أنقرة ـوكالات
عندما كنت أقضي فترات ما بعد الظهيرة في فصل الصيف في نسخ حروف اللغة العربية من على السبورة في معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد، كنت أقوم في كثير من الأحيان بالتحديق في النوافذ المملة ذات الإطارات المصنوعة من الألومونيوم، وأتساءل: أين الآفاق الواسعة المزينة بالمآذن، والصحاري الرومانسية، والبازارات الصاخبة في منطقة الشرق الأوسط كما في خيالي؟ أين الصدام والدراما في التغطية الصحافية للحروب والثورات؟ وبدا وكأن الكثير من المناهج العربية قد أخذت في التقلص خلال قيام الإمبراطورية العثمانية بغزو القسطنطينية عام 1453 واستيلائها على العالم العربي بعد ذلك بوقت قصير. والغريب في الأمر، كما بدا لي، أنه لم يتم التطرق تقريبا للوجود البريطاني غير العادي في منطقة الشرق الأوسط في القرن العشرين في فصول دراستي الجامعية. وقبل الذهاب إلى أكسفورد كنت قد اشتريت نسخة من كتاب يتناول الثورة العربية خلال الفترة بين عام 1916 و1918، وكنت سعيدا بالقراءة عن مداهمته للعصابات في الصحراء كضابط شبه هاوٍ في صفوف الجيش البريطاني، وانضمامه لعالم مختلف طالما تمنيت أن أنضم إليه، وترويجه لقضية العرب المظلومين، وتضحيته برتبته عندما حنثت لندن بعودها للعرب بالاستقلال. وبدا وكأن رؤساء معهد الدراسات الشرقية ينظرون إلى هذا العمل على أنه عمل إباحي تقريبا، ولكني لم أكن أعلم السبب وراء ذلك، لأننا لم ندرس تلك الفترة أو نناقش ذلك الكتاب على أي مستوى. وفي يوم من الأيام الأخيرة في العاصمة الاسكوتلندية أدنبرة، صادفت الغلاف الأسود للطبعة الأولى لكتاب ريتشارد أولدنغتون «لورانس العرب: استفسار عن السيرة الذاتية»، وهو كتاب لم يسبق لي أن سمعت عنه. هنا، في ثنايا ما أرى أنه عبارة عن نثر موزون، كانت السطور تحملك على الدخول في حالة من الجدل، حيث دفعني ذلك إلى عالم من الجدل حول قصة لورانس - والفيلم الرائع وعبقريته وتركيبته النفسية - التي لا علم لي بها، ولكن الحجج التي طرحها أولدنغتون بدت وكأنها صحيحة، حيث صور لورانس على أنه مصدر قلق وذعر وأنه كاتب قد استغل حالة الارتباك والسمعة الجيدة للشرق الأوسط لكي يغير الحقائق. وكان أولدنغتون طموحا، ويسعى إلى تدمير «أسطورة لورانس»، وإثبات أن الأجزاء الرئيسية من عمله كانت تشهد حالة من «المبالغة الشديدة والتزييف والتبجح، ومن دون أي أساس من الصحة في بعض الأحيان»، مما يجعل البطل البريطاني «نصف محتال على الأقل». وحتى قيام لورانس بتفجير قطارات خط سكة حديد الحجاز، على حد قول أولدنغتون، كان مجرد «تكثيف في وقت الحرب لحالة البغض التي كانت موجودة خلال فترات السلام».. والشيء الذي يفتقده الضباط البريطانيون والفرنسيون في مثل هذه الحروب كان هو مهارتهم الأدبية على كتابة إنجازاتهم. ويعترف أولدنغتون بأن وصف لورانس الحماسي للمسيرة التي استولت على مرسى «الوجه» على البحر الأحمر يعد «أحد الأجزاء التي تحظى بالإعجاب في الأعمدة السبعة»، حيث تحتوي على كثير من الغناء والجمال النشطة والعظمة الكبيرة، ولكنه يشير فيما بعد إلى أن لورانس قد أحضر رجاله بعد يومين من المعركة، حيث شارك البريطانيون والسفن البحرية البريطانية في القتال الحقيقي، في الوقت الذي تباطأ فيه البدو أو تعرضوا للسلب. وفيما يتعلق بالاستيلاء على ميناء العقبة على البحر الأحمر - «غاليبولي آخر»، وفقا لـ«الأعمدة السبعة» - فقد تم الاستيلاء عليه مرتين قبل الاستيلاء عليه أثناء الحرب. وفي وقت لاحق، انتصر الزحف البريطاني من فلسطين إلى سوريا عام 1918 بفضل الضرب بالهراوات من قبل صفوف الجيش الرئيسية للجنرال إدموند اللنبي، في حين كان لورانس ومغيروه القلائل يقومون على الأكثر بتشتيت انتباه القيادة العثمانية الألمانية من خلال مناوشات على أطراف الصحراء. ومن المقزز أن تقرأ لائحة الاتهام التي يسردها أولدنغتون للمجازر التي ارتكبت ضد القوات العثمانية والألمانية المتراجعة من قبل لورانس وقواته غير النظامية من البدو، حتى لو كان لورانس نفسه هو من اعترف بذلك. أما بالنسبة للمكافأة الكبيرة التي وعد بها الأعداء لمن يأتي برأس لورانس، والتي ادعى لورانس وجودها، فإن أولدنغتون لم يعثر على أي دليل على ذلك، ولا يوجد أي ذكر لها، في الواقع، في عدة روايات تم نشرها من قبل الضباط الألمان أو العثمانيين الذين خدموا في شبه الجزيرة العربية. وعلاوة على ذلك، يشكك أولدنغتون في ركيزة من الركائز الأساسية لأسطورة لورانس، فقد قال لورانس لأحد كتاب سيرته الذاتية، وهو باسيل ليدل هارت، إنه «منذ نحو ستة عشر عاما، كان يرغب في تحرير الناس واختار العرب لأنهم الأنسب لذلك». وفي وقت لاحق، قال لورانس إنه استقال من الخدمة الحكومية لأن بريطانيا لم تحقق الوعود التي قدمها هو لقادة الثورة العربية، أو كما يطلق عليها في كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، «الحرب العربية التي تم شنها وقيادتها من قبل العرب لتحقيق الهدف العربي في الجزيرة العربية». وربما كان لورانس ممزقا بين الالتزام المؤيد للعرب وبين التعليمات والأوامر الرسمية، ولكن أولدنغتون لم يجد أي دليل على أن أي سلطة قد أمرته بتقديم أي وعود للعرب. والشيء الغريب أن أولدنغتون قد وجد دليلا على أن لورانس لم يكن يتحدث اللغة العربية بطلاقة. وبينما كان لورانس والفصيل البريطاني الذي ينتمي إليه متعاطفين مع القضية العربية، فإن أولدنغتون يعتقد بأن «هذه الأسباب كانت تأتي في إطار تمويه بريطاني لإقصاء الفرنسيين». وكما قال لورانس في أحد الخطابات، فإنه ينبغي على السياسة البريطانية أن «تثني الفرنسيين عن أي أمل في سوريا.. ألن يكون الفرنسيون حمقى لو فزنا في الحرب من خلالهم؟». ويوضح أولدنغتون أيضا أن القوة الاستثنائية التي قُذف بها لورانس إلى عالم الشهرة تعزى إلى خدعة تأجيل القيام بالفعل في دعاية زمن الحرب الأميركية، حيث لم يكن لورانس معروفا لدى الرأي العام خلال الحرب العالمية الأولى. وحاول فريق أميركي مكّون من المراسل الصحافي، لوويل توماس، والمصور الفوتوغرافي هاري تشيس، لتعزيز الروح المعنوية، تجربة الانضمام إلى الجبهة الغربية، لكن كما يقول أولدنغتون: «لم تسلم المجزرة القاتمة نفسها إلى التصوير المثير ولا السرد الفصيح». وخطر في بال الثنائي آنذاك فكرة الجبهة العربية، حيث وجدوا لورانس مستعدا وله وجه تحبه الكاميرا. وكان الناتج عرض بعنوان «مع ألنبي في فلسطين ولورانس العرب» لكنه لم يصبح جاهزا إلا بعد انتهاء الحرب عام 1919. وبعد بداية متواضعة في نيويورك، أثارت جولة للعرض ضجة في المجتمعات التي تتحدث اللغة الإنجليزية، حيث وصل عدد العروض إلى الألفين على مدى أربع سنوات. لقد كانت وليمة حقيقية لخيال المستشرقين. واقتبس مسؤولو الدعاية في لندن مشهد «ضوء القمر على النيل» من أوبرا «رقصة الأوشحة السبعة» Dance of the Seven Veils»» وأدى مغني آيرلندي النسخة الموسيقية من الأذان. ويقول أدلغتون إن الجمهور البريطاني الذي كان يعاني من صدمة بسبب الحرب لم يستطع مقاومة ذلك حيث أوضح قائلا: «ما كان مطلوبا هو قصة نجاح ومن يستطيع تحقيق ذلك إلا رجل أميركي كان نجاحه واجبا وطنيا؟ كان من الصعب فهم الطريقة في إنجلترا، التي نادرا ما ترتقي فيها الدعاية عن رتابة الكذب البليدة. أي شخص شاهد خبير جودو ياباني يطرح رجال شرطة لندن الذين تصل أوزانهم إلى مائة كيلوغرام على خشبة المسرح سوف يدركون ما فعله لوويل توماس عقليا وعاطفيا مع الجمهور البريطاني الساذج». يقول ألدنغتون إنه بدأ مهمته غير محمل بأي شعور تجاه لورانس. وكان ألدنغتون شاعرا متواضع المكانة في مدرسة شعر الصور الجمالية خلال العقد الثاني من القرن العشرين، وكرّس حياته للتخلص من التجريد الرومانسي والالتزام بالتفاصيل الواضحة والاستعارات الذكية. وكان واحد من ستة عشر شاعرا من الحرب العالمية الأولى تم تأبينهم في ويستمينستر آبي بلندن. كذلك تولى رئاسة تحرير مجلة أدبية وله رواية عن السنوات التي قضاها في القتال غير النظامي في خنادق الجبهة الغربية ونشر سيرة حياة دوق ويلينغتون التي حازت على جائزة. غير أن نشر نتائجه غير المتوقعة عن لورانس أضر أبلغ الضرر بسمعة أولدنغتون ومبيعات الكتاب وبحالته الصحية. لم تكن بريطانيا مستعدة لمشاهدة الإطاحة بأسطورة بطلها الوحيد الذي بعث من مستنقع الحرب، واعترض كثيرون على كشفه عن مشاعر لورانس المحتمل أن تكون «مخزية ومؤلمة» حيال مولده غير الشرعي. عندما توفي أولدنغتون في يوليو (تموز) 1962، في سن السبعين، بعد سبع سنوات من نشر كتابه عن لورانس، أشار نعيه في «التايمز» إلى أنه كان «رجلا شابا غاضبا من الجيل الذي سبق زيادة شعبيتهم؛ ظل أقرب إلى رجل غاضب حتى النهاية». وجاء في النعي أيضا أن الهجمات على قيم الطبقة المتوسطة البريطانية «حادة» ولمح إلى أن كتابه «لورانس العرب» سيصبح «في طي النسيان». وبعدما غاب عن الذاكرة، أصبح الآن نسيا منسيا في صناعة أسطورة لورانس. بالنسبة لقليلين (ريتشارد أولدنغتون ولورانس العرب: حكاية تحذيرية لفريد كروفورد)، يثبت الآن مدى صعوبة الهجوم على بطل وطني. على نحو معتاد بصورة أكبر، (كما في «أمير فوضتنا» Prince of our disorder لجون ماك، الذي فاز بجائزة بوليتزر في عام 1976)، يظل لورانس «رجلا عظيما وشخصية تاريخية هامة.. (والتي) كان لها تأثير قوي في النتيجة العسكرية (للحرب) والتبعات السياسية». يقر ماك بأن لورانس كان في بعض الفترات «مفتقرا إلى الدقة الكاملة» و«كان يميل إلى حد ما للمبالغة في دوره وأهميته». لكنه يقول إن عمل أولدنغتون كان «مثالا فاضح لتوظيف علم النفس.. لأغراض تشويه السمعة». يقول مايكل كوردا، مؤلف أحدث سيرة ذاتية «البطل»، إن أولدنغتون كان مخطئا «بكل وضوح» في دحض زعم لورانس بأنه قد منح أكثر وظيفة بريطانية تميزا في مصر بعد الحرب. لكن الدليل على هذا مفقود - بالفعل، يلمح إلى أن أولدنغتون كان محقا بصورة ما، قائلا إن أي عرض على هذه الشاكلة لم يكن جادا - ويبالغ كوردا في قوله إن «القضية الكاملة» لأولدنغتون ترتكز على هذه «الفكرة الثابتة المسيطرة». وعلى الرغم من ذلك، ينبذ كوردا النتائج التي توصل إليها أولدنغتون بوصفها «أمورا ثانوية» و«درسا عمليا حزينا في مخاطر الشعور المسيطر بالاستقامة الأخلاقية الشديدة». غير أن حتى كوردا يقر بأنه «كان من المؤكد أنه سيأتي شخص ما ويقوم بإصلاح التوازن» بعد «أشكال المديح.. من دون أي جهد جاد في البحث المستقل». ولا يتهم أولدنغتون لورانس بالخيانة، مثلما أشار أحد الضباط المرافقين الموالين للورانس. إنه فقط يلفت الانتباه إلى التشويه المبالغ فيه لدور لورانس، ويرجع ذلك جزئيا إلى جهود لورانس الخاصة، وأيضا لأن الجميع أراد تصديق ذلك. كان أولدنغتون مستعدا بشجاعة لإظهار أن الحقيقة تشكل أهمية ودفع ثمنا غاليا لإظهار أن أسطورة رائعة كانت قصة استثنائية ولكن ذائعة الصيت. ولا عجب أن هؤلاء الأكاديميين العاملين في أكسفورد فضلوا استخراج مواضيع مطمورة في أعماق ماض عميق وأقل حساسية.