الرباط - وكالات
يحكي كتاب «مختصر تاريخ العالم» الصادر عن سلسلة عالم المعرفة / إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب قصة تاريخ العالم فيقالب سردي مبسط، مستهدفا تحديدا فئة عمرية حساسة تتراوح بين الأعوام الثمانية والثمانية عشر، وهذا الخروج عن الخط الذي كانت تسير فيه السلسلة يهدف إلى مخاطبة العقل الجمعي لناشئة العرب. لكنه في كل الحالات يبقى كتابا ممتعا لجميع الفئات. حسب توطئة السلسلة، فالخروج مقصود نظرا للإكراهات الجديدة والمنافسة الشرسة بين الكتاب الورقي وباقي صيحات التكنولوجيا: «ويهدف التغيير الجديد إلى الإفادة من أحدث الاجتهادات في عالم الإصدارات الورقية، وهو بمنزلة خطوة ضرورية حان وقتها، تتزامن مع احتفال السلسلة ببلوغها العدد400، لتكلل رحلة زاخرة امتدت على خمسة وثلاثين عاما..»، تكتب المترجمة في المقدمة: «لطالما اعتقدت أن التاريخ قصة، قصة هي الأكثر خيالية وجمحا بين كل أنواع النثر الكتابي. فما التاريخ سوى سرد لذكريات تكونت من زاوية نظر منفردة، معجونة بالمحيط والتقاليد والطبيعة الحياتية للسارد، مشربة بأحاسيسه ومشاعره. ولقد بدا أن «إي اتش غومبريتش» الذي ستحكي حفيدته ليوني غومبريتش عن سيرة حياته مطولا في مقدمتها لهذا الكتاب، كان يحاول بكل ما يمتلك من أدوات كتابية وبلاغية أن يحول هذا النص إلى قصة يتشوق قارئه إلى إتمامها ليبقى الكثير من تفاصيلها في ذهنه» من «قصة الفن إلى «مختصر تاريخ العالم» ما يميز النص السردي المتواصل للكاتب، كما تقول المترجمة في مقدمتها، هو قدرة الكاتب التي تجلت في طياته على ربط الأحداث والأسماء وطرح التشبيهات التي قد تتباعد مئات السنوات بعضها عن بعض، وهذه التشبيهات والمحاولات المستمرة لربط التاريخ البشري من أوله إلى آخره بحلقات الأشخاص والأحداث إنما تجعل النص أكثر تشويقاً وإثارة وترفع من قدرة القارئ على تذكر الأحداث وربطها واستيعابها بصورتها الكبيرة الموسعة: «غير أن أكثر ما يعكسه ويؤكده هذا الأسلوب هو محبة الكاتب الخالصة الحقيقية للتاريخ الإنساني، الذي يبدو أنه يتشكل كحقيقة نهر رقراق في عقله حتى أنه يستطيع أن يبحر إلى أي نقطة فيه ليصطاد منه ما يريد من أحداث وأشخاص لا يعتقدهما يخرجان أبدا عن تكامل وانسياب التاريخ البشري»، تكتب المترجمة. وأكثر ما يلفت النظر في هذا الكتاب هي عناوين فصوله الأربعين المميزة فهي لا تعبر عن فترات تاريخية بعينها ولكنها تعبر عن قصص تاريخية تجذب القارئ بكل حواسه للاستمتاع مع قصة طويلة هي قصة التاريخ. في الفصل ال35 يكتب تصورا فريدا وممتعا وعميقا في الآن نفسه: «إن أكثر ما أحببت حول تاريخ العالم هو أنه حقيقي، إن كل الأشياء الاستثنائية التي نقرأ عنها ليست بأقل مني ومنك اليوم. الأكثر من ذلك أن ما حدث هو في الواقع أكثر إثارة وإدهاشا بكثير من أي شيء يمكننا أن نحكيه». وذلك هو التاريخ، لكن ما حكاية تأليف الكتاب؟ هذا ما ترويه حفيدته «لنا ليوني غومبريتش» : «إن أفضل ما يعرف به جدي، إيرنيست غومبريتش، هو أنه مؤرخ للفنون. فبجانب العديد من المنشورات الأكاديمية المهمة، فإن تقديمه الشهير لتاريخ الفن في كتاب «قصة الفن» قدمه وعرفه لملايين القراء حول تاريخ العالم. ولكن لولا كتاب «مختصر تاريخ العالم»، ما كان ل«قصة الفن» أن يكتب أبدا». هكذا كانت قصته هو نفسه أفضل تقديم لهذا الكتاب، فبعد أن أنهى غومبريتش دراسته في جامعة فيينا بقى عاطلا عن العمل، محروما من أي بارقة أمل في الحصول على وظيفة في تلك الأوقات الصعبة. في حينها طلب منه ناشر ناشئ من معارفه الإطلاع على كتاب تاريخ بالإنجليزية للأطفال، مع الاحتفاظ برؤية مستقبلية لترجمته إلى الألمانية، كان الكتاب سيضم إلى مجموعة جديدة بعنوان «المعرفة للأطفال». لم يعجب غومبريتش بما قرأ لدرجة أنه أخبر الناشر بأن الكتاب لا يستحق الترجمة، بل إنه علق «أعتقد أن بإمكاني كتابة واحد أفضل» فرحب الناشر بالفكرة، ولم يكن غومبريتش نفسه متأكدا من إمكانية إنجاز المشروع، لكنه أعجب بالتحدي ووافق على المحاولة، رسم خطة الكتاب على وجه السرعة، حيث اختار الأحداث التي سيشملها الكتاب بأن سأل نفسه ببساطة: «ما أحداث الماضي التي كانت الأكثر تأثيرا في حياة الناس والأكثر رسوخا في ذاكرتهم؟»، بعدها استعد ليكتب فصلا كل يوم، في الصباح يقرأ حول موضوع اليوم في الكتب المتوافرة لديه، وفى أوقات ما بعد الظهيرة يذهب إلى المكتبة ليطلع، متى كان ذلك ممكنا، على بعض النصوص الآتية من العصر الذي يكتب حوله، ليوثق رواياته، أما المساء فكان للكتابة. الماضي .. منظر عام من طائرة الكتاب الذي صدر لأول مرة عام 1936 وتُرجم إلى عدد كبير من لغات العالم وترجم، أخيرا، إلى العربية يقدم الفكرة بطريقه مختلفة، حيث يختتم الكاتب هذا النص التاريخي باعتذارات وتعديلات أضافت قيمة كبيرة ودرسا مهما للنص الأساسي للكتاب، ففي الفصل الأربعين والأخير يعود الكاتب ليراجع نفسه، مقرا بأنه في أحيان لم يتأكد من معلومة تاريخية جزمت ذاكرته بحقيقتها وأثبتت له الوقائع غير ذلك، وبأنه في أحايين انحرف عن الحكم الصحيح بسبب ضبابية الموقف وضيق الصورة. غير أن اختياره أن يضيف هذه التعديلات، حاكيا للصغار المستهدفين من الكتاب أساسا عن طبيعة النفس البشرية، مقرا بتحيزاتها وضيق أفقها، في فصل أخير من كتابه. في الفصل الذي عنونه ب»الجزء الصغير الذي عشته بنفسي: نظرة إلى الوراء» يكتب: «أن تتعلم التاريخ من الكتب شيء، وأنت تختبره بنفسك شيء آخر. ذلك ما أردت أن أذكرك به الآن عندما شبهت اللمحة الخاطفة لماضي البشرية بالمنظر الذي يمكن رؤيته من طائرة تطير على ارتفاع كبير. كل ما يمكننا تميزه هو بعض التفاصيل الموجودة على ضفاف نهر الزمن». والمؤلف يبدأ مع بداية الحياة ساردا الحكاية من أولها، مؤكداً أنه في الواقع لا أول لهذه الحكاية، فلكل بداية بداية أخرى أقدم منها من هذا المدخل التشويقي المثير، فينطلق المؤلف ليحكي عن أشكال الحياة الغابرة المختلفة، من ديناصورات وغيرها، مروراً بالأنماط البشرية المتباينة التي كانت تحيى على الأرض سابقة الجيش الإنساني الحالي، ثم ينطلق المؤلف ليحكي قصة الحضارة البشرية بدءاً من قدماء المصريين ومروراً بالسومريين والبابليين والآشوريين، ومن ثم يستعرض كل الحضارات التي تزامنت مع هذه الحضارات الأولية الغابرة أو توالت بعدها ومن خلال السرد القصصي المشوق لتاريخ العالم «المختصر» هذا، يلقن المؤلف القارئ دروساً أخلاقية رفيعة.. مشيراً إلى شرور البشرية وخيرها.. مستعرضاً التقلبات التاريخية بين أزمنة الانجازات والابتكارات البشرية، وبين تلك الفارقة في الحروب والصراعات الدموية، كما يمر المؤلف على العديد من اللحظات الحاسمة في التاريخ البشري، ويأتي على ذكر أسماء القادة والعلماء والمفكرين الأكثر تأثراً خلال هذا التاريخ. قراءة كتاب «مختصر تاريخ العالم» شبيهة بقراءة رواية لكن أحداثها وشخوصها حقيقويون عاشوا في الزمان والمكان. هذه الرواية كانت ستكون مملة لو اعتمدت أسلوبا غير أسلوب «إي اتش غومبريتش» . في الفصل الذي يتحدث عن ظهور الإسلام المعنون ب«لا إله إلا الله..محمد رسول الله» نقرأ : «هل لك أن تتخيل الصحراء؟ الصحراء الحقيقية، الحارة، الترابية، الرملية، تقطعها قوافل الجمال الطويلة محملة بشحنات من البضائع النادرة؟ الرمال في كل مكان، وبين الحين والآخر ترى واحدة أو اثنتين من شجر النخيل في الأفق. ولا تكاد تصل إلى تلك النقطة حتى تجد واحة مكونة من نبع ماء هزيل بمائه المخضر اللون. ثم تتابع القافلة مسيرتها. أخيرا تصل إلى واحة أكبر حجما تكمن فيها مدينة ذات بيوت بيضاء مكعبة الشكل مسكونة من رجال بيض الملبس، سمر اللون، بشعر أسود وعيون داكنة ثاقبة... كان محمد مفعما بالقوة والنشاط والحيوية، له شعر ولحية أسودان، وبأنف نسر ومشية واثقة هادئة، وكان يحظى باحترام كبير. كان يعرف بين الناس بلقب «الصادق الأمين» وأبدى اهتماما مبكرا بالتساؤلات الدينية، وكان يتمتع بالحوار ليس فقط مع الحجاج العرب القاصدين مزار مكة، لكن كذلك مع المسيحيين القادمين من الحبشة القريبة، ومع اليهود..» إن رواية التاريخ لا يمكن متابعة قراءتها إلا إذا كانت بأسلوب شيق وهذا ما كان في «مختصر تاريخ العالم».