بيروت - ليبيا اليوم
لم تستطع المؤسسات الإعلامية في لبنان التقاط أنفاسها منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، وصولاً إلى جائحة «كورونا» مع مطلع هذا العام. فهي حاولت قدر المستطاع في الفترة الأولى لملمة شملها وإكمال مسيرتها رغم خسائر فادحة وتحديات مادية أصابتها. وجاء انتشار وباء «كوفيد 19» بعد الانتفاضة ليزيد من انهيارها بعد أن تسبب فيما يشبه الدمار الشامل فيها.فحالة الشلل التام التي طالتها كغيرها من القطاعات العامة والخاصة في البلاد وضعتها في موقف لا تحسد عليه، لا سيما أن المستقبل لا يحمل أي بشائر خير.
موعد انتهاء هذه الجائحة لا يزال مجهولاً، وبالتالي؛ فإن المؤسسات الإعلامية من صحف وإذاعات ومحطات تلفزة تئن تحت ثقل أوضاع مادية وصلت بها إلى الحضيض. فالإعلانات التجارية التي كانت تشكل أهم وارداتها المالية لامست الصفر في زمن الانتفاضة، وها هو اليوم «كورونا» يطيح بما تبقى منها. فالمعلنون توقفوا عن الترويج لخدماتهم ومنتجاتهم في ظل وضع مشلول وغير منتج. وساهم تدهور سعر صرف الليرة في زيادة الطين بلّة.تراجعت أرباح تلك المؤسسات؛ مما أدّى بها إلى تسريح عدد كبير من موظفيها. أما من حافظت عليهم من بينهم فيشكلون مجموعات صغيرة. بقاؤهم كان منوطاً بموافقتهم المسبقة على نيلهم نصف أجر شهري، وهو أمر طبق أيضاً على مراسلي الأخبار ومقدمي البرامج في محطات التلفزة.
فمقولة «إنّ ما قبل (كورونا) ليس كما بعده» تبدو واقعية وحقيقية في مختلف المؤسسات الإعلامية في لبنان التي تبحث اليوم عن أساليب وطرق تخرجها من معاناتها. وهي لا تشبه في أفكارها ولا في محتواها وأدائها أياً من أساليبها القديمة. ويبدو أن الخريطة المستقبلية لهذه المؤسسات ترتكز على مبدأ «مستوى جيد ومصروف أقل». فالمشهدية التلفزيونية التي كانت ترتكز في الماضي على عناصر البهرجة من ديكورات ضخمة، وضيوف وبرامج تصرف الملايين لتأمينها وتنفيذها، ذهب زمانها إلى غير رجعة. وهو أمر يعترف به علناً القيّمون على هذه المؤسسات.
ويقول بيار الضاهر، رئيس مجلس إدارة تلفزيون «إل بي سي آي» في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «تجربة (كورونا) كانت الأقسى علينا منذ سنوات. فالثورة على الأقل حددّت مسؤوليات السياسيين والزعماء رغم أوضاع متهرئة نعاني منها كدولة. أما الوباء، فإن العالم لم يعرف مثله منذ الحرب العالمية الأولى. وهو ما وضعنا أمام تحديات جديدة فرضت علينا، وتسببت في انهيار الاقتصاد عالمياً. فأن نعمل في ظل جائحة نجهل علاجاً لها أو ما يمكن أن يسهم في تدني انتشارها، كان أمراً صعباً جداً. هناك مسؤولياتنا تجاه صحة موظفينا من ناحية، وتأمين مدخول للمحطة في ظل شلل اقتصادي تام يصيب البلاد من ناحية ثانية، شكّلا أبرز تحديات هذه المرحلة. وعملياً يمكن القول إننا نعاني من دمار شامل. ولكن ما يعزينا هو أن الوضع يتحسن على الكرة الأرضية بأكملها، والتحديات ستكثر في المستقبل ونتأمل اجتيازها».
ولا يختلف رأي كرمى خياط، مديرة تلفزيون «الجديد» عن زميلها الضاهر. فأول التحديات التي واجهوها بسبب «كورونا» هي حالة الشلل الاقتصادي... «هناك مسؤوليات كبيرة وكثيرة انعكست علينا. فصحيح أننا مارسنا سياسة العمل عن بُعد وقسمنا موظفينا إلى فرق محاولين التعايش مع الوباء، ولكن التحدي الأكبر كان تأمين معاشات الموظفين. فهذه التجربة لم يسبق أن مرّ علينا ما يشبهها، ولذلك ندق ناقوس الخطر اليوم ونقول إنه لا أحد في هذا القطاع ينفد من هذه المعاناة».
وتتابع في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «اضطررنا إلى أن نستغني عن بعض الموظفين، وأحياناً الاكتفاء بعنصر واحد يقوم بمهام الثلاثة الآخرين. كما اضطررنا إلى أن نعيد حساباتنا ولا نقدم على أي خطوة ناقصة. ومارسنا ذلك في شهر رمضان؛ إذ لم نشتر حقوق عرض أي دراما عربية أو مختلطة، واكتفينا بمسلسلات تركية كنا قد بدأنا عرضها قبل الشهر الفضيل. فالأمر كان يحتاج إلى تغيير أسلوب عمل يشبه إلى حد كبير تغييرنا أسلوب العيش. ومارسنا خطة عمل تقوم على أن المصاريف الإضافية غير ضرورية والقيمة الأساسية تكمن في المضمون والكفاءة. وبالفعل نجحنا واليوم تحصد برامج (الجديد) أعلى نسبة مشاهدة».
مراسلو نشرات الأخبار في الإذاعات ومحطات التلفزة كما الخاصّين بالصحف، عانوا الأمرّين خلال ممارستهم عمليات التغطيات المباشرة في زمن الوباء. فطلبت إداراتهم منهم التقيد بأساليب الوقاية من كمامات وقفازات. كما طبقوا التباعد الاجتماعي فتفرقوا عن زملائهم والتزموا المسافات المطلوبة مع ضيوفهم، وضمن استوديوهات معقمة أيضاً. وطبقت وسائل التعقيم على مداخل هذه المؤسسات من خلال ماكينات خاصة ترش السائل المعقم على كل من يدخلها. كما تم إجراء الفحص المخبري «بي سي آر» الخاص بالوباء لجميع الموظفين.
وصارت الرسائل المباشرة لنشرات الأخبار المتلفزة والبرامج الصباحية في الاذاعات، تطبخ وتقدم من داخل المنازل. وتعلق المذيعة ريما نجيم: «ليست المرة الأولى التي أمارس فيها عملي الإذاعي من المنزل؛ إذ سبق أن قمت بذلك في ظروف عديدة. فزمن (كورونا) فرض علينا شروطاً قاسية تعتمد البعد الاجتماعي، ويبقى أثير الإذاعة وحده قادراً على إبقاء هذا التواصل بيني وبين مستمعي». وتتابع في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «وفي ظل وسائل التواصل الاجتماعي يتفاعل معي المستمعون بشكل كبير لا يختلف بطبيعته كثيراً عن حماسهم الذي كنت ألمسه من داخل استوديو الإذاعة».
وفي إطار العمل الإذاعي أيضاً، يقول عماد الخازن، مدير إذاعة «صوت لبنان (ضبية)»: «عن أي تحديات تريدينني أن أتحدث، فهي لا تحصى ولا تعد، وتشمل القدرات الإنسانية والمادية والبيئية. حتى إننا نعاني من عدم تأمين مادة المازوت للمحولات الكهربائية (موتورات)، لأن أصحابها يريدوننا أن ندفع بالعملة الخضراء عدّاً ونقداً». ويتابع: «جميع الأعمال متوقفة، والإذاعة تقوم على الترويج لتلك الأعمال، ولذلك نسبة الإعلانات التجارية هي ما دون الصفر. ومستقبلنا يسكنه الغموض ولا نعرف بعد الوقت الذي ستستغرقه نهاية الوباء. وكل ما أستطيع قوله هو أن قدراتنا المادية تستطيع أن تكفينا لأربعة أشهر مقبلة وبعدها لكل حادث حديث».
حالة من الحيطة والحذر سادت المؤسسات الإعلامية بكل مكوناتها. فهي كانت تقوم برسالتها التوعوية لتفادي انتشار الوباء والإصابات على أكمل وجه. وهو أمر طبقته أيضاً في زمن الانتفاضة عندما أوقفت برامجها العادية من أجل القيام بتغطية شاملة للمظاهرات والمسيرات والأحداث التي تخللتها.
واستطاعت إطلاق أهم الحملات الوقائية في هذا الإطار («خليك بالبيت» و«ألزموا منازلكم») لتحفز مشاهدها على البقاء في بيته. كما أن استضافتها اختصاصيين بشكل يومي يتحدثون في نشرات الأخبار الرئيسية عبر شاشاتها عن كيفية تفادي الإصابة بالمرض، كان له وقعه الإيجابي على تراجع عدد الإصابات في لبنان والحد من انتشار الوباء.
ويعلّق وليد عبود، مدير نشرات الأخبار في قناة «إم تي في» اللبنانية: «منذ اللحظات الأولى أخذنا إجراءات وقائية في المحطة التي كانت أول من دعا الناس إلى البقاء في منازلهم. والتحديات التي واجهناها في ظل الوباء شملت قدراتنا المادية والبشرية وحتى إيقاع عملنا. وما نعيشه اليوم برأيي هو امتداد لحالة اقتصادية متردية بدأت من قبل، وتجلت في زمن الثورة. وجاء (كورونا) ليكمّل على ما تبقى عندنا من إمكانات مالية. فالتحدي المالي هو الأصعب الذي نواجهه في هذه الفترة».
قد يهمك ايضا