الرباط - وكالات
صدر كتاب جديد للدكتور محمد المصباحي «جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة» (عن منتدى المعارض، بيروت) يتضمن خمسة أقسام بفصول متعددة وتتناول «من الشخصانية الواقعية الى الشخصانية الاسلامية». وناصيف نصار جدلية العقل والمدينة» و»محمد عبد الجابري، من أجل عصر تدوين عربي حديث»، و»عبد الله العروي، من التاريخانية الى ما بعد التاريخانية» و»هوامش عن الفلسفة العربية المعاصرة». اخترنا هنا مقدمة الكتاب لأهميتها، واختزالها جوهر الكتابة الفكرية، الفلسفية المطروحة». لكل واحد من المفكرين الستة، موضوع هذا الكتاب (محمد عزيز الحبابي، عبدالله العروي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، حسين مروة وناصيف نصار)، إشكاليته الفكرية الخاصة المستقلة عن إشكالية الآخر، بأسئلتها ومفاهيمها وحلولها ورهاناتها. غير أنهم يشتركون على الأقل في الدعوة الى أمرين أساسيين هما: العقل والتاريخ. جميعهم يحملون همّ زرع العقلانية والتاريخانية في تفكير الأمة لإعادة تربيتها وإعادة قراءة تاريخها وتراثها كي تصبح قادرة على التعاطي مع الحداثة من موقع الاعتزاز بالذات، والإقدام على الفعل التاريخي الخلاق. لم يشاؤوا أن يحبسوا إشكالياتهم ضمن حيّز دلالي أو تأويلي فحسب، بل راموا أيضاً فتحها على آفاق التغيير. ذلك أن إعادة النظر في دلالات العقل والتاريخ لا تكفي لتشييد «عصر أنوار عربي جديد»، بل لا بد من تأويلهما تأويلاً حديثاً قادراً على تعبئة الجمهور للقيام بالتغيير المنشود الذي يحقق الاستقلال التاريخي. كانوا جميعاً يفكرون وعيونهم على النهضة، بحثاً عن أسباب فشلها المبكر، وتنقيباً عن طرق بعثها من جديد على شكل «نهضة عربية ثانية»، أو «عصر تدوين جديد»، فكان العقل مفتاحاً أولياً لمراودة حلمهم. أولاً: العقلانية حصل بين هؤلاء الفلاسفة العرب نوع من الإجماع الضمني على وجوب إعادة النظر في العقل بآلياته وتجلياته المختلفة، خصوصاً العقل التراثي، إيماناً منهم بأنه المسؤول عن التأخر التاريخي الذي تعانيه الأمة. ولم تكن الغاية من مشاريعهم لتحديث العقل منهجياً وايبيستيمولوجياً غاية تقنية هي إصلاح العقل باعتباره آلة للوصول إلى الحق، بل كانت غاية استراتيجية هي إصلاح الذات، وعياً منهم بأن العقل يشكل قوام الذات العربية الإسلامية، إن لم يكن هو تلك الذات بعينها. ولذلك لم تكن الغاية من تحريره من عوائقه المنهجية والابيستمولوجية وتخليصه من إكراهاته الأيديولوجية والثقافية، أن يستعيد حريته في التفكير والعمل والإبداع خارجاً عن كل وصاية مذهبية أو ثقافية فحسب، بل أيضاً لأجل كتابة تاريخ جديد بالمعنى القوي للكلمة. فهذا التوجه النضالي لمشاريعهم الفكرية (إصلاح الذات وتغيير الوجود التاريخي) قد أضفى عليها طابعاً تنويرياً، سواء كان التنوير بمعناه الفكري أو السياسي. ولم تكن مهمة تحديث العقل سهلة، لأن الأمر لم يكن يقف عند حد ضرورة نقد عقل واحد هو «العقل التراثي» المتهم بالوقوف وراء أعراض التراخي العلمي والتقاعس التاريخي واللامبالاة الثقافية التي يعانيها العالم العربي، بل تعداه الى واجب انتقاد عقلين آخرين يعتبران من حيث المبدأ قدوة للعقل العربي الحديث، هما «العقل الحداثي» و»العقل ما بعد الحداثي». هكذا سيكون من الضروري، اضافة الى ضرورة تحرير «العقل التراثي» من اللاعقلاينة واللاتاريخية، بإثبات تهافت بنياته وأنظمته المنتهية صلاحيتها، وتكسير «الطوق الوثوقي المضروب حوله»، أن يقوم العقل العربي الحديث بتحرير «العقل الحداثي» من تمركزه العقلي واستعلائه العرقي وانحرافاته المعرفية والسياسية والثقافية، وتحرير «العقل ما بعد التنويري» من المأزق العدمي الذي تورط فيه والذي آل به الى شطحات تنوّه بموت الانسان والعقل وما يتصل بهما من قيم حداثية. ولا شك أن المنتظر من هذا النقد متعدد الأهداف أن يخلّص العقل من ادعاءاته في الوحدة وبالثبات والتعالي، وتحويله الى عقل متعدد تاريخي متحول ومنفتح على الخيال والعاطفة وعلى العقول الدينية. ومن الطبيعي أن تتمخض عن هذا النقد المتعدد ارادة اعادة بناء العقل. وبالفعل، نجد أن معظم المفكرين المعنيين (ما خلا العروي)، تبنى عقلانية مركبة تجمع في آن واحد بين تنوير «العقل العربي الاسلامي»، وتنوير «العقل الحداثي»، وكياسة «العقل ما بعد الحداثي». واضح، إذاً، أن إعادة بناء العقل العربي الاسلامي لا يمكن أن تتم بعيون باردة أو بقلوب محايدة، وإنما بضمير حي وعقل ملتزم بتغيير التاريخ من تاريخ منفعل الى تاريخ فعّال، وتحويل التراث من مناهض للحداثة الى محتضن لها. وقد جرى التفكير في حل التقابل بين التاريخين المنفعل والفعال عبر سبيلين مشهورين: سبيل القطيعة مع العقل التراثي أملاً في الانخراط مباشرة في تحديات العقل الحداثي الكوني (التقابل الضدي، العروي)، وسبيل ترميم ما تبقى من مظاهر التنوير في العقل التراثي لتأهيله للانفتاح بثقة واعتزاز على العقل الحداثي ضماناً للاستقلال التاريخي للذات (التقابل الاضافي، الجابري، أركون، نصار...). نعم، يصدر هذان الموقفان عن رؤيتين متقابلتين، إحداهما، تلتزم العقلانية الكونية وثانيتهما، تنحاز الى عقلانية محلية مطعمة بالعقلانية الكونية، إلا أنهما معاً يؤمنان عقلاً واحداً هو عقل التنوير، ما يدل على أن بينهما علاقة اضافية لا ضدية. ولعل جاذبية «عقل التنوير» آتية من كون فعله هو من القوة والتأثير الى درجة يكاد معها أن يكون فعلاً أنطولوجياً قادراً على احلال وجود مكان وجود آخر، واستبدال خلق بخلق جديد مؤمن بنفسه وبحريته وحقوقه الفكرية والعقدية والعملية. بهذه الجهة يصبح التنوير مكيالاً أعلى يقاس به مدى قدرة الثقافات التقليدية على الانخراط في مسيرة الحداثة والتقدم، التي هي مسيرة الكرامة والابداع. لكن معركة جعل «العقل التنويري» مقوّماً ذاتياً، وليس مجرد عرض عابر للعقل العربي الاسلامي، ليست بالأمر الهيّن أمام تفشي جنون العداء له ولمشتقاته من حرية وإنسية وديمقراطية وتسامح وعلمانية. وعلينا أن نعترف ان هذا الوباء الفكري المعادي لقيام «عصر أنوار عربي جديد» لم يكن نتيجة غارات النقد العدمي المتواصلة من قبل العقل الأصولي على العقل التنويري بحسب، ولكن أيضاً ثمرة حملات النقد التفكيكي المتتالية التي قامت بها كثير من التيارات الأيديولوجية والفكرية والايبيستيمولوجية والفلسفية الحداثية، الى حد أنها نجحت في تشويه سمعته بغير حق. وكانت نتيجة هذا التكالب المجحف على العقل أن جرى تحويل ارادة التنوير الواعية للعبور من الماضي الى المستقبل، الى رغبة لا شعورية مريضة للعبور المضاد من الحاضر الى الماضي، بما يحمله هذا العبور من نشر كل مثالب «اللاعقلانية» التي تخدر الانسان العربي وتزج به في غيبوبة سياسية ومعرفية وعقدية تجعله سعيداً بخروجه من الحضارة ومنتشياً بطرده من التاريخ. ومع ذلك لا ينبغي أن يستدرجنا سعار معاداة العقل الى مواجهته بجنون «عقلاني» عاتٍ مضاد لكل صور اللاعقلانية، إذ ليست كل «لاعقلانية» شريرة بطبيعتها، وإنما فقط تلك التي تُصادر الحق البشري في الحياة والتفكير والسلوك الحر. أما عندما تكون بعض اللاعقلانيات قادرة على فتح آفاق جديدة للخروج من مآزق الحضارة الحديثة، وعلى انتاج أعمال فنية وأدبية وصوفية رائعة يمتزج فيها الجود بالوجود في كثير من الغبطة والحبور، فلا يسعنا الا الترحيب بها. إن العقلانية المنفتحة ستنتصر لا محالة في نهاية الأمر، لأن العقل كالوجود، هو واقع لا يرتفع، حتى لو تكالب عليه ذوو الغرائز الشريرة، أو بدت منه أو عنه أو به مساوئ مؤذية. سيبقى العقل أكثر الأدوات المعرفية والعملية نفعاً للانسان وجلباً لسعادته، ولا سيما ان تلك المساوئ لا تصدر عنه بالذات، وإنما بالعرض. إذاً، لا بدل لنا من العقل الأصيل القادر على التجاوز والابداع والتغيير، والماهر في تدبير الأزمات وحل الصراعات بالحوار والاعتراف بالآخر. كل هذا يؤهله لأن يكون في الوقت نفسه محك الاستقلال الذاتي للانسان ازاء كل سلطة خارجية أو متعالية، وضامن الحق والحقيقة بحكم موضوعيته واستقلاله ونزاهته وحياده ازاء العقائد والولاءات المذهبية. وهو الى ذلك، لا يتوقف عن تجديد نفسه، وتجاوز تصوراته، لما يتحلى به من وعي بحدوده ونهائيته ونسبيته، وما يملكه من قدرة على النقد والنقد الذاتي. ولم يكن ذلك ممكناً لولا تحالفه مع الحرية التي توجد وراء أصالته وقدرته على خلق المعرفة وتجديد القيم الأخلاقية والجمالية، وحنكته في حكم المدينة وصناعة التاريخ. ثانياً: التاريخانية اكتشاف التاريخ، باعتباره محرك الوجود البشري، هو الركن الثاني، من التفكير المشترك بين المفكرين العرب الذين نحن بصددهم؛ فبث «الحس التاريخاني» ونشر «التفكير العقلاني» تقاسما على السواء رسالتهم الفكرية، ما دام كل واحد منهما يوجد في قلب الآخر ويؤدي اليه. صحيح، أننا لا ننكر أن البيئة الفكرية التي نشأت فيها التاريخانية لم تكن ودية تجاه التنوير، ومع ذلك فقد أبى هؤلاء المفكرون إلا أن يوظفوا التاريخانية في مهمة مناصرة العقلانية، فكان ايمانهم ان العقل وراء كل شيء في المعرفة والوجود، يضاهي اعتقادهم بأن التاريخ وراء كل شيء في النفوس والمجتمعات. وبحكم استقلال اشكاليات المفكرين الستة، كان من الطبيعي ان تتباين اسماء تاريخياتهم، حيث يمكن ان نتكلم عن تاريخانية ايديولوجية (الجابري)، تاريخانية ايبيستيمولوجية (اركون)، تاريخانية فلسفية (العروي)، تاريخانية جدية (مروة)، تاريخانية انطولوجية (الحبابي)، وتاريخانية سياسية (نصار). بيد ان هذا التباين في الاسماء لم يمنعهم من ان يشتركوا في اعتبار التاريخانية «مقياس المعاصرة»، اولاً، لان حداثة الافكار والتصورات والنظريات والعقائد والسلوكيات والتواريخ، تقاس بمقدار ما يبث فيها من تاريخية (العروي)، وثانيا، لكون التاريخانية جاهزة دائما لتقديم بديل تاريخي قادر على اخراج العرب والمسلمين من مأزقهم الحضاري الذي يتخبطون فيه منذ زمن طويل. وهنا نجد انفسنا وجهاً لوجه امام دور تاريخي خلاق: فمن جهة تم تقديم العقل باعتباره فاعلاً لحداثة التاريخ بما يحمله من طاقة نقدية وابداعية وتغييرية، وقدرة على ازالة العوائق التي تحول دون ابداع افق حضاري جديد، وفي الجهة المقابلة جرى تقديم الوعي التاريخي، سواء اخذناه بمعناه المنهجي (التاريخية) او بمعناه الفلسفي (التاريخانية او النزعة التاريخية)، على انه هو الذي قام بمبادرة تحديث العقل، لا عن طريق التفكيك الدلالي لمبادئه ومفاهيمه وتصوراته ومعارفه، وانما عن طريق ضخ عنصر الزمن فيه ليصبح عقلاً متعدداً ومتطوراً ونسبياً وواقعياً، وتحريره من احماله الثقافية واثقاله الميثولوجية وانصابه المقدسة، كي ما يغدو خفيفاً قادراً على انتاج مناهج ومعارف وتقنيات جديدة. هكذا يتضافر العقل والتاريخ معا لانتشال الانسان العربي من سباته واستغراقه في مطلقاته، لكن بجهتين مختلفتين، احداهما، تزيح المطلقات بعادة النظر فيها منهجياً ومعرفياً، والاخرى، تزيحها بربطها بالزمن الذي يضفي عليها النسبية. وفي الحقيقة نحن امام تاريخانيتين متقابلتين: تاريخانية العقل وتاريخانية التاريخ. اولاهما، تقوم بادراج التراث في بيئته الفكرية والتاريخية كي لا يستعيد معناه عن طريق النقد الدلالي، والثانية، تقوم بنزع التراث نفسه من سياقه الاصلي وزرعه في الحاضر ليغدو كجزء منه ويسهم في تغييره بعد تأويله. الا ان التاريخانيتين تلتقيان معاً في مهمة تحرير التراث وتحريرنا من استلابه للتفرغ بثقة في بناء الحاضر بعد ان نكون قد استوعبنا الماضي عن طريق الحاضر. وفي مقابل الفكر اللاتاريخي، الذي لا يمكن ان يؤدي الا الى التبعية، جراء عجزه عن ادراك الواقع كما هو، وتخبطه واستغراقه في تقابلات عقيمة كالتقابل بين الاصالة والاتباع، بين الحكمة والشريعة، بين الحداثة والتراث، بين العرفان والبرهان، يقوم الفكر التاريخاني بدور حاسم في تحقيق الاستقلال التاريخي عن التراث والحداثة معاًُ. ذلك ان عملية ادراج العقل العربي الاسلامي التراثي (بمسمياته وعلومه المختلفة)، والعقل الغربي الحداثي (بصيغة الحداثية وما بعد الحداثية) في مجراهما التاريخي، من شأنه ان يعرفنا الى حيثيات نشأتهما ومكامن قوتهما وضعفهما، وينبهنا الى حدودهما ونسبيتهما ونقاط تقابلهما والتقائهما، ما يحثنا على تجاوزهما معاً. وقد تستطيع التاريخانية ان تحدث انقلاباًُ جذرياً في تفسير اصل الحداثة، وعندئذ تؤدي دوراً جوهرياً في استعادة الثقة في الذات، ففي مقابل التأويل المغرض، الذي طالما ردده الفكر الغربي على مسامعنا، ان الحداثة بطبيعتها غربية لانها ترجع صافية الى الاصلين اليوناني والروماني، تقلب التاريخانية هذه الرؤية رأساً على عقب بربط الحداثة بأصل شرقي متعدد التأثيرات، فالشرق هو «الذي اخصب الحضارة اليونانية بادخال «القلق» في ذاتها وفكرها باختراعه الحرف والعدد من جهة، وفصل انسانها عن الكوسموس باكتشافه الوحدة الالهية المتعالية (الحدث الابراهيمي)، مبعداً اياه عن الوثنية التعددية من جهة ثانية. والاسلام، الوريث الشرعي للحدث الابراهيمي والفلسفة الهلنستية، أي للتوحيد المتعالي وللعقلانية المرنة المنفتحة على الآخر، هو الذي اخصب الحداثة الغربية ببذور الانسية والحرية والعقلانية التي يحملها في اعماقه. بهذا النحو تسمح لنا التاريخانية بالتضافر مع العقلانية، بنسج علاقة جدلية متناسبة مع التراث، تجمع بين الاتصال والانفصال، فنصير اكثر اتصالاً به وقرباً منه ووفاء له كلما انفصلنا عنه وتحررنا منه واختلفنا معه. ما يعني ان التشبع بملكة الحداثة لا يشترط بالضرورة التخلي عن ملكة التاريخ (التراث)، والانفتاح على التنوير الكوني لا يلغي اهمية التنوير التراثي (المحلي). لكن لا ينبغي ان تعني هذه الجدلية ابداً ان الحداثة هي بعث للتراث واحياء للتاريخ، وانما تعني خلق افق تاريخي جديد طافح بالمخاطرات والتحديات. هذه عينة من القضايا المتشابكة التي سيتم تداولها في هذا الكتاب فحسب، من خلال متون ستة من كبار مفكري العرب المعاصرين.