دبي - المغرب اليوم
قدمت الدكتورة كوثر محمد أحمد الجاف، من جامعة السليمانية، تحليلًا لعودة الحب الضال، دراسة لنسوية رواية "أعشقني"، للدكتورة سناء شعلان، قائلة "نشهد في هذا العصر، تغييرًا ملحوظًا في ترتيب الأنواع الأدبية، فما كان بالأمس في أول السطر، بات اليوم تاليًا، ليشهد سبق الرواية عليه، حيث ظل الشعر مهيمنًا على الأنواع الأدبية الأخرى، لقرون عديدة. وهذا السبق الجديد للرواية على حساب الشعر، مرده إلى أن الرواية قد أثبتت حضورها الواضح من خلال إثبات وجودها الفاعل في المجتمع كأداة أسلوبية، تُسهم في دفع عجلة التطور الفكري والأدبي، لما تملكه من حضور بسبب ارتفاع نسبة المبدعين من الكتاب، إلى جوار أنها الأكثر مقروئية، لما تملكه من أدوات عصرية، تواكب متطلبات الحاضر، بالشكل الذي جعل الرواية النوع الأدبي الأكثر تداولًا و مقبولًا، كما أنها فتحت أبوابًا جديدة للتداول والنقاش والتواصل بين القارئ من جهة، وبين عصره من جهة، وبين الكاتب من جهة أخرى. ولهذه الأسباب وغيرها، اخترت الكتابة في مجال الرواية، لما فيها من تنوع وتداول واستفزاز للقدرات في معرفة الخوض في غمار هذا العلم، الذي تتطلع إليه العيون والعقول ، لكشف خباياه ، واكتشاف العالم من خلاله ، كون الرواية الأداة الأكثر فاعلية ، والأكثر مرونة لمواءمة العصر ومجرباته ، من الأنواع الأدبية الأخرى ، التي شهدت تراجعاً في محراب حضوره الواضح .
وليس يخفى على من يخوض غمار الرواية، بأن الحركات النسوية قد نشطت من تحركاتها ، فوجهت قسماً من هذا النشاط إلى الرواية ، وجعلتها أداة لمواجهة الحركات القمعية التي تقف بالضد من المرأة وتحاول تهميشها و استغلالها والسيطرة عليها ، وإلغاء كينونتها ، ولاسيما ما يخص الهوية ، الأمر الذي دعي تلك المنظمات إلى القيام بحركات مواجهة وقفت بالمرصاد ، لتعيدَ ميزان القوى إلى نصابهِ ، بأن تُلغيِ التراتبية المزعومة ، التي من شأنها النظر إلى المرأة من موقع أدنى من موقع الرجل . لا سبب إلاّ لأبعادٍ بأيدولوجية ، تحكم مسار الوجود في ظل ثنائية منطقية تفرض وجود قطبين متعادلين ، وتبرر وجودهما المتساوي في الحياة . ولهذه الأسباب و غيرها ، ايضا، وقع اختياري على رواية (اعشقني) للكتابة الأردنية (د. سناء شعلان) ، لما شعرتُ فيها من مناهضة لتلك الدعوات التي تحاول قمع المرأة ، في ضل سياسة ذكورية ترى العالم من منظور أحادي الجانب ، يسم كل طروحاته بالدكتاتورية الممعنة في الانحياز لصالح الجنس .
وجاء البحث مقسماً إلى تمهيد، تحدثت فيه عن أهم طروحات النسوية في جانب الإبداع الأدبي ، بدعوى إثبات الذات ، والبرهنة على الهوية في ظل عقلية تحدد تراتب الأجناس وفق أبعاد بأيدولوجية صرفة منوهة عن أهم الفروق بين الكتابات النسوية والنسائية ، لأدخل من خلاله إلى الأسباب الظاهرة ، التي تسم الرواية بأنها من الروايات النسوية ، المناهضة وبشدة للطروحات الذكورية ، لتضع في مقابلها عناصر القوة التي تتمتع بها المرأة في ظل الثنائية الطبيعية التي توجب وجود قطبين متعادلين لسير الحياة ، وضمان تنظيم مراكز القوى ، بالعودة إلى الفطرة الإنسانية السليمة التي جبلها الله في الأنسان ، لحبه و حب الأخر ، دون تغليب لجانب طاغٍ على آخر مستضعف ثم وصلت في نهاية البحث إلى خاتمة ، أوردت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها ، ولم أنس انوّه في نهاية البحث عن أسماء الكتب و المصادر التي استعنت بها في بحثي.
التمهيد :
النسوية ودعوى إثبات الذات:
على الرغم من أن الخلافات لا زالت مستمرة، حول تحديد أول من كتب الرواية، وحول جنس كاتبها، إلا إن من المصادر من توثق أيضاً بأن أول من كتب الرواية في الادب العربي كانت امرأة، وهي (زينب فواز) روايتها المعنونة (حُسن العواقب)، عام (1899)(1)، بغض النظر عن إن جميع البلدان العربية قد أقرت بأن رواية (زينب) 1914، لمحمد حسين هيكل، هي أول رواية في الأدب العربي، وهذا الأمر، في حدِ ذاته، يضع إبداع المرأةِ تحت جدل كبير، فيما يخص الجانب الأدبي، بضرورة الاعتراف بكينونتهِ ووجودهِ، بعدما وُضِع ابداع الرجل (الادبي)، ضمن عنوانات انتصاراته الماحقة على مدى قرون.
إلاّ انّ عودة اخرى الى المصادر التأريخية، تُظهِر لنا، ان توثيق التأريخ البشري قد بدأ من المرأةِ، إذ "إن النساء كنُ على مدى التأريخ، وفي جميع أنحاء العالم، أول القاصات و أهمهن... هنُ أمهات الحضارة، و أمهات الثقافةِ الشعبية... وربما أصبح من نافل القول اليوم: إن القصة الشعبية هي ابتكار نسائي" بحت.
إن مايدعو للوقوف و التثبت من المعلومات الواردة في المصادر، هو حقيقة، إن المرأة لم تنل حظها من التوقير و الأهمية في جانب الابداع الأدبي، بقدرِ ما نالهُ الرجل، بل ولم يُعترف بوجودهِ في أحيانٍ كثيرةٍ ، وكأن مقدراتها تحتم ان تبقى أسيرة واجبات المنزل و الاسرة و تربية النشأ، دون النظر الى ما يمكن أن تكون قد أدته من دورٍ فاعلٍ في دوران عجلة الأدب، جنباً الى جنب الرجل، إنْ لم تكن قد فاقته او سبقته، بالفعل، لأنّ إحدى المشاكل التي لاحقت الادب النسائي، و أضرّتْ بهِ، في التأريخ القديم، قد تكمن في المتلقي، وليس في الكاتب نفسهِ، فالكتابات النسائية كانت موجودة على الدوام ولكن المتلقي الرجل، أنكر ذلك، وهذا ما تحاول أن تقوله (ديل سبيندر) : "لقد صنعت النساء تأريخياً، بقدرِ ماصنع الرجال، لكنّ تأريخهنّ لم يُسجّل، ولم يُنقل، وربما كتبت النساء، بقدر ما كتب الرجال، ولكنْ لم يتم الإحتفاظ بكتاباتهن، وقد خلقت النساء، دون شك من المعاني بقدرِ ماخلق الرجال، لكن هذه المعاني لم يكتب لها الحياة، حين ناقضت المعاني النسائية، المعاني الذكورية، وفهم الذكور للواقع لم يتم الاحتفاظ بالمعاني النسائية، وبينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية، فإن معاني و تجارب جداتنا غالباً، ما اختفت من على وجه الارض"، ناهيك عما قيل عن عدم إمكانية خوض المرأةِ غمار الأدب، و كأنّ الأخير حكر على الرجل، وقد خُلِقَ مجبولاً عليه، وفقاً للتوجهّ العام، الذي يفى بأن يكون الرجل سبّاقاً في جميع الميادين، و مُجيداً فيه، لذا ظهرت النسوية، بوصفها مشروعاً ايدولوجياً، اعطى الاولوية لتفكيك الافكار و الصور الرمزية و الاستيهامات، التي صارت بديهيات و حقائق ثابتة، في الثقافة الذكورية، مادام الخطاب يسعى في نهجهِ العام، الى طرح المعنى في ظل شبكة متداخلة من العلاقات الاجتماعية و السياسية والثقافية والايدولوجية.
و على ما سبق، فإنّ النسوية توظف كل معطياتها، لمحاربة كل مظاهر القمع التي خضعت لها المرأة في مختلف الثقافات و المجتمعات، لتصحيح ما احتلته من موقع ثانوي في المجتمع الذكوري، بسبب جنسها، وسرعان ما تحولت تلك المساعي النسوية من حالةِ رفض لتلك الثقافة الذكورية القمعية، الى حركة عملت على تغيير هذه الاوضاع، لتحقيق المساواة المبتغاة، من خلال المطالبة بالحقوق الكاملة للمرأةِ، و الإطاحةِ بأسس التفضيل الوهمية لتلك الثقافةِ المزعومةِ، بكل طروحاتها، في محاولة لإعادةِ بناء تلك الأسس الذكورية، وفقاً لمعطيات إنسانية، ترى في النسوية صوتاً، يدعو لقراءة جديدة لمعطيات الماضي، و الحاضر، في محاولة لإعادة كتابتهما، وفقاً لنظرة جديدة، أكثر تطوراً، و أكثر حيادية.
و انطلاقاً من هذه الطروحات و غيرها، تحول الخطاب النسوي عن مسارهِ ايدولوجياً، و بانت أهدافه أكثر ستراتيجية، نحو رؤية تروم بها، تحرير المرأة من القيود المفروضة، المتمثلة بانعدام الحضور، لانعدام المعرفةِ... فأعلنت بذلك، عن وجودها نداً فكرياً، ومنافساً فاعلاً، يمسك بزمام الأدب، و زمام الثقافة، و زمام المعرفة، جنباً الى جنب الرجل، و اصبح لها كيان ثقافي و سياسي و اجتماعي، و هذا يعني أنّ أدب المرأة لكي يكون نسوياً، او انثوياً، بحسب الترجمة (Feminism )، عليه ان يتخطي حدود الجنسوية، بأن يتناول كل ما يُسهم في دك معاقل الثقافة الذكورية، بطرح قضايا المرأة المعلقة، او طروحاتها الستراتيجية الفاصلة، بين وجودها وعدمها، و محاولة الإطاحة بكل وسائل القمع الموجهةِ ضدها، للنيل من انسانيتها ككل.
من ذلك يتضح، إن النسوية مصطلح، يتبنّى ما يتبنّاه النسائي، ولكن على شكل مخصوص، فالنسوية وجهةُ، تحتم على متجهها أن يحمل على عاتقةِ إشاعة روح التمرد والثورة، على كل الفرضيات القديمة، التي امعنت في إذلال المرأة و إقصاء دورها فكرياً وسياسياً،.... و استبدالها بما يتيح لها إثبات ذاتها ضمن تلك المنظومة الضدية، او القمعية، و اتخاذ كل السُبل المتاحة، لإعلاء كلمتها، بما يجعلها قادرة على المواجهة والفعل، وبما يضمن لها قيمتها، وفق منظومة لاترى لها اية قيمة تذكر، سوى الإمتاع و التربية، وهذا ما يجعل من الادب النسوي متاحاً لكل الفئات والاجناس_ بخلاف النسائي المخصوص بالمرأة الكاتبة، في شتى مجالات الحياة_ مادام يتبنّى الدفاع عن المرأة، و يعمل على دحض كل سياسة من شأنها قمع المرأة، أو قمع وجودها، او صوتها، او ثقافتها، في ظل السياسات المناوئةِ لها، دون أن يعني ذلك كتم صوت الآخر، فسماع احدهما مرهون بسماع الآخر، و حضور احدهما رهن بحضور الآخر، مادام كلاهما يقعان ضمن منظومة إشكالية واحدة، يبرر وجود احدهما، وجود الآخر، ومشكلاتهما معاً تشكل خيوط نسيج الرواية، ف( الرواية هي فن الآخر)، وهذا، في حدَّ ذاتهِ، ماصنع للمرأة قلماً، هو في حقيقة الأمر، خير ممثل عنها، و عن آلامها، و صراعها، و نزاعها للبقاء والوجود و بذلك، فقد قطعت المرأة، دابر كل تلك المحاولات التي تسعى الى كتم صوتها، وإنابةِ الذكر عنها، وإحلال الثقافةِ الذكورية محلً كل تواجدٍ، يحاول إثبات هويتها، لتؤكد اهليتها، وقدرتها على الابداع_ كما الرجل_ ومغادرتها حالة الصمت والركود، التي حُسمت في منظور الثقافة المضادة على انها عجز و اعتراف بالنقص.
ولم تكتف المرأة الكاتبة بما سبق، بل حلّقت في مجال طموحها لإثبات قدراتها الى أبعد من ذلك بكثير، إذ تعدتْ مرحلة فهم الذات، و محاولة تقديمها في أبهى صورة، الى مرحلة كشف الآخر، و الغور في ذاته، ذات عملت الثقافة الذكورية، جهد إمكانها، على جعلها مبهمة و مغلقة في وجه المخلوق الآخر، بدعوى دونيته، مما دفع بالمرأة انْ تتحيّن فرص التحدث بدلاً عن الرجل، و التعبير عنه، وعن اكثر طروحاتهِ خصوصية، و حميمية، سواء ما يخص علاقته بذاته، او علاقته بالآخر، او بالموضوع، عبر تقنية التماهي، على الرغم مما اكتنف ذلك من خطورة، في تكريس تبعيتهنّ، و هكذا قلبت المرأة المعادلة التي حكمت علاقة الندينِ ببعضهما، الى علاقة ضدية متمثلة بتحويل الهامش الى بؤرة المركز، مما أتاح لها، أن تُعيد انتاج ذاتها بالكتابة، لاسيما روائياً، بمعنى أن تتخذ من كتابة الرواية وسيلة للوجود والمقاومة، فالكتابة بأقلام ذواتهن تضع حداً للعزلةِ المفروضة عليهن، و تمنحنَّ الثقة بوجودهن، وقدرتهنّ على إعادة برمجة حياتهنَّ بأنفسهنَّ، بوصف الرواية أداة للخطاب، والحوار، وإثبات الذات، ودفاعاً مستمراً عن كينونة الانسان، و صوناً له من الطمس والنسيان، الى جوار صيرورتها، أكثر ادوات التخاطب قدرة في العالم الحديث، من حيث إمكاناتها على إعادة ترتيب المرجعيات الواقعية والثقافية، ضمن المنظومة التراتبية، و إدراجها في سياقات نصية توهم المتلقي بواقعيتها، ومن هنا، فقد وجدت الرواية النسوية ضالتها في العالم الجديد والمتغيرّ من حولها، إذ عمدت الى الدفاع عن حقوق المرأة، من أجل تغيير مسار تلك التوجهات القديمة، و جعلها أكثر ثباتاً، بأن تكون نظماً اجتماعية، تدعمها القوانين والتشريعات الجديدة، اي : بما يمكن ان تكون الرواية النسوية أكثر رواجاً، و أشدَّ تعبيراً عن ذات المرأة بنفسها، او بغريمها الرجل.
نسوية رواية (أعْشَقُني) :
لئن بررت الكتابات الذكورية، ضرورة ان تكون الموضوعات السياسية، و خوض غمار معتركها، حكراً على الرجل، استشهاداً بقول سقراط :" للرجال السياسة، و للنساء البيت"، فإنّ مايدعوا الى التفاؤلِ بوعي المرأةِ لذاتها، ضمن منظومة البقاء و الديمومة، أمام المجتمع الذكوري، هو وعيها بأهمية أن تخوضَ غمار هذا المعترك_ السياسي_ و من باب آخر، بأن تكتب المرأة رواية تكون فيها المرأة هي الشخصية الرئيسة، التي يدور حولها المحور السياسي، اي ان تكون هي، ذات فكر سياسي، او فعل سياسي، لا الرجل، لأن اقتصار المرأة على كتابة رواية سياسية يكون فيها الرجل هو الشخصية المحورية التي تدور حول فلك السياسة، إنما بذلك، تقُر ضمنياً بافتقارها للخبرةِ في هذا المجال، و تؤكد عجزها المزعوم من قبل الثقافة الذكورية، من إنّ "الكاتبات العربيات قد فشلن في معالجة الاهتمامات الاجتماعية و السياسية لبلدانهن"، ولكن، في حقيقة الأمر، ان الكتابة في السياسة_ ممتلكات الرجل المزعومة_ ليست كافية لكي تقدم المرأة أنموذجاً عن ذاتها الواعية، المثقفة، و المسيطرة على ادواتها، كما الرجل، بل عليها أن تكون لها بصمتها الأبداعية المميزة عن الرجل، و أن تختط لنفسها، ما يؤكد خصوصيتها، كإمرأة، لها مجالها المختلف و نظرتها المختلفة، تعرف بها، على الرغم من تشابه المعتركات الحياتية اللاتي يخوضانها سوية، وعلى الرغم مما تروج له الثقافة الذكورية، من أنّ "الرجل في الرواية يُعيد بناء العالم، أما بالنسبة للمرأة، فان الرواية هي تركيز للمشاعر... الرجل يكتب الرواية بعقله، بينما تكتب المرأة الرواية بقلبها، العالم هو المركز لما يمكن أن نسمّيهِ رواية الرجل، بينما نجد ان الذات هي مركز الرواية النسائية"، و هذا الترويج، يُصبح زعماً يضُّر بالمصالح الذكورية، إذا لم نأخذ بالحسبان، عدم تمكن الرجل من "أن يكتب الرواية، دون ان يتضمن الذات، ولا يمكن للمرأة أن تعزل نفسها عن العالم"، و مما لاشك فيه، إن الكتابة عن دواخل المرأة و مشاعرها بصدق و حِرفية، لاتقل اهمية عن كتابة الموضوعات التي تحيط بها، سواء أكانت سياسية، ام اقتصادية، ام اجتماعية.... فالمرأة ادرى من غيرها بنفسها، و اشمل في تصوير دائها و دوائها، بمعنى: اصبحت مسألة اختلاف كتابة المرأة عن كتابة الرجل ضرورة و خطوة أكيدة للحصول على الهوية الانثوية المميزة عن الهوية الذكرية، و إن كانت لتصب في مضمون النسوية نفسه، وهذا أمر، لاشك، انه حقيقة، إن لم نغفل ان لكل منهما تجاربه النفسية والثقافية و الاجتماعية، ولكل منهما نظرته الايدولوجية المختلفة عن الآخر، إذ ان خصوصية التجربة الابداعية مشروطة بشرط النوع، ولكنها في نهاية المطاف تصب في الاطار التكميلي، لبعضهما بعضاً، وليس في إطار التصادم والهدم لآخر، بل ضمن منظومة التعايش الثنائي.
و انسجاما مع تبني الخطاب النسوي ستراتيجية الهدم لكل المزاعم الذكورية التي من شأنها إضعاف المرأة، و محو ذاتها الانثوية، لم تكتفِ رواية (اعشقني) لسناء شعلان، بدك معاقل الفحولةِ وهدّ صروحها الواحد تلو الآخر_ كما سيأتي _ وإنما تخطت ذلك نحو انتزاع سلطة الكتابة من الرجل عن تفاصيل حياته الاكثر خصوصية، ومنحها الى ذاتها النسوية، كروائية تختزل في روايتها مشاعر الرجل/ بطل الرواية، و عذاباته حول قساوة مقدراته، و (يالها من أقدارِ عابثةِ حدَّ المجون والعمر إذ حرصت ان يكون السارد والبطل الاساس الذي يسيطر على منظور القص رجلا، اي انها قد قدمت اختلاجاته النفسية والفكرية على حدِ سواء.
و في استجابة ضمنية، او لاشعورية لطروحات النسوية، بردَّ سياسة (التحديق)، التي جُبِل عليها الذكر، والتي تجعل المرأة سلعة معروضة عَبر النظرِ إليها في كتاباتهم، وجعلها ركيزة أساساً، في إظهار إيجابياتهم، مقابل سلبيتها، بعدّ الناظر ذاتاً فاعلة في موقع القوة، والمنظور إليه شيئاً منفعلاً في موقع الضعف، لتسلّط الفعل عليه، فقد أطاحت الرواية _في نظرنا_ بأحلام النسق الذكوري، الذي اعتاد التحديق في نساء فاتنات بأجساد شهية، ذات صدور نافرة مثيرة لرغباتهِ، و أهوائهِ الجنسية، فالرواية لم تحرم قارئها التحايل، من خلال توظيف التلاعب بمعايير الانوثة والجنس، وإيهامه له، إذ تبتديء الرواية بمفارقة، قل نظيرها موضوعاً، لما تقدمه من اختلاف في نظرة الرجل الى جسد المرأة، إذ يصف البطل جسدها العاري، بالصغير، النحيل، الاسمر، النافر الثديين، الضامر البطن، البادي النحول، بحيث (لو كانت الظروف مختلفة لما كنت قبلت ابداً بهذا الجسد الصغير، النحيل الاسمر)، وهنا تكمن الذات المتبصرة في الآخر، ذات المرأة/ الانثى (الكاتبة)، امام ذات الرجل/ الذكر (البطل) . إن هذه الصفات، في حد ذاتها، يمكن أن تكون مستغربة من رجل يحاول إقامة تلاق جسدي، بالمرأة التي ترقد جنبه، (بجسدها العاري، المسجي على سرير ابيض عارِِ إلا منها، هو خصمي في هذه اللحظات، ولكني لست خصمه، بل المنتظر إياه بلهفة مجنونة، تملك أيادياً متعطشة للإحتواء)، كما إن بنية السرد التي ارتأت الروائية أن تبتديءَ بها الرواية، والتي اسمت فصلها الاول، بِبُعد الطول، دلالة على الجسد، يمكن أن تبدو لقارئها، للوهلة الاولى، بانها هي قضية الرواية الاساس، ولكنها في حقيقة الأمر، بنية مراوغة، تشتت رأي القاريء، منذ البدائية، بأن تحيله على بديهيات علاقة الرجل، بجسد المراة المشتهى، لتصدمه بعد أقل من صفحتين، بسر هذا الجسد المسجّى، ونوع حتمية تلاقيهما، بأن يصرخ رافضا، أن يكون حقل تجارب، و يرفض بأن يكون (أول انسان تُجرى له عملية نقل دماغ)، و ليعبِّر عن عجزهِ إزاءها و إزاء جسده الحبيب: (ليتني استطيع أن ارفض بعزم و إصرار ان يُنقل دماغي الى جسد تلك المراة المعانقةِ للموت والعدم) ، و الرواية بذلك، إنما تعمد منذ البداية، الى تحقيق مفارقة صارخة بين الاقوال والافعال، بأن تقدم بطلا عاجزا، أمام تصريف القوى القدرية، التي اجبرته على تغيير جسده، وتغييره تغييراً ضدياً، لاشبيهاً بالجنس، (فالأطباء اكدوا له ان هذا الجسد الانثوي المنسرح في احضان الموت، هو الجسد الوحيد الملائم جينياً، وانسجة وخلايا لجسده، في حين تغيب الاحتمالات الاخرى الملائمة، حتى تلك الجثث الكثيرة المكومة في المشرحة جميعها لاتناسبه جينيا، ولذلك عليه أن يقبل بأن يدسَ روحه و دماغه في هذا الجسد الصغير، على كرهِِ او رضا، حتى ينجو بحياتهِ)، و تمضي صفحات الفصل الاول من الرواية، في تماهِِ سلس بين تقنيتي السرد والحوار الداخلي، وبترقب شديد، ومهارة عالية، لتقديم ما يمكن أن نسميه رهاب العملية القيصرية، وما تعتريها من مخاوف وقلق وتردد، تقض مضاجع من يروم خوضها في (زمن حرج، مخنوق، مشدود، بتوتر الى القلق والعجز، والقصر، والانقضاء السريع)، يقول البطل معِّبراً : (ليتني استطيع ان اتشبث بجسدي الحبيب، ليتني أملك الجرأة لأقول للأطباء: دعولي أموت، أنا أرفض أن أكونَ حقل تجارب... لكني جبان ضعيف أمام رغبتي المتشبثة بالحياة)، أو بعبارة اخرى جديدة، تعبّر عن كم الافكار التي تراوده قبيل إجراء العملية:
(لم يكن أمامي إلا القليل من الوقت لأوافق على هذه العملية بتهورٍ، وعلى عجلٍ، يتنازعه ألم جسدي عظيم، وخوف رهيب، من الموت والرحيل، ورغبة ملتهبة، في أخذ فرصته جديدة للحياة، ولو كانت فرصة اكبر من مستحيلة)، ثم يهمُّ نفسه، ويشحذ همتها، لاتخاذ قرار خوض العملية، بقوله:( عليَّ أن اختار سريعاً، أو هذا ما يُخيّل إلىّ انني سافعله، او ما يجب ان افعله فعلاً)، ليصل في نهاية المطاف الى قرار بقبول خوضها: (باختصار، ليس امامي إلاّ أن اركع في محراب الفرصة الثانية والاخيرة للحياة)، متجاوزاً كل تلك المخاوف، جّراء خوضها، والنظرة الدونية التي ما برحت تلازمه، تجاه المرأة، بجسدها الضعيف، ف(لازال طعم الحياة الحلو ينخر إرادة الرفض والاستعلاء على الضعف في نفسي) ، إن تلك النظرة الدونية التي يضمرها بطل الرواية للمرأة بحسب ثقافته الذكورية- ظلت ترافقه، حتى في أشد لحظاتهِ ضعفاً، و أكثرها حاجة للخلاص، فلم يتوانَ عن إظهار قوتهِ و جبروته أمام المرأة الضعيفة،(لعلها ترفض بصمت رهيب أن تهبني جسدها الصغير، ولكن من يبالي برفضها؟ وأنا الجبار القوي في هذه اللحظة)، فالشعور بالاستعلاء جنسوياً، مقابل دونية الجنس الآخر، ماهي إلا من تراكمات ثقافته الذكورية المستطلة، منذ قرون طويلة، ولكنه- البطل- يعود ليوهم نفسه، بأنها (فقط هي رغبة الحياة والفرار من الموت، من تهصر لحظاتي) تلك النظرة التي مافتئت النسوية تحاربها، وتدعو المرأة بالانقلاب على مبدئها اللاعادل، اذ انها تنظر الى المرأة في إطار علاقتها بالرجل، وهذا في حقيقتهِ باطل، فليس بإمكان الرجل أن يعيَ الندية، إلا من خلال مجابهته لمثيلهِ في الجنس، اي من خلال علاقته برجل آخر يُظهر قوته و بأسه الشديدين.
إن القاريء المسترسل لرواية (اعشقني)، يتبّن له، انها ليست برواية الشخصيات التي تعتزم تقديم نفسها بنفسها، في تطورٍ زمكاني متنامٍ مع الاحداث، بمعنى: إن الروائية- في النصف الاول من الرواية- لم تحرر الشخصيات لتقدًم نفسها بنفسها، او تقدم تأريخها، من خلال حاضرها، وكما ترسمه لناخط سير الرواية التقليدية المعروفة، بل أناطت تلك المهمة الى البطل المحوري، بأن جعلته مرآة تعكس صور الشخصيات التي تتراءى أمامه، وقدمت أفعالهم و ذكرياتهم الخاصة بهم، من خلال تقنية الاسترجاع، اي: ان مايمكن أن يُكتشف عن عالم الشخصيات الدفين، والمتواطيء مع الخفاء، هو من خلال ما افاضت بهِ الشخصية المحورية، وأفضت بهِ، دفعاً لعجلة احداثها الفاعلة قدرياً، أو خيارياً، الى الامام، لتسير الرواية على هذا المنوال من تعرية للشخصيات، وتعرية لمفارقات ضدية، تقلب مسار التوقعات رأساً على عقب.
تحاول الرواية أن تقدم لنا بانوراما حيّة للواقع المتصوَّر، في العصر القابل، إذ تدور الاحداث في العام (3010)، مما يعني: إن الرواية قامت باستشراف مستقبلي لما يمكن أن يحدث لذات الانسان العصري، في ظل تجليات التكنولوجيا، و عوارضها اللامبررة، التي تغلغلت في كل تفاصيل الحياة، و تفشت فيه، بما يُحيل جميع مفردات الحياة الى أدوات فاعلة في عملية التدمير، تدمير الانسان و ذاته، و القيم الجمالية التي يمكن أن تُبقي على آدميتهِ، في ظل منظومة عبثية، تمتزج فيها الارقام، بالصور، بالأصوات: لتخلق منه إنساناً مموها، مُستلب الإرادة، هي بانوراما تتسم بالقوةِ و التسلط، بالاستسلام الى المقدرات والانهزام، بالثورة والقمع ، بالرفض و الرضوخ، بالاستهزاء و التمجيد.... باختصار هي بانوراما تحمل في طياتها متضادات و متناقضات، ما كانت لتجتمع إلاّ في حياة (باسل المهري) بطل الرواية، حيث يتآزر التأريخ والواقع اليومي المعاش، سوية، ليحكيا بتميّز، ووفاق تام مادار في الفصل الثاني المُسمّى بِبُعد الزمن ما حصل مع البطل بعد عملية نقلِ دماغهِ الى جسد (امرأة).
يفيق (باسل المهري) على اللازمن، و اللا إدراك، و اللاتحديد، فالوقت لديه متذبذب، وغير مؤكد،
(الساعة الآن هي الخامسة إلا ثلثاً، لا، هي الخامسة إلاّ ربعاً، بالتحديد هي الخامسة إلاّ سبع عشرة دقيقة) (23)، ليغوص في عالم معلوماتهِ و بدبهياتهِ، و يتنقل بينهما، مادامتا الشيئين اللذينِ يُدللان على وجودهِ، وعلى سلامة جزء من ذاكرته الحالية، ولكنه سرعان مايعود الى هلوساته التي تقض مضجعة و تسأولاته المتكررة عن الزمن، بجعلها الهم الأوحد لاستكناه الحاضر، عبرَ علاقة جدلية تربط الماضي بالحاضر ،(فباسل المهدي) مُغيّب عن حاضره ، عن غدهِ القريب،(يُغمِض عينيهِ، و يسدر من جديد في صمتٍ و عماء محيط، مئات الصور و الذكريات والألوان والروائح تجتاح لحظته)، لكنه يتذكر من ماضيه، ما يؤهله لأن يعي اهمية اكتشاف حاضرهِ، الذي لازال يلح على معرفته (الساعة الآن اصبحت الخامسة إلاّ تسع عشرة دقيقة.... ياتُرى هل هي الساعة الخامسة صباحاً أم مساءً؟... من أنا؟ أين أنا؟ ما الذي يحدث معي؟)، و كأن شرارة الماضي يمكن أن توقد شعلة الحاضر لديه.
إنّ استكناه الزمن الحقيقي، و الزمن الروائي، أمران غاية في الاهمية، لمعرفة كيفية دوران الاحداث، و سبب صيرورتها، وفي رواية (أعشقُني) شكل الزمن معياراً للوجود، بعد أنْ أضفت عليه الروائية، لفظة (بُعد)، في تقرير لأهمية تلك الابعاد التي أقامت عليها روايتها، فالزمن شكل ضلعاً ضمن خماسية، تلخص فيها اسباب الوجود البشري و ديمومتهِ.
يلح البعد الثاني على البطل، من جديد، وعدة مرات، و في أماكن متعددةٍ، ومناسبات متفرقةٍ، في انتفاضة لمعرفة الذات، فالذات و الأنا تجد مصداقيتها، عَبر تجليها في ماضٍ منصرم، وحاضر يستشرف القادم و يُفصح عنه.
يفيق (باسل المهري) ليكتشف بعد عدة محاولات، بانّ الساعة التي كان يناظرها باستمرار، بعد كل إفاقة (انها متوقفة لاتعمل)، وليعي بعد عدة دفعات من التلقين ممن حوله، الزمن، بل ذاته التي كانت غائبة عنه، بسبب غياب الزمن، ليكون دليله الى ماضيه ومستقبله، لِما شكل الوقت لديهِ من حلقةِ وصل بين زمنين كانا مُغيبينِ و مجهولينِ بالنسبة له، لافتقادهِ حلقة الحاضر، في إشارة من الروائية الى إدراك أهمية هذا البُعد، و ضرورة استغلاله، بما يحقق الذات الفاعلة في الحياة، (لم يعد في حاجةٍ الى تكرار الإجابات، فقد باتت بديهيات في وعيهِ الذي بدا يستيقظ على دفعات... وبات يُدرك الإجابات الحاضرة، وبعض الغائب منها، وما عاد في حاجةٍ الى أن يخبره أحدُ بانه باسل المهري، فهو يعرف ذلك تماماً، و يراقص في احلامه، وفي صحوه كل ذكرياته الجميلة و البشعة و المحايدة، و عديمة الملامح... و يدرك كذلك انه دخل التاريخ من اوسع أبوابه).
شكل الجسد في رواية (اعشقُني) بؤرة السرد المركزية، فقد حاز على اهتمام الروائية بشدة، بعد أن خصصت له من روايتها فصلين و بضع صفحات من الفصول الاخرى، ووضعته تحت بُعدي الارتفاع والعرض، في متوالية تجسد من خلالها الحضور الثقافي و المعرفي بالذات، والذات الاخرى و لكينونتهما، ويبدو هذا الطرح متناسباً مع الطروحات التي اخذت بها النسويات، واستثمرنها في الكتابة، و بخاصة بعد أن اعادت الفلسفة المادية الاعتبار الى الجسد، ورفضت مسالة الوجود التراتبي، فلم يعد هناك وجود لذات علوية، تُختزل في النفس، ولا سُلفية، تُحبس في الجسد، في تضمين لتراتبية الذكر والانثى، فالإنسان يُفكر بذاته، حين يفكر بجسده، ولولاهما سوية ماكان بمقدورنا أن نُدرك العالم من حولنا، من هنا اصبح بالإمكان النظر الى المرأةِ ذاتاً و كياناً فاعلاً وحاضراً، بما تشكله من قوةٍ ندية تجابه الرجل، لايكونها جسداً حاضراً، و مثيراً للشهوات، فوجودها الجسماني يحتل كوناً، لايقل أهمية عن كون الرجل.
أمام تجسيد الثقافة الذكورية، التي تختزل الوجود في الجنس الذكري، وتجعل منه مركزاً للقوة، و مركزاً للكون، و سيراً على النهج الذي اختطته الرواية النسوية في ردِ تلك الدعوى وكشف زيفها، فقد عمدت الكاتبة لتعرية الذكورة، ودك معاقل الاستعلاء المزعومةِ، بأن جعلت البطل الرئيس للرواية رجلاً، و انطقته لكشف خبايا تفكيره المتعالي، و نظرته الدونية تجاه المرأة، و كشفت إرهاصات روحه المعذبة، جرّاء الاستهانة بقوتهِ وعقلهِ، و اختزالهما في جسدٍ مستضعف، بحسب ثقافته الذكورية، فهو الآن (شبه انسان، وشبه جسد، وشبه عقل، و شبه حالة)، فأعطت لهذا الذكر مساحة روائية كبيرة، يجول فيها نفسياً ووجدانياً، كما كان يصول في حياتهِ السابقةِ قبل عملية نقلِ دماغهِ الى جسد انثوي، ومع كل تلك الصولات الفعلية السابقةِ، و القولية الحاضرة، فانهما لن تُجديا نفعاً مع ماحلّ بهِ من خراب، ف( العلم كله و التقدم الحضاري بأسرهِ في الألفيةِ الثالثة من تاريخ البشرية، و سلطتي و رتبتي العسكرية الرفيعة، و نفوذي الخطير، و سيرتي العسكرية المشرفة، و طموحاتي العملاقة، و مآثري المزعومة، لاتستطيع جميعاً أن تهبني لحظة حياة إضافية)، و الكاتبة إذ لجأت الى هذه الخطوة، إنما افشلت سياسة (التحديق)- التي تحدثنا عنها سابقاً- بأن قلبت موازين الرؤية، فجعلت من الذات الناظرة و الفاعلة (باسل المهري)- الرجل/ الجسد الذكوري السابق منظوراً إليه، و جعلت المنظور إليه (شمس)- المرأة/ الجسد الانثوي الحالي، ناظراً، اي جعلت الفناء امام الوجود، الموت امام الحياة... بجعل المرأة هنا، مركز القوة و الفعل، بوجودها الجسدي الحاضر و الفاعل، و إنْ غابت عنه الروح، (لم أعد أراني، فقط هي الحاضرة، في هذا العالم الممتليء، هي من تسكن مجال الرؤية والحقيقة والوجود، هي من تعترف بها كل قوانين الطبيعة، والوجود و الفيزياء، هي من تكرس بحضورها غيابي، وهي من يكرسّ حضوري حضورها و لاشيء غير حظورها الذي يصفع ضعفي ووحدتي و حضوري الغائب اُلمشظّ، استطيع أن أدّعي إنها ميتة... ولكني وحدي اعلم انها موجودة، وانني الغائب الحق، هي الكأس، وأنا المُدام المُراق، و ماقيمةِ مدامٍ مهدورٍ أمام حقيقة وجود الكأس؟).
لم تكتف الكاتبة بما سبق تقديمه، بل ذهبت الى ابعد منه، حينما دكت رمز تفوق الجنس الذكري و رمز القوى المركزية، في ثقافة الرجل الذكورية، و محاولة محقها من الداخل و الخارج، بأن أتت على اسطورة
(الحسد القضيبي)، التي يُحيل اليها فرويد جميع الاضطرابات التي تعاني منها المرأة، و بخاصة عقدة الخصاء، إذ جعلت الذات الذكورية المتمثلة في (باسل المهري) هي التي تُعاني من الإحساس بالدونية وتحتقر نفسها بسبب خصائها- بعد نقل دماغهِ الى جسدِ انثى- و ليست الذات النسوية، و إنّ خصاءه هو الذي جعله طعمة للاضطرابات الداخلية و الخارجية، مما هدمت تلك المعادلة اسس مزاعم النفوق الذكوري، المتجسد في قضيبهِ بضربة ما حقة واحدة، رغم انعدام جدوى هذا العضو الذكري، بحسب مجريات احداث الرواية، إلاّ في التبوّل- وعلى ما سيتضح تباعاً- ولكن ثقافته الذكورية ظلت مهيمنة عليهِ،( اول حركة ليديهِ سرحت دون وعي منه الى قضيبه المجيد، فقد اعتاد في الماضي على أن يُداعبه في كل ليلةٍ، مستغِلاً عُراه في سريرهِ الدافيء.... لا يعرف لماذا تسعده هذه المداعبة، التي ألفها منذ ان كان صغيراً، قرأ مرة في الماضي، انّ هذا العضو كان فعالاً في آليات تواصل جسدية كانت سائدة لقرون و حقب طويلة في الماضي بين الرجل و المرأة، لكن التقدم الحضاري عمل على انقراض هذا التواصل، الذي لايعرف بالضبط كيفية تفاصيله او آلية عمله، بعدما استحدثت مراكز التنمية الاخلاقية الالكترونية وسائل تواصل جسدية الكترونية، وادوات تناكح مخبرية لاتعرف التواصل الجسدي المحض، وتكفل توفير الاجنّةِ عبر بنوك الاجنّةِ المخلفةِ، وفق قوائم محددة، و متنوعة من الاسعار و المواصفات)، وما لبثت الكاتبة تلح على هذه الفكرة حتى كررتها غير مرّة بقولها: (لكنه على الرغم من ذلك لايزال يجد متعة سرية في نفسهِ في مداعبتهِ في العماء، ولذلك ما كادت يداه تتحررات من اسرهما الطويل، ومن وعيهما المؤلم، ومن شللهما الطاريء،حتى انسرحتا في رحلة سريعة لذيذة نحو عضوه لمداعبته)، و إذ ذاك، تُشهِدنا الكاتبة على انهيار ذاته الذكورية و تصدعها، فقد اصيب سلاح فحولته المعطَّل جنسياً، باستبداله بعضو انثوى منفَّر، يُعلن له دوماً عن دمار مخولته، بخسران رمزها،(لكن مفاجأة كبيرة كانت في انتظارهِ، لقد اختفى العضو، تحسس مكانه برعب و توتر، فتأكد من فقدانهِ مخلِّفاً وراءه تجويفاً ناعماً غريباً، له اطراف و أشفار تذكره بالشكل المنفِّر للجزء السفلي من جسد زوجتهِ، الذي اقترن بالتبوّل والتغوّط، و رائحة التعّرق الكريهة، بصعوبة قفز من سريرهِ، مستعرضاً عريهُ الغريب على ذاكرته، لم يعرف نفسه، وتذكر دفعة واحدة و بمرارةٍ طاغية كل ماحدثَ معه، كيف نسي تماماً قصة الجسد الانثوي).
لئن قصرت كاتبة الرواية، مهام القضيب الذكري- سبب هيمنة الرجل و مدعاة تفاخره- على التبوّل، و المداعبة السطحية أحياناً، إلاّ انها استعاضت عن ذلك ببقاء رغبة القمع و التسلّط الذي يمارسه الرجل على المرأة، لا لسبب، إلاّ لفارق العضو، ووجهت تلك الرغبة نحو فئة مستضعفةٍ اخرى، يمارس عليها (باسل المهري) غريزته القمعية و السلطوية، أي : أذهبت السبب، و ابقت على النتيجة- كما يمكن ان يكون في إشارة منها – الكاتبة- الى تلك الثقافة الرجعية التي تلخص مركز الوجود في عضوهاالذكري، يقول باسل المهري : (وإن كنت اشك بأنها ستفرح بأن تترك جسدها عالقاً في عالم المادة مع رجل أخال انه واحد من الدِ اعدائها، لاسيما و انه من فتك بالكثير من اصدقائها الثوار، الذين ارادوا للبشرية ان تتراجع في ضوء مطالبتهم بمثاليات سخيفة بالية عتيقة قد تجاوزتها الحضارة الانسانية منذ قرون)، فلم يترك له جسده الرجولي الفاني، وجسده الانثوي اُلمخصى، اي سلاح آخر يستخدمه للبطش بالانثى او بالثوار، فقد أتت الحادثة الارهابية عليه تماماً عندما وقع- حسب قولهِ- في (ذلك الفخ الارهابي الذي نصبه لي ثوار المجرّة في دوريتي الصباحية الاعتيادية صباح هذا اليوم، في دار القمر، فهتك جسدي و التهم اعضائي وما ابقى سالماً، إلاّ على رأسي، وعلى فتات من ذكرى لحم و عظام مسحوقة كان اسمها جسدي).
لم يكن فقدان هذا العضو الاحتياطي خسارة تحتمل، و إنما ضربة ماحقة، افقدت (باسل المهري) توازنه، و هددته بالتلاشي، كونه لا يملك من مظاهر الافتخار، غير جسده و عقله اللذين أذهبت حربه مع الثوار في المجرّأت أحديهما، ولم يعد يملك- بحسب ثقافته الذكورية- مايدعوه للتفاخر، بعد أن فقد جسده الجميل، وعضوه المعطل جنسياً، (جسدي الممتد في افق الجمال الذكوري والتناسق البديع والشقرة الغارقة في حمرة شهية متوارثة في جنيات اسرتي، التي احترفت شراء أجود انواع المني المنحدر من السلالات الشقراء الهجيته).
إنّ مسألة نقل دماغ بطل الرواية الى جسد امرأة، بحجة انها انسب جينياً- وكما مرّبنا- بحسب الحكبة الروائية التي قدمتها الكاتبة، يبدو انها ليست مصادفةبل هي من صميم دعوات النسوية، لإعادة الهيبة المسلوبة الى جسد المرأة وذاتها، بعد قرونٍ طويلة من الامتهان و الاستلاب، من قبل السلطة الذكورية، بأن جعلت الكاتبة، جسد الانثى (شمس) معادلاً موضوعياً، لجسدهِ الفاني ولذاته المتصدعة، وهذا في حقيقتهِ مسخ للذات و الهوية بطريقة ماحقة ومثيرة للسخرية لدى الثقافة الذكورية، بعد أن أتت الاحداث على اسباب أمجاده الجسدية، يتساءل (باسل المهري)، مُشيرا الى هذا الصدد: (أين كانوا جميعاً و أنا افقد جسدي جزءاً جزءاً واندس مجبراً في جسد امرأة لا اعرفها، لاصبح في مهزلة كبرى اسمها السيدة باسل المهري؟ أين أنتم جميعاً و انا وحيد وضعيف و تائه في هذه المعركة العجيبة مع جسدي الذي ليس جسدي؟).
وعلى ما يظهر من استرسال القراءة، أن بطل الرواية، يحصر مشكلته الوجودية،- في هذا التوقيت من حياته- في اسئلة الجسد و امجاده و خيباته، ولايحصرها في الأسئلة الاكثر إلحاحاً، عن الخلق و الوجود، او عن المشاكل التي تخص مجتمعه او محيطه الكوني، قد يكون في إشارة من الكاتبة الى تقوقع الانسان العصري على ذاته، و انكفائه على نفسه، وانصهاره مع العالم المادي ومافيه من مظاهر التكنولوجيا و مباهجها الخادعة التي تبشر عن ويلات العولمة و البعد عن الله، بحيث لايستطيع النظر معها الى ابعد من مستوى قدمية (غرز ناظريهِ بتفرّس مشوب بالاستلام في بطنه المنتفخ، و انزلق بغير تدريج الى قدميه الصغيرتين، كم هما صغيرتان و نحيلتان و شفيفتان عن عروق صغيرة و جلد طري ناعم، تساءل في نفسهِ: ياترى كم هو مقاس حذائي الآن)، و يعود ليؤكد ذلك في مكان آخر بقولهِ: (عندما انظر مباشرة بنظرة عامودية منحدرة من العينين الى اسفل فالأنف فالذقن، تحجب هضبتا الثديين و جبل البطن رؤية تجويف مابين الفخذين والاقدام، بل تحجبان رؤية موطيء قدمي، فاصاب بكآبة حقيقيةِ، هذا أمر مقرف)، وهذا التاكيد على الانشغال الذكوري بالجسد، لاستكناه الفوارق العضوية و العضلية بين الجنسين، لاشك انه من صميم الواجبات التي تحملها السنوية على عاتقها، لتصويب تلك النظرة الدونية، لجسد المرأة، حتى في أشد لحظات الرجل حاجةً لجسدها جنسياً، او آليا، او وظيفياً، أما في حالة (باسل المهري)، فلابد ان يكون انشغاله بجسده القديم والجديد على حساب ما يدور حوله من متغيرات عائلية او وظيفية جرّتها عليه العملية، مرده الى الضربة التي تلقاها في صميم رجولتهِ، بما هزّت كيانه و بدلته بالكامل، فلم يعد لديه ما يثبت رجولته، من جسد، أو عضو، ف(امتلأت نفسه دفعة واحدة، بجحود لفضل القوة الجبارة المجهولة التي انقذته، وما عادَ معنياً بأي قوة محبة له في السماء، أو في الارض، فكل المشاعر الجميلة والانتصارات الماجدة عاجزة عن ان تعوضه في هذه اللحظة عن عضوه الجميل، او عن جسدهِ المديد، الغض كأطواق الياسمين.
إنّ تنظيرات النسوية في مجال الرواية قد اتخذت اشكالاً متعددة، للحدِ من استلاب المرأة،، وعدِّها جسداً مباحاً، يمكن للرجل ان يضع عليه بصماته، بعد كل انتصار ماحق يحققه، سواء أكانت هذه الانتصارات في ميدان الجنس، ام ميدان العنف، و ذلك بأن قلبت الكاتبات النسويات تلك الاسس رأساً على عقب، عندما حَددْنَ من تشيّء المرأة، و اختصار تقديمها في جسد، قد اعدت تقاسيمه بتفنن شديد، يجعلها سلعة للإمتاع او لوحة للإثارة، وهذا الطرح يبدو متماشياً مع بؤرة السرد، التي تروم الكاتبة أن تقدمه لنا من خلال إناطة عملية الامتاع الجنسي لا بالمرأة، بل (في اقراص انفعالية تُستخدم وفق برنامج مقنن للأشباع الجنسي، تحدده مؤسسات العمل لموظيفها اعتماداً على لحظات أوجهم، ومناسيب امزجتهم وعُطلهم الرسمية، وفاتهم ان يحصلوا على أبناء معدّلين وراثياً، وفق ادق طلبات الزوجين ورغباتهم)، كما زادت الكاتبة على القصيد بيتاً، بأن قدمت انثى في جسد يزدريهِ البطل ومعه اغلب بني جنسهِ، حينما جعلت الجسد في حالة حمل، وما تجرّه تلك الحالة على المرأة من تغييرات فسيولوجية، او شكلية، ... او حتى حركيةِ، ما يجعلها في عيون الآخرين، أبعد ما تكون عن الاثارة و الاشتهاء، و اقرب ما تكون الى السخرية و الازدراء، وإن دلّتْ تلك اللفتة الى شيء، فإنما تدل على ان هوية البطل المحوري قد دخلت في تماهٍ مع بنية الرواية الكلية، فما يطرحه (باسل المهري) من إدانة واضحة و صريحة لجسد المرأة التي يسكنها، أتت من سلسلة تماهيات، غير واعية مع رواسب مخزون ثقافة رجعية، ترى جسد المرأة على ماهو عليه من ازدراء، بعد إشباع رغبة الرجل الجنسية او الابوية منه.
يقول (باسل المهري) في حق جسدهِ الانثوي، متقززاً من آثار حروقهِ و ندوبهِ، و من ضموره ونحوله و سمرته الذهبية الفاتحة، و ليُعبِّر عن تفاجئهِ قائلا: (ثم ما هذا التكوّر العملاق في منطقة البطن؟ تباً ماذا يعني هذا التضخم المفاجيء في البطن؟... لابد من ان هذا التغيير هو مرض نادر أصيب بهِ، او سرطان خبيث يتحصن خلف خلاياه المعلولة وأليافهِ المريضة في جوف جسدها او جسده، اي جسدهما)، و يُعيد ذلك في مكان آخر: (هذه البروزات المقززة في الثديين والبطن هي محركات دائمة لبؤسي)،وعلى مافات يبدو ان جمع القبح الطبيعي والعارض الذي حفّت بهِ الكاتبة جسد المرأة (شمس) مقصوداً، لتوجيه رسالتين من النسوية الى الثقافة الذكورية الرجعية التي تختصر المرأة في جسد مثير، قد تكمن اولاهما في ردِ دعوى أن المرأة تساوي جسداً، بالعمل على إثبات خلاف ذلك، بجعل (شمس)، شخصية نسوية سياسية، تتبنّى موقفاً سياسياً مناوئاً لسياسة حكم المجرة، ومن الثوار المعارضين، وهذا ما تحاول الرواية النسوية تبنيهِ لتصحيح النظرة الى المرأة، والى دورها، عبر مواقفها، وعبر استكناه دورها في التنمية والاصلاح، اما الرسالة الاخرى، فقد تكمن في تحويل مركز الرؤية، و تركيزها في بؤرة سردية اخرى بعيدة عن الجسد، اونتصاراته، او كبواته، فهناك موضوعات تطرأ على المجتمع و الكون، تصلح ان تكون مثيرة أكثر جدلياً، لاجنسياً من هنا تأتي اهمية الدور الذي تمارسه رواية (اعشقني)، من خلال اهمية ما تتبنّاه النسوية، في إعادة وضع جسد المرأة في مكانهِ الطبيعي الفاعل في بنيان المجتمع، وذلك عبر السياقات الروائية السالفة الذكر في (اعشقني)، و من خلال الاكتفاء بذكر صفات لجسد المرأة، لاتكون موضع إثارة، يقول (باسل المهري) واصفاً جسد زوجه: (زوجتي الجميلة الزلقة الملمس والرائحة والطعم و المزاج والاخلاص).
وفي السياق نفسه، وضمن إطار النظرة الدونية لجسد المرأة، فإن الويلات التي جرّها الجسد المضيف/ انثى، على ذات (باسل المهري)/ ذكر، الجبارة القوية، صاحبة الكبرياء- بحسب ما عودته ثقافته الذكورية الرجعية- لم تكتف بأن تُريهِ اوجه المهانةِ وقلة الحيلة، إذ هو حبيس، ذليل داخل هذا الجسد، كما لم تكتف بإرباك خلجاته التي وشت بإحساسهِ بالنقص و اختلاط الامور (تماماً في نفسهِ، فهو لم يعلم إن كان هو هي، أم هي هو، ام كلاهما هما، ام كلاهما ليسا هما)، فهذا الامر الجلل بحاجة ، (الى طول تفكير وتدبر وتنظيم، ليعدَّّ سؤالاً يتقن اللعب على ضميري هو وهي، و يجيد التفريق بينهما، فهو ما عادَ قادراً على ذلك بأي شكل من الاشكال)، بل تعدّت تلك الويلات الى الحد الذي اظهرت تواطؤ معتقداتهِ مع ضعفِ قواه البدنية، لإشهار نقائص جسده الجديد، وليس كماله، بما عززت احساسه بالهوان و الضعة، فأعاب جسد المرأة في ضوء علاقة ندية مع جسد الرجل، إمعاناً في التذكير بالفوارق الجسدية بين الجنسين، يما يخدم نظرته الدونية تجاه المرأة، ورفدها بما يرعى التسلّط وحب التباهي لديهِ، الى درجة التحدث بلسانهما، رغم بداهة الطرح، (اجتاحته رغبة ملعونة في أن يلكم المندوب، ليكسر له اسنانه اللامعة، وفكه المستطيل.... لكنه قدرّ انّ هذا الجسم الصغير، النحيل بهذا المرض الحمل المتكوّر، بخبث مستفزٍ لن يهبه القوة و اللكمة المناسبة، ولاسيما انه سجين في قامة قصيرة لاتبلغ طول قامة المندوب ولا تتسلق في العلياء، كما كان جسده الماضي، الذي كان يبزّ الطول طولاً، والاقوياء شموخاً وامتداداً)، ثم يردف في مكان آخر ليُعبِّر عن ضيقهِ بهذا الجسد الضعيف: (هو متَّسِع لي، ولكني على الرغم من ذلك، أشعر بانه ضيق عليّ حدّ الاختناق، وكثيراً ما يخون حركاتي، فهو اضعف من ذاكرة القدرة عندي، اقصر من جسدي السابق، انحف منه، اضعف منه، لايملك أياً من مرونته، او قوة عضلاتهِ، او حرفية حركاته، ناهيك عن رقة جلدهِ، و تراخي بعض عضلاته)، وهذه الإصابة الماحقة في جسدهِ لم تأتِ له، إلاّ بكل مايؤكد شلَّ قواه و عجزها عن القيام بالمهام والعمليات التي كان يقوم بها في السابق، إذ تخلّى- والقول له: (تماماً بفعل المرض، و التحذيرات الطبية، وجسدي المسروق عن كل رياضاتي الاثيرة وحركاتي ذات العنفوان الذكوري، المدجج بقوة البنية و مراس التدريب العسكري الطويل والمنتظم)، و حين حاول
(باسل المهري) مواجهة ضعفهِ وانهزامه، لم يجد افضل من الانتقام من كل شيء، و من كل بشر يعرفه، او لايعرفه.... بالانتحار، و يحبط لهم كل خططهم، و يهزم للأبد هذه التجرية المؤلمة، المهزلة، ولكن من قال انه يملك الشجاعة العملية الكاملة لينفذ هذا الانتحار؟ إذ أدرك استحالة الانصياع لتلك الفكرة الجريئة و الاقتراح الموغل في الشجاعة، تلك المواجهة التي بينه وبين ذاته، والتي مازالت تنبيء عن نوبات كبريائهِ و ألمهِ و ندمه، إنما افصحت عن خيانة ذاتهِ له، بعد أن تواطأت مع جسده لاستكمال مسلسل الإهانة والشعور بالهزيمة، فقد بدأ يشعر بطعم الهزيمة تدب أوصاله، و برائحة الدمار تملأ عليه المكان، ف(وحده جسدها هو من استطاع أن يهزمني)،... وها هي ذا (قد هزمته، و هزمت كل دولته).
إن طعم الهزيمةِ مرُ، وهو أمر، إن كان الخصم امرأة، بل هو اكثر مرارة لمن اعتادَ طعم النصر الحلو، بعد كل قمع وتسلط يمارسه على من في المجرة، ممن يقِف بوجهه من الثوار سواء أكانوا ذكوراً أم أناثاً، ممانتج عن هذا المرار ردَ فعل اقوى، بأن كرّس حبّه الدفين للتعذيب، في تزاوج تناغمي، انقطع نظيرة في عالم المعقول لاستكناه مشاعر الاضطراب النفسي لديه، إذ تمركزت (السادية)، حب تعذيب الآخر، والماسوشية (المازوخية)، حب تعذيب النفس، المتناقضتان، في ذات (باسل المهري) المهترئة، والمضطربة، لتشي عن اختلال التوازن الفكري والنفسي لديه، فالمعروف والطبيعي لدى تعريف المازوخية العامة، التي تصنّف كإحدى حالات ما يصطح عليه في علم النفس، بالسلوك الهادم للذات، بأنه عادة ما يتلقى الالم من شخص آخر، وهذا الشخص قد يكون انساناً سوياً، يقوم بتعذيب المازوخي او (الماسوشي)، بناء على طلب الاخير، وفي حالات اخرى، يمكن ان يكون الشريك سادياً، اي: انه يعشق توجيه الالم للآخرين، وفي هذه الحالة، فإنّ الممارسة لكليهما وفي عملية واحدة، من قبل طرفين متقابلين، تسمّى (سادوما زوخيم sadomasochism).
ولكن الرواية قد مهدت لذلك اللامعقول، تعذيب جسدها، او كما يُخيل إليه، خَير تمهيد بأن حبكت خيوط الحكاية، وساقت الاحداث الدرامية سوقاً، لتجمع المتناقضات بشكل مبَّرر، ولتظهر مدى الضياع والظلام النفسي، الذي يعيش فيه بطل الرواية، ولتعبِّر عن رغبته الشديدة في استرجاع ذاته الذكورية المستلَبة، في جسد امرأة، و إيهامها بالنصر القريب، ولتركز الرؤية الى حالة اللاوعي، التي انطوى عليه سلوكه، او كلامه من مفارقات، بأن يتوعد جسدها بالعذاب الاليم، وليتخبط في سلسلة من المواقف التي تؤكد انهيار ذاته داخلياً، وخارجياً، وبلوغها مرحلة متقدمة من الانحطاط المرير، و ليشي بما تنز بهِ ذاته الذكورية من ثقافة رجعية قوامها قمع المرأة و اخضاعها، (وحده جسدها هو من استطاع أن يهزمني، ووحده من استطعت أن أذله، بل أن اكرِسّ له كل وقتي وجهدي من أجل أن اهزمه، منذ ايام لم أحممه، رائحة انثوية طاغية تشتمله، منذ ايام وعندي دفق من سائل ابيض لزج يتنزيّ منه، مرافقاً لآلام و تشنجات في البطن والظهر، فأهمله، ولا احدث الاطباء عنه، كي اعذبه بقوة، لم يرَ الشمس منذ ايام، وقليل من الطعام والشراب كان نصيبه، فضعف المراقبة الطبية عليّ، جعلني اتفرّغ تماماً لقهرهِ، و إذلاله و للتجبّر على هزيمته المزعومة أمامي، الشعر الجميل اللزج يعاني من تشابكات مريرة من قلة تمشيطه وتسريحه، والفخذان وجلد ما تحت الثديين يعانيان من تقرحات شديدة و مؤلمة من طول الاحتكال وملوحة التعّرق، وأنا لا ابالي بهِ، على الرغم من ألمهِ الرهيب الذي يضرب في رأسي، و يلكز كل اعصابي دون رحمة، ولكني لن استسلم له، سأعذبه حتى يستسلم لي، وانتصر عليه، فاعرف على مهل جارح، ماهي مظاهر استسلامه، وماهي مطالبي للنصر، ولكني مصمم على موقفي، وهذا قراري المصيري الذي لن اتراجع عنه ابداً)، وتلك المحاكمة اللامنصفة من قبل نصفهِ الشرس، لنصفه الوديع، في مجابهة رجولته الضائعة، لانوثتها الحاضرة، ماهي إلا حلقة من متوالية قمع، يزاولها (باسل المهري) بعد أن ألبست ثقافته الذكورية، جسد إمرأة.
لئن ساقت الرواية العديد من دلائل استعباد الرجل للمرأة، ومظاهر قمعه لها، عبر استحلال جسدها، او تعذيبها- او النظر بدونية اليها، وفقاً لمزاعم ثقافته الذكورية، فإنّ النسوية تستدعيها بأن تحبك الحدث الدرامي، بما لايدع مجالاً للخرق، او انعدام العقلنة في الطرح، فقد عزرت الكاتبة من صيرورة بطل روايتها الى الانهزام داخلياً، بأن اطاحت بهِ من الخارج ايضاً، فقد هيأت له متكأ مكانياً يلوذ بهِ، كلما رام إعادة امجادهِ الضائعة، عن طريق التذكر والاسترجاع، اي : انها شابكت خيوط الماضي المأمول، مع الحاضر الأليم، لتنتَج لنا واقعاً مضطرباً، يشوبه الشعور بالوحدة و الغربة و الانهيار الذاتي، ليتماشي مع شعورهِ الأليم بالانكسار و الاندحار، (أنا الآن جسدها، ولاشيء غير ذلك، ولأنني جسدها، بتُ أتوارى في الظلام، لأمارس عادة التخّيل و الاسترجاع و العودة الى الزمن المسروق، حيث كنت رجلاً حقيقياً، أما الآن فأنا جسدها، و المعذَّب رغم انفها و انفي بمرضها الحمل السخيف)، تعبِّر هذه اللحظة عن إيقاف جبري للزمن، إذ يقف البطل في بَيْنٍ زماني يتجاوز من خلاله كل تفاصيل الذاكرة المشحونة بالصور والعبارات الملخصة لحياتهِ السابقة، و ليختص منها، ما يذكره برجولته التي ضاعت، ليصل الى متخيّل يقدس الماضي، في ضوء مستقبل، يُدرك بانه قد ضاع، ما جعله طعمة للانعزال و الانطواء على ذاته، بحبس جسده داخل اماكن محددة، كما حُبست ذاته، داخل جسد ضعيف صغير، وليقرر مرغماً استبدال فضاءاته البراح، بأماكن محددة قسرياً، في سياق استبدال الادوار و الاماكن مع المرأة، تلك الاماكن و الفضاءات الصغيرة التي عهدت ثقافته الذكورية إلزام المرأة بها، (الاّن بتُ حبيس كل الاشياء.... الان أنا حبيس إجازة إجبارية و طويلة من العمل بسبب ظروفي الطارئة و الاستثنائية، و حبيس لائحة عملاقة من الارشادات الطبية و الادوية، والجلسات العلاجته، والمراجعات الدورية الملِّحة، واسير أحلام موقوفة عن التحقق، و معلّق في رفض زوجتي و ابنائي لي بسحنتي الجديدة، ورفضي لهم، و مخلوع عن الدنيا و الخلق و الآلات أجمعين)، ليبيّن في مكان آخر ذلك الفضاء الاخير الذي قرر ان يكون محبسه، وفق إقامته الجبرية والاضطرارية في المستشفى.
إن الفضاءات المفتوحة التي خوّلته ثقافته الذكورية، ووظيفته الحكومية ان يكون سيّدها، قد هجرته، و هجرها قسراً، فُجعِل حبيس فضاءات صغيرة و معزولة تماماً عن المقربين، ليُفرد مع افكاره المضطربة التي لاتنعمه من الوجود، إلاّ بكل مايبيّن ضيق العيش في عينيهِ رغم وسعها، وهكذا بين هذين المكانين، الحقيقي والنفسي، الماضي و الحاضر، الواسع و الضيق، المرئي والمغيّب، المؤكد والمرتقب... يظهر المخلتف سياقياً و منطقياً، ليصوغ القائم، بلغة تسوق دلائل لفظية، تُظهر حقيقة الجدلية القائمة في نظرة الرجل لماهية المرأة، ذاتاً و موضوعاً، وفي ضيقهٍ بفضاءات المرأة المحدودة، من خلال استبدال الادوار والاماكن اللذين اشرنا إليها آنفاً فلغة البطل السابقة، تضج بمفردات، تشي بضيقهِ النفسي بالواقع، و محدودية المكان المفروضين عليه، رغم تمثلها بالاماكن ذاتها الى تُفرض على المرأة، فرضاً عارضاً او ثابتاً، (حبيس، إجازة، إجبارية، طويلة، ظروف، طارئة، استثنائية، لائحة، إرشادات، الملِّحة، اسير، موقوفة، معلّق، رفض، مخلوع، إقامة، مستشفى، إضطرارية، لفظ...) بما يؤكد اختناقه الروحي بالاماكن والاقدار.
إنّ تعكز (باسل المهري) على بقايا رجولته المستبدة، جعلته يُمنّي نفسه، بعودة الكلي المستلب، ويعلل نفسه بالانتصارات التي سيحققها بعد أن يطردها حتى من جسدها، (سأجري عمليات تجميل، لأحوّل هذا الجسد الانثوي، الى آخر يضج بالرجولة، سأخضع لعملية إزالة لورم الحمل، و ساحلق شعر رأسها من جديد... وفي اللحظة المناسبة سأهجر هذا الجسد، و أرحل الى جسد آخر، و أهبه للخراب والموت، الذي كان قدره، حتى ظهرت في حياته، نعم سأنتصر عليها بها، ساكسرها فيّ.... مهمتي الان هي استرجاع باسل المهري، ولاشيء غيره.. وفي سياق استرجاع ذاته الذكورية المستلبة، يسعى البطل الى معرفة المزيد عن صاحبة الجسد المفروض، وعن هويتها، بكل الطرق المتاحة، فيكتشف (ان افضل طريقة للهروب منها، هو إليها، ولو بعض الزمن، وقررت ان اهادنها حتى استطيع ان اصالحها، ثم افاوضها بدهاء ولؤم، لأخلعها من جسدها في نهاية المطاف، وكي اعرفني عليّ أن اعرفها تماماً)، ويلجأ الى ذلك عبر استغلال كل ماهو متاح من علاقاته الوظيفية السابقة من بقايا حياته الماضية، ليظفر بمعلومات يقترب منها اكثر، فيحصل- والقول له- (على الحزمة الضوئية اخيراً...، هي دربي الاخير المحتمل إليها وإليّ)، و يفتح تلك الحزمة الضوئية، بعد ان يضع فيه الرقم السري، ليقرأ بنفس عميق في الصفحة الاولى على عجالة، لم تكتب فيها، إلاّ فقرة واحدة، تقول: (وحدهم اصحاب القلوب العاشقة من يُدركون حقيقة وجود بُعدٍ خامسٍ ينتظم هذا الكون العملاق....
ان الحب هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا، وحده الحب هو الكفيل بإحياء هذا الموات، و بعث الجمال في هذا الحزاب الالكتروني البشع، وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب، و فلسفة انعتاق لحظة)، بهذا النص تفتح الكاتبة روايتها، وبه تنصِفهُ، لتقسم روايتها ذات (8 فصول) الى قسمين، تقدم فيها، ومن خلالها ثيمة الرواية، فقضت الكاتبة مدار الاربعة فصول الاولى من روايتها تتحدث عن جدلية تمثيل الجسد والذات، ثم تقضي الاربعة فصول الثانية، لتتحدث عن جدلية اخرى، وهي جدلية تمثيل الجسد والحب، و كأنها بذلك تريد أن تخبرنا بأن الحياة قائمة على ثلاث ركائز، وهي: الذات- الجسد- الحب، ولكن الأهم من ذلك كله، علينا أن نعيَ : ايٌّ من هذه الثلاثية يمكن ان يكون المفتاح الذي يقودنا الى البايين الاخرين؟
تنغمس الفصول الباقية من الرواية في إنشائية غالبة، تقل فيها من الاحداث وقد يكون ذلك مقصوداً من الكاتبة في بعض المناحي، لتحقيق الجنسانية الانثوية في الادب، (الجندرة)، في محاولة نسوية لاثبات الذات الانثوية، من مكان آخر ايضاً، تزاحم فيه الرجل، وتحاربه في عقر دارهِ، إذ ان انشغالها بالسرد والوصف لدي تقديم الشخصيات المشاركة على حساب الاشتغال بإنماء تلك الشخصيات و تأصيلها زمكانياً، يبدو متماشياً مع طبيعة المزاعم، التي تحوم حول ذات الكاتب/ الانثى، ورغبتهن الشديدة للخروج من العزلة الادبية، بفتح حوار مع الآخر، في ضوء ماتتيح لهنَّ اللغة من إمكانية تبرز خصوصيتهن، وهي إذ ذاك في رواية (اعشقني)، إنما تلجأ الى صياغة شعرية، تشوبها فنون قولية شتى، تؤكد من خلالها خصوصية الجسد، وخصوصية لغته و إشاراته التي يبعثها في إطار تجسيد العلاقة الحميمة بين الرجل و المرأة، وهذه النقطة تبدو منطقية و مُبررة في هذا الجزء من الرواية، بعدما شغلت نصفها الاول بتقديم الذات، من خلال خصوصية الجسد، لتنتقل في الفصول المتبقية الى اكتشاف الذات من خلال الجسد، وسيكون ذلك عبر قناةٍ تواصليةٍ، اسمتها الكاتبة (البُعد الخامس): (الحب)، فهو وحده من تتغيّر بهِ حقائق الاشياء، وقوانين الطبيعة،... (النص السابق).
تتسلل بنا الرواية الى العلاقة الخفية، التي ربطت صاحبة الجسد (شمس)، بحبيبها (خالد)، الذي يشاركها الخط الدرامي المتبقّى من الرواية، الهَّم والرؤية والمشاعر، لتتوّج تلك المشاعر بتخلُّقِ (ورد) الجنين داخل رحمها، وليكون ثمرة تلاقٍ ممنوع مِن قبل قوانين المجرة، قد غودرَ منذ مئات السنين
(كم كان الناس حمقى و مغفلين بركونهم الى هذه الطريقة السخيفة و المقرفة للمتعة و للتواصل طوال آلاف السنين!) إن لجوء الكاتبة الى طرح مثل تلك الفكرة الغريبة والجريئة في روايتها، وهي فكرة تغيير مسار الخلق والخليقة، والعلاقة المعروفة التي تربط الرجل و المرأة ببعضهما جسدياً، منذ بدء الخلق، قد يبدو نابعاً من رغبتها في نقد مجتمعها، و صيرورته الى الخراب، إذ تبيع الانسانية مقتنيات الروح، لتشتري بدلاً منها خديعة العولمة، والتحضّر المزعوم، وما يجرّانهِ من هلاك و دمارٍ محققينِ، بتحوّل الانسان العصري الى عبد للماديات والتكنولوجيا و مظاهرهما الزائقة، و صيرورته آلة حاسبة، تعد الخطأ والصواب، ضمن منظومة يكتنفها التطّرف، الذي يأتي على تغيير الانسانية و ايدولوجياتها الدارجة، ضمن إطار واقع طبيعي و مقبول بالفطرةِ يضع الخطاب الديني المعتدل معياراً للسلْبِ و الجذب، او الرفض و القبول.
تكتنف الحزمة الضوئية التي حصل عليها (باسل المهري) معلومات عن شمس، في إطار يوميات كتبتها لجنينها، ورسائل حب، كان يبعثها لها (خالد)، ليعبَّر عن حبهِ لها، وليكون رائدها في رحلة طويلة وجديدة، ملؤها الغرابة والتمّرد والمشاعر الجياشة، ليذوق فيها جسداهما طعم لذاتهما، من جديد، بعد ان فارقتهما، منذ مئات السنين، لتصوغ الكاتبة تلك العلاقة الصعبة والغريبة والمنقرضة، باسلوب مقنع ومبرر، فيتواصل المحبان في البدء عبر التدوين، إذ لجآ الى مراسلة بعضهما يومياً، عبر شاشات رقمية الالفية الثالثة اعدت لغرض التواصل، تضبح بمشاعر متبادلة و بتفاصيل مليئة بالذكريات، تميّز الكاتبة فيها ببراعة فائقة، بين لغتيهما، إذ اعطت لكلا الجنسين خصوصيتهما الكتابية من حيث الاسلوب والمفردات والافكار المطروحة، فتدوين شمس قد عبق بجماليات انثوية من تفاصيل الحب الذي تملّكها، فأعطى ثماره عن هذا الجنين المتخلّق في احشائها، بلغة غاية في الحساسية تجاه محبوبها، وتجاه جنينهما، الذي نال نصيباً وافراً من الاهتمام و الخطاب، في إشارة ضمنية الى فطرة المرأة التي جبلها الله على حب الزوج و الابناء و استشعار الدفء العائلي، المتدفق من وجود علاقة سوية تربط جميع الاطراف، (حبيبتي ورد، اليوم فقط عرفت انك اصبحت حقيقة في عالم الوجود، بكيت كثيراً فرحاً بحضورك البهي، فقد جئتِ في زمن الفقد لتقولي انني حقيقة ولست بكذبهَ، وان عشقي لخالد هو البعد الخامس الجبار الذي يمكنه ان يلد المستحيل و يُعيد تشكيل خرائط السعادة و العطاء و التمرّد في هذا الكون... فوحده خالد... الذي يقول إن رحم المرأة هو حقيقة الخلود و الخلق، وان جسدها هو المعبَر المقدس نحو كل الازمان)، أما لغة خالد، فقد غلبت عليه الشاعرية الشفافة التي ترى الاشياء من منظور حسي تجريدي، يشي بعلاقة تلك الجدلية القائمة على التشهي، بين الذكر والانثى، إذ يختتم كل رسالة حب بعبارة (أشتهيكِ)، ولكن الذي يجمع بين اللغتين المميزتين لبعضهما، نبرة الرفض والتمرد للواقع المادي، الذي اثلج المشاعر، وساقها الى العدم والعبثية، في ظل زمن التكنولوجيا والعولمة الخادعة، قد تكون في محاولة من الكاتبة لاستكناه وجدان الانسان المعاصر وذاته المشتتةِ، التي تسعى- عبثا- الى التوفيق بين قيم الحاضر وبين قيم الانسانية التي يعتريها الايمان والمشاعر الصادقة، يقول خالد في احدى تلك الرسائل: (هل تعلمين لماذا اكرر كلمة احبك ألف مرة، لانها تختزل الانسانية كلها في ممارسة الحب و الجنس،... احبك واحب ان اقبلك قبلة بشفاهي واصابعي و جسدي و أن ارسم في كل حيّز من جسدك صمتاً مقدساً، يُغري العالم بأن ينتفض ضد تأريخ العالمين: القديم و الحديث اشتهيك، خالد)، ويقول في رسالة اخرى، ليلخص فيها معنى الحب لديه: (سأبحث في كل الاساطير حتى أجد المعنى الذي يحمله هذا الحب الذي تحوّل الى قنطرة تصل بين القلب و الروح و الجسد)، اي بين الحب والذات والجسد- وكما بيّنا سابقاً.
إن لجوء (باسل المهري) الى قراءة مذكرات (شمس)، في رحلة التعرف إليها، قد أوقعته في مطب وجداني، لم يكن متوقعاً له، فقد ضربت تلك التجربة مراكز التفكير لديه، وقلبت كل قراراته و توعداته بالانتقام منها، ومن جسدها، الى مشاعر ضدية لم تكن بحسبان أحد، (كم كنتُ صغيراً في تلك اللحظات! ولصاً ايضاً! يؤنِّب نفسه بصوت مرتفع... وانت ايها الجنين... لابد انك محظوظ لانك تملك أماً بهذا الجمال وكل هذا الحب... انت تحبها بكل تأكيد، ومن له ان يملك ان لايحبها؟ أليست سيدة المحبة؟ لابد من انني محظوظ لأحظى بجسد سكنته روحها الطاهرة)، ويسترسل في الحديث ضمن السياق نفسه، ليصل الى اقصى درجات التشتت والحيرة، بين ذاته وذات (شمس)، ليدرك حينها بأنه قد هزم تماماً، في محراب مشاعرها الجياشة التي افاضت بها على (خالد) و الجنين، ليلجأ الى ماجعلته ثقافته الذكورية حكراً على المرأة، و دليلاً على ضعفها وقلة حيلتها، بأن بكى و انتحب، (ينقر الجنين جدار بطنه بحركة نابضة... يُدرك ان جنينه الصغير يتعاطف مع مشاعره الجيّاشة في هذه الليلة الماطرة الباردة، يمسد عليه من جديد، و يغتنم فرصة صفاء نفسه ليبكي وينتحب)، فهاهي لحظة المكاشفة قد حانت، ولحظة الاعتراف بوجود الآخر أو شكت أن تكون قريبة.
يبدو من سياق القص الذي تبنته الرواية، بأن كل تحضير و استعداد لهذه المشاعر الغرامية، التي بدأت تلف علاقة باسل المهري بشمس، على مستوى رعالٍ من التنظيم والتدبير، فقد أعادت الرواية إلى أذهاننا، التقنية والاسلوب ذاتيهما، اللذين اعتمدتهما (شهرزاد) لغواية (شهريار) في استدراجه والتمكن منه، وهذا مانجده واضحاً يتمثل في اليوميات التي كتبتها (شمس) لجنينها، لرواية كيفية نشوء الحب بينها و بين أبيه، وما تضمنتها من مشاعر جيّاشة لهما، وما ضمّنتها من قصص قصيرة، تحمل في طياتها معانٍ كبيرة عن الحياة والحب، أسمتها (حكاية النوم) وقد أُستخدِمت في الحقيقة وسيلة للفوز بقلب (البطل) وقلب المعادلة رأساً على عقب، بأن غلّبت الهامش على المركز تقول احدى تلك الحكايات، تعبيراً عن أهمية الحب والسلام والمشاعر الصادقة: (كانت الارض في بداية التأريخ والخلق جميلة، ببحار زرقاء هادئة، واشجار خضراء باسقة، وسماء عليلة، وحيوانات مسالمة، لكن البشر افسدوا كل شيء ، بشرورهم و حروبهم و تطاحنهم، الدماء الحمراء اغرقت كل الأماكن، و افسدت كل الالوان... حتى كانت قبلة عاشق وعاشقة... التي انقذت البشرية من الهلاك).
ما تحاول ان تقدمه الرواية تباعاً، هو انغماس البطل في مشاعر فياضة، جرفته بعيداً عن مخططاته و عن كبريائهِ الذكوري، الذي مافتيء يؤزه أزاً للفظ هذا الجسد الانثوي فهاهي الاقدار