بوح» نبيل عمرو، فكشف عن نواقص كثيرة للزعيم، وذهب في ذلك مسافة أبعد مما ذهب الآخرون. لكن الكاتب لم يكن كذلك تجاه نفسه. فرغم الانطباع الذي يخلفه الكتاب حول تغييب المؤلف تركيزه على ذاته، الذي يبرره منهاجيا، تمحور الكتاب حول عرفات، فقد كانت سيرته، أي الكاتب، حاضرة، كإذاعي، وقيادي في فتح، وكمستشار للرئيس، ووزير، مطروحة على امتداد النص في سياق العلاقة مع عرفات والآخرين الذين لم يتردد في تناولهم، لكنه كان حضور الشاهد على ممارسة الآخرين. في مشهد بالغ الدلالة، أعقب انتخابه لعضوية المجلس الثوري لحركة فتح، يكتب عمرو، على سبيل المثال: «اضطرم الشارع الأخير (التسمية التي أطلقت على حي الفاكهاني في بيروت حيث مكاتب المنظمات الفلسطينية ومقرات قياداتها وإقامة الآلاف من كوادرها) بجدل صاخب واستغراب، وجرى التعبير عن رد الفعل بأقذع السباب وأشرس الأوصاف: نبيل مجلس ثوري (!) ابن امبارح، المذيع الذي لم يتغبر حذاؤه بتراب القواعد العسكرية ولم يشارك ولو في دورية استطلاع (...) وقتها لاحظت أن بمقدور منافسيك اصطناع تاريخ خاص ومختلف لك مليء بالخزي والعار وقلة الجدارة، وفي مقدورهم كذلك اصطناع تاريخ مليء بالمآثر المبهرة لكل من لم يُضَف إلى عضوية المجلس الثوري ممن يرون أنفسهم الأجدر والأحق». مثل هذه الملاحظة، التي تكشف وجها من وجوه الصراعات الداخلية، لم تخفِ ما اعتبره فيصل حوراني، في مقدمته للكتاب، «نقصا»: «لئن شكل تغييب التركيز على الذات ميزة كبيرة، فقد استتبع ما قد يعدّه أمثالي نقصا، ذلك أن فرصة مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ، ضوئلت هنا، فيما اتسع الجهد المبذول في نقد الآخرين وتظهير أخطائهم». في العلاقة بين الرئيس والمستشار، يستطيع القارئ التوقف عند كثير من المشاهد الروائية بامتياز، وذات الإيقاع المسرحي أحيانا. مشاهد تكشف تفاصيل لم تصل إليها كاميرا، ولم تتسلل إليها أقلام الصحافة. مشاهد يفصلها عن الآخرين ستار سميك يحجب صور الحياة اليومية في تفاصيلها الإنسانية البسيطة، ولا يبقي سوى صورة الزعيم. في نص نبيل عمرو، يمكن أن «يضبط» القارئ الزعيم الاستثنائي، الرقم الصعب، في غرفته، في مشهد مثير يرتق إحدى فردتي جوربه. لكن للمشهد دلالات أخرى أيضا، فما تم العثور عليه، هو جانب من الصورة التي رسمها عرفات لنفسه أمام من «ضبطوه». في مشهد تتوزع تفاصيله على الكتاب، يختصر نبيل عمرو سمات أبرز الشخصيات القيادية في فتح والمنظمات الأخرى: خالد الحسن (أبو السعيد)، اليميني وفق تصنيفات صالونات اليسار المنتحل، لكنه «عميد نخبة الأقلية في فتح. أحد المعدودين في مقدمة السياسيين المثقفين في فلسطين والعالم العربي». فاروق القدومي أبو (اللطف): وزير خارجية فلسطين. صلاح خلف (أبو إياد): شريك البدايات وعميد الجيل الأول في فتح بلا منازع. الرجل الثاني، الذي لا يعترف له عرفات بذلك، ويمنح الموقع الذي يليه زعامة لأبي جهاد خليل الوزير، الذي كان بدوره، «قادرا على ملء كل الفراغات التي تنجم عن انشغال عرفات ومعارك النفوذ، (وكان) مثاليا في أداء المهام، دؤوبا لا يعرف الكلل أو الملل». أما سعد صايل (أبو الوليد)، فكان إحدى الأذرع القوية مالكة الكفاءة المهنية والقيادة الميدانية. وكان ماجد أبو شرار «النجم الأكثر لمعانا في فضاء فتح». ومن خارج فتح: كان نايف حواتمة (أمين عام الجبهة الديمقراطية)، «المنظر الأساسي لمعظم القرارات الواقعية التي يتخذها المجلس الوطني، وكان هو من يتخذ المبادرة». وكان جورج حبش (أمين عام الجبهة الشعبية)، المرجع الأخلاقي والقيمة الوطنية الكبرى. في نص مشوق، ممتع، مثير، وغني بالوقائع والمعلومات والتفاصيل، يقدم نبيل عمرو تحليلا مميزا لشخصية ياسر عرفات، الزعيم الذي أتقن بنفسه «صناعة الزعيم».