الرباط - المغرب اليوم
الرواية مزيج من الخيال و الواقع و المعرفة. و هي تجسد شهادة معاشة لولادة حارة تحت سمائها اجتمع زمان و مكان و أناس.من بوتقة الهامش تم نشوؤها، قبل اندماجها بمدينة تطوان المركز، و رتقها بها تحت ضغط الوجود بالقوة،والوجود بالفعل الذي نحته شباب \" الثلة\" كما سماهم الكاتب صاحب الرواية الأديب محمد أنقار.من رماد القهر و التهميش قاموا كالعنقاء ، تعلموا الحلم ، و اعتنقوه، فكان منهم الفتى الرياضي الوسيم \" المديني\" الذي سوف يهاجر ليدرس بالكلية الحربية و يحقق حلمه في أن يكون ضابطا في الجيش ، وهو كما جاء وصفه في الرواية:\" أما المديني فقد عد في الباريو كله نموذجا للفتى الرياضي الكامل،وجه بشوش، وأطراف متناسقة في رجولة فتية، وشعر شديد السواد لكنه منساب\"2 . و منهم \" نور الدين الكبير\" الشاب الأوفر حظا كونه وافدا على الحارة من المدينة المركز: و تقدم الرواية نبذة عن تاريخ أسرته:\" والد نور الدين ليس من أصل أندلسي، بل من قرية بني يدر، ومع ذلك نشأ و ترعرع في حومة البلد حتى عد تطوانيا حقيقيا..........لكن نكبة توزيع الارث اثر وفاة الوالد جعلته يبتعد عن الوكر الأصيل\"3 ،و لعل كلمة أصيل هنا تفيد تضادا لحارة \" باريو مالقا\" المصطنعة. لتكون هذه ثاني شخصية ، بعد \" المديني\"، تنفلت من أتون الهامش، حيث توجه بدوره لدراسة البيطرة بايعاز من عائلته الموسرة. ثم هناك \" سلام\" الفتى العصامي الوديع، المشحون بالمعاناة ألوانا،الذي أخذ قراره منذ يوم التسجيل الأولي بالمدرسة كما تنبئنا الرواية : \"و في رمشة عين قارن سلام أناقة الريشة و هي بين أنامل السكرتير الرقيقة و القلم القصبي حينما يغمسه صبي الكتاب في محبرة الصمغ فتتلطخ أصابعه، حتى اذا ما أنهى الصبي عملية الكتابة في اللوح المصلصل، بادر الى ادخال رأس القلم في فمه و سف ما علق به من صمغ....................كما عاين سلام الأنامل النظيفة تمسك خشبة النشاف الوردي نصف الدائرية و تضغطها فوق الحروف المكتوبة في السجل، كأن السكرتير يعطيها بذلك صفة القرار الذي لا رجعة فيه.............و منذ تلك اللحظة الفاصلة أحس سلام كأنه يقطع صلته الى الأبد بدنياه القديمة..دنيا الانطلاق و التسكع، ليدفع قسرا الى عالم جديد، تمثله كونا من المفاجآت التي لا تنقطع\" 4 فهو شخصية تشي سماتها بولادة أديب ، لن تنقصه \" بلاغة\"، يلمح لنا بذلك الراوي ساردا :\" ..و أجهش الفتيان و هما يمعنان في الانكار.ثم تمكن سلام من الكلام.قال للضابط بصوت مقطوع: \" جئت في الصباح لكي ألتحق بالثانوية و ها هو الدليل\" و مد سلام يده بدفتر البلاغة الأخضر فحار الضابط هنيهة بين أن يتصفحه أو يمعن في التهديد\"5. أما باقي شباب الثلة ، فالبرغم من الأمية، والوقوف عند السنوات الاولى من الثانوي، فقد حنكتهم تجربة العيش في الحارة بكل متناقضاتها البشرية و المدينية \" فالشريف هرب ـ بمعنى هاجر الى اسبانياـ، و الصوردي نضج وعيه الاجتماعي قبل الأوان، وواظب على عمله بهمة....\"6 . و ما بين الأحلام و الواقع، كان المكان و الناس ، يواجهون مصيرا موحدا ، وسط هامش اغتصبه الاستعمار الاسباني ، على هامش اغتصابه الكبير لشمال المغرب ككل.فعرفت فضاءاته وقائع و أحداثا، حملتها لنا الرواية في ثلاثمائة و سبعين صفحة. الهامـش و المكــــــــان الرواية ومضة أشرقت لها رؤيا أديب متأن الخطو يجوب أمكنة الحارة. يرصد الأحداث. يصيخ السمع لخفقان أفئدة الشباب، ودردشة نسوة البراريك القصديرية، و ثرثرة الشيوح أمام أبواب دكاكين الحارة، أو على كراسي مقهى \" الرطيرو\" الشعبي البسيط، متأبطا أدواته التعبيرية ذات المنهج الواقعي. الحارة المتحولة عن أرض بكر، انوجدت بقوة اصرار الاستعمار الاسباني أن يجد مكانا على هامش مدينة تطاون يسع المهمشين من فقراء مهاجري البوادي المحيطة بالمدينة ، و ضحايا \" عام الجوع\" الذي ضرب منطقة الريف من المغرب، بالاضاقة الى المهاجرين الاسبان الفقراء النازحين أغلبيتهم من مدينة مالقا الاسبانية الموجودة جنوب اسبانيا. و لعل تسمية الحارة باسم \" باريو مالقا\" ، تمت نسبة لأولئك المهاجرين الاسبان.و قد قام المستعمر بتجميع فقراء ذلك الشتات بأرض كل من مريبطو ومصطفى، الواقعتين بالضاحية الغربية لمدينة تطوان. تفسر لنا الرواية تلك العملية ،عبر أهم شخصية متعلمة، ووطنية مستنيرة بالحارة ، الفقيه الصنهاجي: \" لم ترض سلطات الحماية أن يظل شارع\" سانشي\" العصري مشوها، اذ به تفتخر و تبرر أعمالها الحضارية، لقد رفضت براريك \" سوق برة\" المقامة للمغاربة و من الغجر و ضعفاء الاسبان في وسط المدينة الجديدة، كما رفضت اقامة براريك اضافية هناك، اثر عام الجوع. حتى الصحافة المحلية نفسها كتبت منددة، و النتيجة نقل الجميع الى أرض \" مصطفى\" باعتباره حلا مؤقتا، لكن السلطات الحامية تناست الدراويش في براريكهم. و مع مرور السنين غدا المؤقت دائما. ذلك شأن الاستعمار باستمرار.\"7 استهل الكاتب الرواية بمشهد اختطاف طفل حي الكنيسة ،ـ وهو جزء من حارة \" باريو مالقا \" ـ من قبل الفتوة بهدف الاغتصاب ، و أنهاها بملمح كتاب البلاغة يحمله \" سلام\" أحد أبطال الرواية الرئيسيين، وهو ملمح يحمل في طياته احتمالية كون شخصية \"سلام\" المحتمي بكتاب البلاغة، هي شخصية الشاهد الحي الذي لن يصمت، كما صمت الجميع عند اغتصاب الأرض البكر، و تحويلها الى هامش يقصى اليه الفقراء و المهمشين الذين تلفظهم المدينة، كما جاء في ذكر شخصية \" السعدية\": \" تذكر طامو أن السعدية تنحدر من أسرة تطوانية..............ثم اضطرتها مواقف الضيق الى الانحدار الى حارة مالقة للبحث عن ملاذ خوفا من التشرد في الشوارع\"8 يقول هوسرل : \" انه فعل التفكير الذي يطفو، ويسيل في تيار الوعي و تدفقه\"9.هكذا وضعني الأسلوب المحايد للسرد داخل الرواية ، في مصب \" فينومينولوجيا\" تستحوذ على مجرى استقرائي للرواية. الأفكار المتغلغلة بين ثنيات الحكي، تنضح بحدس الكاتب المشحون بالامكانات الجوهرية لظاهرة \" الهامش\". حضورها يستديم في التدفق عبر مراحل الحكي. الى أن يتبلور وهو يأخذ دور المركز بفضائه و شخوصه و تاريخه. حيث يمكن أن نرصد ظاهرة \" الهامش\" ، في الرواية كمعطى يمثل شكلين لأنماط الهامش ، هما : الأرض و الناس. الأرض كمكان/ضاحية المدينة المركز تطوان. و الناس منقسمون الى فئتين: مهاجرو بادية شمال المغرب، بكل حمولتهم البدوية، و فئة المستوطنين الاسبان الفقراء ، أصحاب التميز الحضاري ، و الامتياز السياسي :\" خفض الاسكافي صوت لندن ، وتابع الغرز و الرتق ... ثم قال في شيء من الحسرة :\" حلمت دوما بأن يكون دكاني في موضع كشك \" مونطصي\"، هناك مكاني المناسب، بيد أن الحلم لم يتحقق للأسف الشديد الكشك موقع يتيح رواج أية بضاعة.لكن الأسبقية للاسبان في الفوز بالمواقع المناسبة\"10 . لكن اضطراب أحوال الهامش يجليه الكاتب من خلال حكايا شباب \"الثلة\" و أهاليهم.أما ميلاد المكان كحارة فيورده الكاتب على لسان شخصية الفقيه الصنهاجي ، الرجل الوطني المثقف ، الذي يهابه الصغار و يحترمه الكبار، ، و التي أعطاها الكاتب سياقا وظيفيا، يحيل على وجه آخرللواقع الاجتماعي الهامشي للحارة. يقول الفقيه الصنهاجي :\" و في بداية الخمسينات ازدهرت الحارة، ورأى فيها الاسبان جنة العاصمة تطوان، وشرفة تطل على الغوطة، وفضاء مفتوحا للشمس و الريح، فضاء مشبعا بالسمات المتوسطية. بل رأوا كذلك أن لا شيء ينقصها مقارنة بالاشياء التي تفخر بها العاصمة تطوان، التي تعتبر بمنزلة الأم بالنسبة للباريو، ففي الحارة مدارس، و مسارح مدرسية، و متاجر، و مقاه و أسواق، وناد للتزحلق و الملاكمة، و صيدلية و مطبعة \" كريماديس\"، و مستوصفان، و سينما و مخابز عصرية.......بل توجد كنيسة واسعة حملت اسم القديس \" سان أنطونيو\"، و ها هي الحارة تعرف الآن بين الناس باسم الباريو و اسم سيدي طلحة معا ، و بذلك تجاور التاريخان العتيق و الحديث\"11 ، صورة تعكس جزءا من الحقيقة و ليست الحقيقة كلها. فسياق الشهادة مسودة مقالة حملها الفقيه الصنهاجي داخل حقيبته الى احدى مقاهي مدينة تطوان المركز ليعرضها على وجهاء و مثقفي المدينة، من رواد المقهي ، بهدف رد الاعتبار للحارة ، بصفته أحد أبنائها المحسوب عليها اجتماعيا، ووظيفيا كونه يدرس بالمدرسة المغربية الوحيدة بالحارة، خصوصا أن ناس البلد، ـ و هذه تسمية كانت تطلق على سكان المدينة المركز و غالبيتهم من الأندلسيين المهاجرين ـ، كانوا يعتبرون حارة \"باريو مالقا \"حيا هامشيا بكل المقاييس،و أن سكانه من مهاجري البادية بعيدين عن التمدن و اساليب العيش الحضرية. و الحقيقة التي داراها الفقيه الصنهاجي وراء مقالته أن تلك المرافق ، ، وانما هي أعدت للرعايا الاسبان المتمدنين. فباستثناء السينما التي استهوت شباب الحارة، و دورها التنويري في حياتهم.لا شيء من تلك الواجهة الحضارية أفاد مهاجري الريف،و معطوبي الحرب الأهلية الاسبانية و أهلهم. يروي الكاتب عن وضعية الحارة ساردا:\" اشتدت الحركة في الحارة بالتدريج. خادمة تخرج من تلك البراكة، بوجه لا مبال، و صبي يتأبط محفظته يصعد من جامع مزواق، يحلم بفطور شهي. و عامل غادر دويرته بعد غبش الفجر ، وهو يتساءل في أعماقه ان كان هذه اليوم سيكون أفضل من الأمس.\"12 المكان في رواية \" باريو مالقا\"، فضاء يمثل الذات و القضية. حيث تنحصر الحارة في الضاحية الغربية لمدينة تطوان، أي في منطقة توجد على هامش المدينة المركز. و الزمن بثقل همومه، ألقى بظلاله السوداء على المكان، فتحول الى حيز جرده الاستعمار من تاريخه الروحي و الوجداني، و نأى به عن جذوره.يقول عبد الله الاسكافي: \"كم كانت الحارة مفعمة بالبركة العطرة، قبل ان تزكمها روائح الفتوة، و يخنقها بطشهم\"13 ، و \" الفتوة \" في هذا السياق ، ملمح قوي، يؤكد المعنى الذي يوحي به مقطع اغتصاب طفل الكنيسة من قبل أفراد الفتوة \" جلول و بو حاجة و قويدر المسعور\" و ما أرى في تسمية \" بو حاجة \" الا اشارة الى لقب \" بو رقعة \" الذي كان يطلقه أهل الشمال على الاستعمار الاسباني.و الكاتب عندما ألصق فعل الاغتصاب للفتوة ، دعم بذلك مفهوم اغتصاب الاستعمار الاسباني حق تعايش أهل تطاون داخل فضاء موحد، ذلك هو فضاء المدينة المركز. يوثق الكاتب للمكان على لسان الفقيه الصنهاجي :\" تملك جانبا من هذه الأراضي الفسيحة الوجيه الحاج محمد مصطفى.........في البداية كانت للجد قطعة أرضية وحيدة تحادي ضريح سيدي طلحة الدريج. كان محبا لرجال الصوفية. خاصة الموجودين في تطوان. و في ذات ليلة وهو في شبابه وقف عليه الولي الصالح سيدي طلحة في المنام و قال له : أطلب منك أن تتقرب مني. و في الصباح قص على أبيه الحاج عبد السلام رؤيته، وهو خائف معتقدا أن أجله قد قرب. لكن والده أول الرؤيا تأويلا مغايرا و قال له: كلا ليس الأمر كذلك. الولي الصالح يريد منك أن تتخلص من اليهودي.............ووجد في هذا التأويل هوى في نفس الجد فاشترى أرض اليهودي سنة141886. و منذ الثلاثينات لم تتوقف حارة سان أنطونيو عن الاتساع غربا حتى وصلت الى الموضع الذي سيعرف لاحقا بـ \" جامع مزواق\" حيث حدود مدشر \"سمسة\"، مشكلة مدينة جديدة و جميلة و مرحة و آهلة\" 15 . هكذا يطلعنا الكاتب ـ دون أن يخفي عشقه لحارة \" باريو مالقا\" هذا العشق الذي سنلمسه في أكثر من محطة في الرواية، حيث يقول في موضوع آخر :\" جذبت أرض مصطفى المهاجرين المغاربة و الاسبان ، كما يجدب الزهر أسراب النحل\"16 ـ على التحولات التي أضفاها الاستعمار على حارة سيدي طلحة أو أرض مصطفى عبر مراحل وجوده بمدينة تطاون. حتى صارت حارة \" باريو مالقا\". النــــــــاس و الهامـــــــــش: تجمع الرواية هوية فئة سكانية، بصمتها الهجرة، و حجمها الاستعمار، ووصمها الفقر بميسم التشظي، والحيرة ، و وعي عليل أعيا شبابها، فتاهوا ، و تاهت خطواتهم. سكان الحارة المفتقرون لمؤهلات التمدن، وفدوا من البادية كهامش، ليلتحقوا بهامش آخر، أكثر هامشية.احتضنت غالبيتهم البيوت القصديرية \" البراريك\" ، و هي فضاءات للهامشي من المنازل. أمام هذه المعطيات، يتمظهر الهامش بكل بداهة ، كعنصر هام يستحق الوقوف عنده .من خلاله رصد الكاتب ديناميكية سوسيولوجية ذات تمفصل مزدوج : رعايا اسبان فقراء لكن متمدنون/ و مغاربة بدويون مهاجرون أفقر .من خلالها دون حركية مجتمع الحارة ، بين واقع موجود، و متخيل ينسج خيوطه بين مسالك البراريك، يلتقط دردشات النسوة على عتباتها،يتابع تصاعد الضنك المعربد تحت أسقفها، وينصت لخفقان العشق في أفئدة الشباب. ملمحا في نفس الوقت أن الانسان في حارة \" باريو مالقة\" أبى أن ينتمي الى غير هامشيته، فيها يولد و فيها يحيا، وفيها ينحت وجوده.هكذا يمكن للهامش أن يصبح فرصة ، و ليس لعنة، فهو حيز ، يستطيع فيه من لا يملكون تكاليف الحياة العادية أن يعيشوا و يزدهروا. ان الوضع الهامشي، يمكن أن يقدم مساحة لمعايير بديلة، و حياة بديلة، مكانا للقوة المضادة، يخلقه المستبعدون17. لقد غفل الاستعمار عن طموحات الناس في حارة \" باريو مالقا\" كقوة دافعة للحركية الاجتماعية، وهي قوة تستطيع أن تلغي آثار كل فعل تبرمجه السلطة الحاكمة ، لحصار المكان ضمن هامش مختلق. لقد ظلت سلطة المستعمر منشغلة بالانجازات الخاصة بمدينة تطوان المركز، على حساب محيط المدينة و هامشها، على اعتبار أن \" كل ما يساهم في ازدهار المدينة، يساهم كذلك في تعزيز و تقوية الدولة\" 18 .كما قام بالقفز على الأزمة القروية ،خصوصا مأساة سكان منطقة الريف أو ما كان يعرف بـ \" عام الجوع \"، و لم يعرها أي اهتمام. يدور حوار بين احدى شخصيات الحارة المهاجرة من الريف خلال عام الجوع ، و بين سلام: - \" أتذكر أن جدي رحمه الله تشققت قدماه من الافراط في المشي على الثلج في جنح الظلام، حتى انفجرت دما ، و في الصباح كان يتناول ابرة و خيطا و يخيط بها تشققات رجليه من دون أن يتأوه، ثم يعود الى أرضه مشيا، كأنه يطأ الجمرات، و يشرع في حرثها لعلها تجود.....\"19 فيرد عليها سلام بصوت محمل بالادانة: \" لكن الأرض لم تجد، فلم تطيقوا صبرا، ثم هاجرتم الى تطوان، و حشركم الاسبان في معسكرات قبل أن تتوزعوا خدما في دور المدينة، و حراثا في المداشر....\" 20 - كانت محاولة الاستعمار لتوطين مهاجري البادية ، محاولة تمدين غير مضبوطة. قصدت بها سلطة الاستعمار ابعاد القرويين المهاجرين الى مدينة تطوان، عن مركز المدينة، لاسباب عديدة : منها الأمن ، و اجراءات التطهير، و تجميل جزء من المدينة، ذي الطابع الأوربي ، كما أراده الاسبان. لقد تناست سلطة الحماية أن للمهاجرين أحلامهم، التي وئدت تحت صهد البراريك \" تعلقوا جميعا بالطموح في حياة أفضل، لا جوع فيها و لا مرض، ففرجوا عن النفوس بعبادة الله و الجنس و التكاثر\"21. أحبط المهاجرون المغاربة، لما وجدوا مرافق العمل البسيطة التي كانوا يطمحون امتهانها،فوتت للرعايا الاسبان، وهكذا سرق منهم الاستعمار أحلامهم البسيطة ، كما سرقت رجالهم عندما دفعت بهم الى خوض حرب ليست لهم، مقابل \" بسيطات\" لا تسمن و لا تغني من جوع ، و بوفاتهم يننتهي ريعها : \"أدرك محمد العربي، مثلما أدرك كل سكان المنطقة الشمالية أن الحرب الأهلية الاسبانية تسببت في ترمل قدر هائل من نساء شمال المغرب. ظهر ذلك جليا بين المهاجرات في أحياء تطوان الشعبية، في العيون و جبل درسة و الباريو .\" 22 رغم مسحة واقعية نجيب محفوظ المرة، التي أضفاها صاحب رواية \" باريو مالقا\" ـ عن عشق للكاتب ـ على فضاء روايته، حيث أدخل عنصر \" الفتوة\" كعنصر محرك لوحدات الحكي، وأدخل شخصية \" خديجة \" الأنثى الضحية وسط الاخوة الذكور، على غرار شخصية نفيسة في رواية \" بداية ونهاية\"، بالاضافة الى نوع من التقارب الذي نلمسه بين شخصية ادريس و شخصية حسن في نفس الرواية،تبقى الرواية مؤطرة بظروف تاريخية/سياسية ، و اقتصادية / اجتماعية خاصة . شخوصها ترسف في أغلال الفقر المضعف. الاستعمار الاسباني المنهك اقتصاديا بفعل الحرب الأهلية التي كانت تعصف باسبانيا آنذاك، تداعيات وجوده أكثر سلبية من أي استعمار. طوق الحارة بحزام الفقر ، عندما تواطأ مع فقرائه الاسبان على منافسة أهلها في قوتهم اليومي. أدت هذه الوضعية الى وجود اللاتوازنات بين الحاجات الجوهرية لدى الطبقات الشعبية الدنيا ـ سكان البراريك ـ من أهالي الحارة و الوسائل المتوفرة من جهة أخرى ، تقول \" فطوش أم أحد شباب \"الثلة\" و هي تحكي لسلام عن عام الجوع :\" الجوع الحقيقي يا سلام هو الذي يعمي عينيك عن كل الأخطار\"23، ليجيبها سلام \"............ و البؤس المحيط بنا و بك، ألا يعمي هو الآخر عينيك؟ عطن الساقية الكريهة، و جهنم الصيف تحت البراريك، و فيضان الشتاء....هذا عذاب من نوع آخر\" 24 . هذا و رغم ضيق آفاق التشغيل ، و ضعف نسبة التمدرس فقد التقت جموع الشباب بين أزقة الحارة و دروبها، حيث أقاموا تجمعاتهم، باحثين عن التسلية و تجزية الوقت. فتولد الاختلاط بين جميع أصناف أبناء الحارة، و تم تبادل المعلومات حول الألعاب و أنواعها ، و اشترك فيها معهم أبناء الاسبان من قاطني الحارة. فتناسى الجميع ما يفرقهم و اكتفوا بما يجمعهم من صبا و مرح، لا يشوبه كدر الا ما كان من عنف الفتوة و قسوتهم. وبما أن هذه الحرية كانت منفلتة من رقابة الآباء لعدة أسباب ،حيث غياب الأب كان حاضرا بقوة بين شباب \" الثلة\" . يقول أحدهم بحسرة : \" \" الغريب أن آباءنا لا هون عن الخوض معنا في هذا الموضوع القذر ، العارفين به يقينا.انهم هائمون في عالمهم الرجولي. في هموم أعمالهم أو في ثرثرات مقاهيهم...\".25 ان الميل الى الشغب كان لا بد أن يتسلل اليهم ، فنجد \" سلام\" رغم جديته ، يلجأ للقمار من أجل الحصول على ثمن تذكرة السينما. و الشريف يعمد الى السرقة، و لا يأنفو،ن وهم مجتمعين من استفزاز مجاذيب الحارة من أجل التسلية و الضحك . انه شغب يمليه ايضا فعل التهميش. شباب الحارة ، وجود انساني يعلن عن كينونته بالقوة، اتجاه التهميش، تلك القوة التي يراها الآخر انحرافا و فوضى. يصرخ محمد العربي بحدة، عندما يستفسر أخاه سلام عما درسه ذلك اليوم في المدرسة، فيطلعه على قطعة القراءة الاسبانية \" عبد الحميد يريد أن يصبح حدادا :\" .... أولو تنتبهوا أنت و أقرانك من الأغبياء الى سمها المدسوس؟ أولم تفطنوا الى غايتها الاستعمارية ..... الاسبان لا يتصورون الولد المغربي الا حدادا أو اسكافيا أو فحاما ، و لا يتخيلونه أبدا طبيبا أو مهندسا أو طيارا....\" 26. انفـــــــــلات الهامش مـن هامشيتــــــــه \" كان مالارمي يعتبر الشعر تعويضا عن اللغة أو تكريسا لها، و أنا أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ. انها تقول ما يمتنع التاريخ عن قوله...نحن نعيد تركيب تاريخ مزور و صامت.... انني قادر أن أملأ بصوتي فراغ أربعة قرون أو ما يزيد ...\"27 ان كارلوس فوينتس، قائل هذه المقولة، مع مجموعة من كتاب أمريكا اللاتينية، أمثال غابرييل غارسيا ماركيز و بورخيس، أجمعوا أن الرواية تمثل تعويضا عن التاريخ. في هذا السياق نجد رواية \" باريو مالقا\" نصا / وثيقة يؤرخ لميلاد حارة، و نشوئها في ظل ظروف تاريخية و سياسية و اجتماعية ليس على صعيد المغرب فحسب و انما على صعيد العالم . حملت الرواية واقعا كائنا و ممكنا. بلوره مخيل الكاتب ، الموجه برصيد معرفي لا يتأتى الا لمن عايش أحوال الحارة . الرواية تنقل لنا واقع حارة ملتصق بمرحلة تاريخية، بصمها الاستعمار الاسباني ببصمته، دون أن تغـفل متغيراتها.علم الاستعمار الحارة بجراح لم يخفف وقعها المدمي، سوى أحلام شباب ، أطلعتهم السينما على الوجه المضيء للحياة ، فغزا الحب أفئدتهم الندية.و رغم مكابدتهم الفشل الذي طال تجاربهم مع فتيات الحارة من الاسبانيات، فقد تمسك شباب \" الثلة\" بحقهم في الحياة والحب و الفن ،كما آمنوا بحقهم في كسب لقمة عيشهم _ عبد العزيز و محمد العربي _، و القبض على جمرة الشرف سواء في مواجهة عنف الفتوة ، أو تحرشات عسكر الاسبان بفتياتهم.و بهذا نكتشف أن الهامش المفتعل، انفلت من هامشيته المفروضة عليه قسرا.و لعله هو المقصد الرئيس للكاتب من الرواية. لقد بنى الكاتب أدبيا حارة \" باريو مالقا \"، انطلاقا من عشقه لها، يقول في احدى سياقاته السردية :\" أينع صباح الأحد في براريك أرض مصطفى،مثلما تونع الوردة الندلية في البستان الزاهي.\"28، و نمقها بمنمنمات جمالية ، من غناء محلي و شرقي و اسباني ، و أسماء رجالات بصموا تاريخ مدينة تطوان ببصمتهم، و أشعار من التراث . كما أفرد أحدى وحداته السردية للعجائبي ، وهي وحدة \" علي و عويشة \"، و الأهم من كل هذا، أعد لها قنوات معرفية فككت أبجديات المعرفة لشبابها، و حملت شموع التنوير الى أهلها، و سنعمد الى استنباط تلك الأعمدة كالتالي : 1- عبد الله الاسكافي : الشخصية الأقرب لشباب \" الثلة\"، المفعمة بالتجربة و الاحتكاك بأهل المدينة المركز،\" و في الخرازين اكتشف عبد الله أسرار النكتة و مصطلحات المجون الخفيف، و تمرس بأجواء الانفتاح التي تقتضيها الدكاكين الضيقة المتطلعة الى التنفس. و في الخرازين تعلم كذلك أسرار المهنة.....بيد أن أجمل ما خوله دكان الباريو حرية الخيال، و طلاوة الأحاديث، و العمل حسب المزاج. كذلك غدا عبد الله سلطانا عجيبا في قبوه\" 29، وهوالمتمكن من فك الحرف بفضل دراسته بالمسيد، المتعطش للمعرفة يستقطرها من الفقيه الصنهاجي ،المطلع و المتتبع للصحافة المغربية و الاسبانية. وهو أيضا له مراجعه المعرفية،يسوقنا اليها الكاتب ضمن مسار حكيه: \" ....ها هو التقييد الآن بين يديه ، تأمله باعجاب، ثم دسه بين أعداد \" العلم\" و \" النهار \"و \" الأمة\" وmarruecosو diarioو africaو جزءا أصفر من سيرة عنترة و الروض العاطر في نزهة الخاطر، و قرعة الأنبياء، و سحر الكهان في حضور الجان...\"30، وهو بالاضافة الى هذا ، بسبب بساطته و لطفه ، أنزله الشباب بمنزلة الأب الغائب عنهم .مثال ذلك عندما قصده محمد العربي بعدما أنهى دراسته بالمسيد ، حائرا لا يدي ماذا يفعل:\" لقد عاين فيه صورة الأب المفتقد الذي لم يستطع أحد أن يحل محله لا طامو و لا الخضر و لا فقيه الكتاب\"31 2- الفقيه الصنهاجي :و يعرف نفسه داخل الرواية قائلا لجليسه و نديمه الاسكافي \" اذا الفقيه الرهوني هو مؤرخ تطوان، فأنا سأصبح بعون الله مؤرخ الباريو، هذه الحارة المباركة التي عرفت نبتتي، حارة الطبيعة و الهواء الطلق\"32، انه أحد رجالات الحارة المحترمين المعلم و الفقيه و المثقف و الوطني المتتبع لأخبار الوطن عبر الصحافة و المذياع يتقاسم المعلومة مع عبد الله الاسكافي ، وهذا الأخير يمررها بطريقته الى شباب الحارة ، هذا بالاضافة الى التوسع في ادائه التعليمي، بفيض من معلوماته الغزيرة على تلامذته مما أكسبه هيبة ووقارا. 3- اللغـــــــــــــــــــــة: اذا كانت اللغة في الرواية هي حاملة الأصوات كما يقول \" دبلن\" ، فالكاتب التزم بهذه المقولة شكلا و مضمونا، فقد حافظ في نصوصه السردية على الأسماء الاسبانية للأماكن و الأحياء ، و الألعاب ، و بعض الألفاظ الاسبانية المتداولة بين الأ طراف المتعايشة بالحارة من اسبان و مغاربة، سواء كانت شتائم أو أغاني ، كما كان لموضوع الكتاب الغرامي الذي كتبه سلام لمحبوبته بالاسبانية دلالته فيما يخص تعلم شباب الثلة اللغة الاسبانية من أجل التواصل مع الاسبان، و هذا يعتبر عنصرا معرفيا أفاد شباب الحارة ، و مكنهم من قراءة المجلات الا سبانية وفهم كلام أبطال الأفلام التي كانوا يتابعونها عبر شاشة سينما حارتهم. 4- أكشاك بيع المجلات الاسبانية: \" ألف أبناء \"الباريو\" عديدا من البائعات الاسبانيات في الكشك ، كانت آخرهن \" مونطصيراط\". عرضن النوفيلات، و المجلات الاسبانية المصورة للشبان و الشابات و الأطفال، و أتحن للقراء فرص شرائها ، أو تبادلها ، أو استعارتها مقابل قدر زهيد\"33. في هذا السياق يروي الكاتب عن الشريف أب أحد شباب \" الثلة\": وقف الشريف أمام كشك \"مونطصيراط \" يستبدل نوفيلا بوليسية من نوع ف.ب.ا. هو كهل نحيف طويل القامة.........اشتغل طوال عمره بالبناء ، الى أن تضعضع بدنه.احتك بالاسبان، و تشرب منهم حب الثقافة، و ان لم يملك سبيلا الى ممارستها و اتاحتها لأولاده...\"34 5 -السينمـــــــــــــــــــــــا: كانت السينما دليل شباب \"الثلة\" نحو الحياة بلون آخر، فأدمنوا سحرها، ساقت اليهم الحضارة الأوربية، تمشي على أقدام ممثلين تعلقوا بهم و صاروا قدوتهم: \" لم يكتف المديني بالتعلق بنجوم السينما، و انما آمن في قرارة نفسه ، بأنه نسخة طبق الأصل من روك هودسن.....\"35 .و \" لكم تماها سلام في سنة الباكلوريا مع الشاب الفيس بريسلي بطل رواية \" المتحرر\"، في صراعه من أجل أن يصبح قاصا\"36.، و مع وصول فيلم \" سيف دمشق\"، يصل المد العروبي الى شباب \" الثلة\" : \" ان لايحاءات \" سيف دمشق\" سحرا خاصا نقلهم الى أجواء الشرق العربي، و الليالي الألفية. فبعد \" لص بغداد \" ها هي الفرصة الذهبية الثانية ستتاح لهم لمتابعة رواية أجنبية لها صلات وطيدة بأشياء عربية تخصهم: الملابس، الأماكن ، و الأسماء، و الحكايات الخيالية\" 37 . 6- رحيـل الاستعمـــــــــار :\"...........غب حفلات الاستقلال تغيرت الأجواء، و بدا كأن اسبانيي الحارة قد أفاقوا من حلم طويل الأمد ، و أرغموا على مواجهة الأسئلة المصيرية....\" 38 رحل الاسبان عن شمال المغرب ، و فتح باب التواصل الاجتماعي بين حارة \" باريو مالقا\" و مركز مدينة تطاون: \" ذات يوم تلقى المديني عرضا لاجراء مباراة في كرة القدم ضد فريق من المدينة\" 39 \" وولج سلام عالم الأضواء و السحر، و في البهو، انساب صوت أنطونيو مولينو قبل بداية العرض 40: و كأن المطرب يغني بلسان حال الفتى الحالم سلام و هو يرى حارته تنخرط في العقد الاجتماعي للحمامة البيضاء تطاون بالرغم من كون متخيل الكاتب، يستمد موضوعه من الهامش بكل مكوناته البشرية و الاجتماعية والحضرية ، فان الكاتب الصب بعشق حارته، يفضحه ما تخطه يمينه من تعابير منفلتة بين ثنايا الحكي، تشدنا الى المفهوم الدافئ للمكان عند باشلار، و أحباله السرية المندسة في كنه البناء السردي للرواية. يقول الفيلسوف الألماني نيتشة :\" ان الأسباب التي تجعل من جمهور الناس صغارا حقراء، لهي عينها التي تدفع بالقادرين الأقوياء الى العظمة و الارتقاء\". و كأني بالكاتب ير دد بيت صلاح جاهين في حب بلده: بحبها بعنف... و برقة ... و على استحياء