الرئيسية » مراجعة كتب

القاهرة ـ وكالات

حتى في الموت رسائل! هكذا يرى البعض في قرار الترجل عن الحياة، سبيلاً للخلاص والانعتاق. وفي حين يبدو هذا العنف الموجه نحو النفس قرارًا ذاتيا للتخلص من بؤس البقاء على قيد الحياة، فإنه يكون في كثير من الأحيان رسالة إنذار أو غضب حيال المحيطين بالشخص المنتحر. من هنا تأتي أهمية كتاب "شهقة اليائسين" الصادر حديثا عن دار التنوير (القاهرة/ بيروت)، في هذا الكتاب يتناول الدكتور ياسر ثابت ظاهرة موجعة هي الانتحار في العالم العربي. ويكشف بالحقائق والأرقام مدى تفشي هذا الفعل الذي يعكس أزمة مجتمعاتنا في أوضح صورها. يحلل المؤلف أولا الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية التي تقف وراء انتشار الانتحار في العالم العربي، وينتقل منها إلى تحليل أبرز أسماء المنتحرين في ثقافتنا وغيرها من الثقافات والذين تنوعوا بين علماء ومفكرين وفنانين لم يجدوا بيننا متّسعـًا لهم فقرروا الانسحاب إلى العالم الآخر، طارحين وراءهم عالمنا بما فيه من قسوة وتسلط. يسرد المؤلف أيضا تفاصيل ثرية عن قرارات الانتحار لدى عدد من المبدعين في العالم ويقول إن بعض المنتحرين من المشاهير، من الكاتب الياباني يوكيو ميشيما (1970) إلى المغنية الإيطالية داليدا (1987)، ومن الروائي الأمريكي إرنست هيمنغواي (1961) إلى الشاعرة الأمريكية آن سيكستون (1974)، ومن الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (1930) إلى المؤلفة والقاصة الإنجليزية فرجينيا وولف (1941)، وجدوا أنها رسالتهم الأخيرة وردهم على حياة لم تعد محتملة.. لكنها الحياة، والبقاء فيها على رغم كل شيء، فعل إرادة وليس ترفا يمكن الاستغناء عنه في لحظة يأس. ويرى ياسر ثابت أنه في ظل أزماتٍ اقتصادية خانقة، وتضييق سياسي على المشاركة في الممارسة الديمقراطية، وغياب ملامح العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في العالم العربي، يلوح الانتحار في الأفق بالنسبة إلى من يشعرون بالقلق والجزع وينشدون الخلاص أو يريدون التعبير عن رفضهم لواقعهم الأليم. وفي مدنٍ عربية دخلتْ نفق التخلي، وقرى وبلدات ذاقت طعم التجاهل والنسيان، نجد أجيالاً بأكملها نُحرت قبل أن تنتحر، وشعوبا أُهملت قبل أن تنحدر إلى قاعها الدامي، وأفقرت إلى حد الاغتيال. يقدم ياسر ثابت صورة عميقة وتاريخية لحالات ومعدلات الانتحار في الدول العربية، ويتتبعها دولة بدولة، مع استعراض نماذج لحالات الانتحار التي هزت تلك المجتمعات العربية في الماضي والحاضر. غير أن المؤلف يغوص في تاريخ مصر المعاصر، ويرصد حالات انتحار في عصر محمد علي باشا نتيجة سلسلة التحولات الاقتصادية والاجتماعية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكان لنقص مياه الفيضان في أعوام 1824 و1825 و1833 أثر في خراب بعض القرى بسبب الجدب الذي أصابها، ما أدى إلى تكرار حالات انتحار المزارعين. وفي فترة الكساد العالمي التي كانت لها تداعياتها على مصر، انتشرت حوادث الانتحار، فمثلاً رب البيت الذي لا يجد ما يكفيه وعائلته ولم يستطع فعل شيء كان يستسلم وينتحر، ولهذا ارتفعت نسبة حوادث الانتحار وعلى الأخص بين الطبقة الفقيرة الأكثر تعرضا من غيرها لآثار الأزمة. فقد "شنق شخص نفسه بحبل يدعى الشيخ أحمد حسن من كفر علي آغا بطنطا لضيق ذات يده". ومن أرقام حوادث الانتحار نتبين أن حدة الأزمة كانت في عامي 1931 و1932، إذ وصلت حوادث الانتحار في تلك الفترة إلى أعلى نسبة بالمقارنة بإجمالي حوادث الانتحار خلال الفترة بين عامي 1929 و1933. في عام 1929 وحده، سجلت في المدن المصرية الكبرى 105 حوادث انتحار، ذهبت أكثرها بأرواح شبان بين العشرين والأربعين من العمر. من ناحية النوع، كانت ضحايا تلك الحوادث 76 رجلاً و29 امرأة.. والفرق في الأرقام واضح! الأرقام تقول إن حالات الانتحار في مصر زادت بنسبة 12% في عام 2011 عن العام الذي سبقه، وإن نحو 18 ألف حالة انتحار وصلت إلى مركز السموم خلال عام 2011، أغلبهم من الرجال. وتشهد مصر سنويا نحو 3 آلاف حالة انتحار سنويا لمن هم أقل من 40 عاما، فيما تقول تقارير أخرى إن خمسة أشخاص من بين كل ألف شخص يحاولون الانتحار بهدف التخلص من مشكلاتهم. عام 2009 وحده شهد محاولات للانتحار في مصر بلغت 104 آلاف حالة، تمكن‏ 5‏ آلاف منهم في التخلص من حياتهم‏. وتقول الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن جريمة الانتحار في مصر، أصبحت ظاهرة خطيرة تتصاعد يوما بعد يوم. ثم ينتقل الكتاب إلى نموذج لافتٍ هو التونسي محمد بو عزيزي، ذلك المنتحر الذي ألهم الملايين بسحر الحياة الحقيقية فخرجوا ضد الطغيان حتى أزاحوا رؤوسه جزاءً وفاقا. وينهي المؤلف كتابه بفصل عن "أسبوع الانتحار" في مصر والذي تلا الثورة التونسية وسبق الثورة المصرية، وكيف وظّف النظام المصريّ السابق كل طاقاته لمواجهة من هدّدوا وجوده بإزهاق أرواحهم، وكيف أن ذلك النظام الذي كان قد تحلّل بفعل أخطائه وحماقاته لم يزد الطين إلا بلّة أودت به. ويمضي المؤلف متتبعا حالات الانتحار المستمرة بعد يناير 2011 والتي تمثل أكبر دليل على أن هذه الثورة ما زالت مستمرة، وأن أسباب اليأس لم تنضب بعد. يبقى أن هذا الكتاب هو باقة ورد يضعها مؤلفه وناشره على قبر كل من ضحّى بعمره من أجل أن نحيا وأجيالنا القادمة حياة "الكرامة الإنسانية".

View on libyatoday.net

أخبار ذات صلة

مناقشة وتوقيع كتاب " انا اسمي ماما" للكاتبة "دينا…
الأحلام الشرقية للكاتب اللبناني عيسى مخلوف في طبعته الثانية
حكايات الرحالة البرتغالي "إيسا دي كيروش" عن افتتاح قناة…
صدور رواية "نساء البساتين" في نسختها الإيطالية
"سنوات التيه الأربعون" على مائدة مكتبة القاهرة الكبرى

اخر الاخبار

تسجيل 487 إصابة جديدة بفيروس كورونا المستجد في ليبيا
نقل محولين إلى محطتي الخضراء الجديدة والمصابحة في ترهونة
إطلاق خط بحري جديد بين الموانئ الإيطالية والليبية
مفوضية اللاجئين تتصدق بمواد غذائية على 2500 أسرة ليبية

فن وموسيقى

روجينا تكّشف أنها تحب تقديم شخصيات المرأة القوية فقط
رغدة تكشف كواليس مشاركتها في مسرحية "بودي جارد" مع…
ريهام عبد الغفور تكشف أنّ قِلة ظهورها في الدراما…
هيفاء وهبي تُعرب عن استيائها الشديد من الأحداث المؤسفة…

أخبار النجوم

نور تؤكّد أن "درب الهوى"سيكون تجربة درامية شديدة الاختلاف
أحمد جمال يعرب عن تفاؤله بالعام الجديد 2021
أروى جودة تؤكّد أن أصداء مشهد "ده هاني" في…
مايا نصري تكشف سبب ابتعادها عن الساحة الغنائية لعدة…

رياضة

قرعة الدوري الليبي تسفر عن قمة بين الأهلي بنغازي…
فريق الأخضر يضم إلى صفوفه االمدافع وجدي سعيد
قبل مواجهة الاتحاد الليبى كورونا تضرب بيراميدز
نادي المدينة يتعاقد مع "سالم عبلو " استعداد ًا…

صحة وتغذية

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها
طبيب يحذر من خطأ "كارثي" يبطل فعالية لقاحات كورونا
الولايات المتحدة الأميركية تستقطب ربع إصابات كورونا في العالم
10 حالات غريبة يكشف عنها الطب خلال 2020

الأخبار الأكثر قراءة