باريس ـ وكالات
هذا الكتاب، «بانوراما الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين»، هو من تأليف المفكر الفرنسي فريدريك ورمس أستاذ الفلسفة في جامعة ليل بشمال فرنسا، كما أنه مدير المركز الدولي لدراسة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. وهو يقدم هنا بانوراما شاملة عن تيارات الفلسفة الفرنسية على مدار القرن العشرين. ومعلوم أنه كان من أغنى القرون وأكثرها امتلاء بالتيارات والاتجاهات الفكرية المختلفة، فقد شهد في بدايته هيمنة الفلسفة الكانطية الجديدة، نسبة إلى الفيلسوف الألماني الشهير كانط. وشهد في الوقت ذاته هيمنة الفلسفة الوضعية التي تولي للعلم الفيزيائي والرياضي مكانة خاصة. وهي التي بلورها أوغست كونت. وقد سيطر هذان التياران الكبيران على جامعة السوربون آنذاك.ولكنه شهد في الوقت ذاته ظهور فيلسوف كبير معارض لهذا التيار هو هنري بيرغسون (1859 - 1940). ثم شهد القرن العشرون بعد ذلك دخول الفلسفة الهيغلية إلى فرنسا وكذلك الفلسفة الماركسية، فالنيتشوية على أثرها. وفي الخمسينات من القرن العشرين كانت الفلسفة الوجودية هي المهيمنة من خلال الكتابات المهمة لجان بول سارتر. ثم تلتها الماركسية في الستينات وحلت محلها.ثم حلت محلهما كليهما الفلسفة البنيوية في السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. وبعدئذ انحسرت الموجة البنيوية مثلما طغت لكي تحل محلها تيارات كثيرة أو شخصيات فلسفية مختلفة. هكذا نلاحظ أن المدارس الفلسفية الأكثر أهمية تعاقبت على مدار القرن العشرين كله. ونلاحظ أن المؤلف يبلور نظرية جديدة تدعى نظرية اللحظات الفلسفية. فهناك اللحظة الروحانية المتمثلة ببيرغسون، واللحظة الوجودية المتجسدة بسارتر، واللحظة البنيوية المتجسدة بليفي ستروس وفوكو... إلخ. وكلها تعاقب بعضها وراء بعض على مدار القرن العشرين.ثم يعود المؤلف إلى البدايات الأولى لهذا القرن الحافل بالأفكار والفلسفات ويقول بما معناه: ينبغي العلم بأن الفلسفة الكانطية الجديدة التي سيطرت في بدايات القرن العشرين كانت مستوردة من ألمانيا. وكانت قد هيمنت هناك بين عامي 1870 - 1918. وكان لها ممثلون كبار في فرنسا من أمثال رينوفييه أستاذ الفلسفة في السوربون، وكذلك من خلال ليون برونشنيغ الذي سيطر على التعليم الجامعي لفترة طويلة. وهذه الفلسفة تستلهم فكر كانط كما هو واضح من اسمها وتعتمد على العقل والعلم فقط. وبالتالي فهي تهمل دور الخيال والروحانيات. ولهذا السبب انتقد الفيلسوف بيرغسون تطرفها في الاتجاه الوضعي وإهمالها لكل ما عدا ذلك من مثاليات تتجاوز الماديات.وقد ولد بيرغسون في باريس عام 1859 ودرس في مدرسة المعلمين العليا مثل جان جوريس الذي سيصبح في ما بعد زعيم الحركة الاشتراكية الفرنسية وأشهر سياسي في عصره. ثم أصبح بيرغسون أستاذا في الكوليج دوفرانس وأشهر فيلسوف في عصره أيضا. وهي أعلى مؤسسة علمية في فرنسا، أعلى من السوربون.وفي عام 1914 انتخبوه عضوا في الأكاديمية الفرنسية. ثم سافر بيرغسون عام 1917 عدة مرات إلى الولايات المتحدة لإقناع الرئيس ويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا. هكذا نلاحظ أن الفلاسفة ليسوا منغلقين في برجهم العاجي إلى الحد الذي نتصوره.ثم استقال بيرغسون من التعليم العالي عام 1921 لكي يكرس نفسه كليا للشؤون الدولية والسياسية. وفي عام 1927 تلقى جائزة نوبل للآداب. وخلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته لم يؤلف إلا كتابا واحدا هو: «المصدران الأساسيان للأخلاق والدين» (1932). وفيه يعمق المنظور الديني لفلسفته. ثم مات بيرغسون منغصا عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كانت فرنسا محتلة من قبل الألمان.ثم يتحدث المؤلف عن تيار الفلسفة الوجودية الذي سيطر على فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا التيار يقول إن الإنسان حر وليس مقيدا بالحتميات كما يقول بعضهم. وما يفعله ويختاره هو الذي يجعله كما هو ويصنع هويته وشخصيته وكينونته. وبالتالي فالإنسان مشروع مستقبلي لنفسه، وقد يتحقق أو لا يتحقق.وتقول الفلسفة الوجودية إن على الإنسان أن يجد في داخله قيمه الخاصة، وإن عليه أن يحدد السلوك الذي يرغب في انتهاجه. ولكن بعض الفلاسفة انتقدوا مفهوم سارتر للإنسان وقالوا إنه لا يصمد أمام الامتحان. فليس صحيحا أن الإنسان حر إلى الدرجة التي يتوهمها زعيم الوجودية الفرنسية. فالمجتمع يضغط عليه ويراقبه ويحد من حريته في أحيان كثيرة. والإنسان الذي ولد في عائلة غنية أكثر حرية بالضرورة من ذلك الذي شاء له سوء الحظ أن يولد في عائلة فقيرة أو معدمة. فالأول لا يعاني من مشكلات مادية وبالتالي يستطيع إكمال دراساته الجامعية والتوصل إلى المناصب العليا في الدولة أو في المجتمع. أما الثاني فيبقى في أسفل الهرم في معظم الأحيان إلا إذا زوده الله بمواهب خارقة أو عبقرية فذة. فوحدها العبقريات تخترق الظروف كما يقول نيتشه. ولكن ليس كل الناس عباقرة! وبالتالي فأين هي الحرية يا مسيو سارتر؟ إنها حرية خيالية ساذجة لا وجود لها على أرض الواقع. ولهذا السبب فإن البنيوية التي جاءت بعد الوجودية مباشرة انتقدت سارتر كثيرا واعتبرت تصوراته الفلسفية بمثابة المثالية لا الواقعية. نقول ذلك على الرغم من أن صاحب «الوجود والعدم» تطور لاحقا وطعم وجوديته بنوع من الماركسية لكي يخرج من المثالية ويصبح موضوعيا أكثر. وعلى هذا النحو حل كلود ليفي ستروس وميشال فوكو ورولان بارت وجاك لاكان ولويس التوسير محل سارتر في الساحة الفرنسية وأنزلوه عن عرشه بعد عام 1970، ولكنهم بالغوا في الاتجاه المعاكس! فقد تحدثوا عن مشروطية الإنسان وضغط الظروف عليه إلى درجة أنهم حرموه من كل حرية حركة أو هامش حرية. وإذا كان سارتر قد قال إن الإنسان حر في المطلق فإنهم قالوا إنه مقيد في المطلق! وهكذا انتقلنا من النقيض إلى النقيض. وقد حاول عالم الاجتماع الكبير بيير بورديو أن يتجاوز هذه المعضلة الرهيبة عن طريق القول إن الإنسان حر ومقيد في ذات الوقت. وانتقد ذاتية سارتر المفرطة وموضوعية ليفي ستروس الباردة والمفرطة أيضا، ودعا إلى اتباع خط وسطي يجمع بين الذاتية والموضوعية. وأنقذ بذلك الفلسفة الفرنسية من خطر التطرف في هذا الاتجاه أو ذاك. أما لويس التوسير فقد حاول أن يطبق مفهوم القطيعة الابستمولوجية على فكر ماركس عن طريق القول إن هناك قطيعة جذرية بين أعمال ماركس الشاب وأعمال ماركس الناضج، وهذا يعني أن ماركس انتقل من عهد الآيديولوجيا إلى عهد الابستمولوجيا والدقة العلمية الكاملة بعد أن نضج فكريا. ولكن هذه النظرية التي عرضها في شرحه لكتاب الرأسمال وفي كتابه «من أجل ماركس» لم تقنع بعضهم على الرغم من الرواج الكبير الذي حظيت به في الستينات إبان سيطرة اليسار أو اليسار المتطرف على الساحة الفرنسية. والواقع أن فلسفة التوسير تعاني من نقاط ضعف كثيرة على الرغم من أهمية بعض أعماله وكتاباته، وأهم نقطة ضعف لديه هي تضخيمه لأهمية ماركس حتى لكأنه شخص معصوم تقريبا. وهذا الخطأ وقع فيه الكثير من المثقفين الماركسيين في شتى أنحاء العالم وليس فقط في فرنسا. انظر إلى الشيوعيين العرب مثلا. ثم يتوقف المؤلف عند فلاسفة آخرين كثيرين كجان هيبوليت الذي أمضى حياته في ترجمة هيغل ونقل أفكاره إلى اللغة الفرنسية، وكان من المساهمين في بلورة التيار الظاهراتي أو الفينومينولوجي في الفلسفة الفرنسية. ومعلوم أنه خرج جيلا كاملا من الفلاسفة الكبار ليس أقلهم ميشال فوكو. وهناك أيضا بول ريكور الذي عاش عمرا مديدا تجاوز التسعين بعد أن بلور فلسفة كاملة عن الإنسان والمجتمع والدين والسياسة. وكان من الداعين إلى تفسير الدين بشكل عقلاني جديد لكي نخرج من جحيم التعصب وظلامية المتعصبين الضيقي الأفق. وقال إن للدين مجاله وللفلسفة مجالها ولا ينبغي الخلط بينهما. ولكن الدين يستفيد كثيرا من الفلسفة إذا ما تبنى مناهجها العقلانية في التحليل دون أن يقضي ذلك على خصوصيته أو روحانيته أو تنزيهه وتعاليه. وبالتالي فقد أقام مصالحة ذكية بين الدين المسيحي والفلسفة. ومعلوم أن محمد أركون الذي كان تلميذه وصديقه فعل نفس الشيء بالنسبة للإسلام. أما الفيلسوف ميشال فوكو فكان تأثيره على القرن العشرين كبيرا أيضا، فقد استطاع تجديد الفلسفة عن طريق تطعيمها بالعلوم الإنسانية كعلم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد... إلخ. وقال إن الفيلسوف لا ينبغي أن يتفلسف بشكل مجرد بعيدا عن الوقائع المحسوسة والعلوم التطبيقية كما يفعل بعضهم. ولهذا السبب فإن فوكو درس أهم المؤلفات التاريخية في عصره وأهم النظريات العلمية قبل أن يبلور فلسفته. كما قام بتحريات ميدانية على أرض الواقع لكي يدعم متانة نظرياته الفلسفية. وعلى هذا النحو زار المصحات العقلية كثيرا قبل أن يؤلف كتابه الشهير: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». وأثبت أن الجنون ظاهرة اجتماعية بقدر ما هو ظاهرة نفسية وربما أكثر. بمعنى أن المجتمع هو الذي يصيب الفرد بالجنون وليس فقط اختلاله العقلي. ولهذا السبب فإن الفيلسوف الكبير دعا إلى تغيير المصحات العقلية في فرنسا وعموم أوروبا لأنها تزيد من هلع المجانين، بل وتصيب حتى الإنسان الصحيح بالجنون إذا ما أدخل إليها. وساهمت أبحاثه في إصلاح نظام المصحات العقلية وكذلك نظام السجون في فرنسا، وأثبت فوكو أن الفلسفة يمكن أن تقدم خدمات عملية للمجتمع وليست عبارة عن ثرثرات مجانية في برج عاجي. وأخيرا تنبغي الإشارة إلى الأبحاث الرائدة للفيلسوف جيل ديلوز الذي كشف عن الآليات القمعية للمجتمع الرأسمالي بطريقة لبقة مختلفة عن طريقة الماركسيين، كما ينبغي أن نذكر أبحاث الفيلسوف جاك دريدا الذي اشتهر بتفكيك الميتافيزيقا الغربية والعرقية المركزية الأوروبية. وساهم بذلك في تحرير العقل الغربي من عنجهيته وأحكامه العنصرية المسبقة ضد الثقافات الأخرى. ومعلوم أن الغرب كان يعتبرها دونية متخلفة طيلة عهد الاستعمار. ثم ظهر تيار آخر بعد هؤلاء يعيد للعقلانية الغربية أهميتها ووجاهتها بعد أن بالغ الجيل السابق في تفكيكها ونقدها. ونقصد بذلك جيل فوكو وديلوز ودريدا، أي جيل التفكيكيين الناقمين على كل شيء تقريبا والكارهين للغرب وحضارته الرأسمالية. وهذا التيار الجديد الذي لا يزال مسيطرا على الساحة حاليا يمثله الفيلسوف الموهوب لوك فيري. هكذا نلاحظ أن حركة التاريخ مد وجزر، صعود وهبوط. فكلما تطرفنا في اتجاه ما، جاء وقت آخر لكي يعيد الأمور إلى نصابها. وقد تطرفنا في الاتجاه المعاكس، فيلزم التصحيح، وهكذا دواليك..