ماناجوا ـ المغرب اليوم
تحتفل نيكاراغوا هذه الأيام بالذكرى الأربعين للثورة الساندينية التي أسقطت ديكتاتورية سوموزا، الذي حكم هو وعائلته هذه البلاد كمزرعة طوال عقود جمع خلالها إحدى أكبر الثروات في أميركا اللاتينية، وجعل من بلاده أفقر دولة فيها بعد هاييتي.
انتخب اليساري دانييل أورتيغا في عام 1984، أول رئيس للجمهورية بعد الثورة التي كلفت أكثر من 50 ألف قتيل، وأطلقت حلما، ليس فقط في نيكاراغوا بل في شبه القارة الأميركية، ما لبث أن انطفأ حتى أصبح اليوم كابوساً تعتمل فيه عناصر ثورة جديدة ضد الذي وعَدَ بقيام «نيكاراغوا جديدة»، وأسقط الطاغية السابق، ليعود ويتفوق عليه في القمع والفساد وخنق الحريات العامة.
الرايات الحمراء والسوداء التي تزين اليوم شوارع العاصمة، والموسيقى التي تصدح في ساحاتها تذكر بتلك الاحتفالات التي أعقبت انتصار الثورة ودخول شباب الجبهة الساندينية إليها يتقدمهم مجلس القيادة الذي كان الرئيس الحالي بين أعضائه التسعة الذين راح يقصيهم واحداً بعد الآخر، منذ وصوله إلى الرئاسة للمرة الأولى، لكن منذ عودة أورتيغا إلى الحكم في عام 2007، تغير طعم الاحتفالات بذكرى الثورة التي كانت قد أكلت معظم أبنائها، وتحولت إلى نسخة مشوهة من النظام الذي قامت على أنقاضه.
منذ سنوات، يقيم أورتيغا داخل حصن منيع تحميه قوات الجيش والشرطة التي حولها إلى حرسه الخاص، ويعيش في عزلة عن المجتمع الذي ناضل وسُجن وتعرض للتعذيب وحارب من أجل تغييره، تاركاً إدارة البلاد لزوجته روزاريو التي يقال إن لها تأثيراً قوياً عليه، وهي التي كانت وراء اعتناقه المذهب الإنجيلي المتشدد، ويطلق عليها لقب «الوفية إلى الأبد».
تضرجت احتفالات العام الماضي بدماء الشبان الذين سقطوا برصاص القنّاصين التابعين للشرطة، عندما كانوا يتظاهرون ضد النظام مطالبين باستعادة الحريات العامة، وعدم تمديد ولاية رئيس الجمهورية، ويهتفون بالإسباني «Daniel y Somoza son la misma cosa» (دانيال وسوموزا هما الشيء نفسه). وفي بعض ساحات العاصمة تخرج اليوم مئات الأمهات باللباس الأبيض يتذكرن أبناءهن، ومعظمهم من الطلاب الجامعيين الذين قضوا برصاص القمع عندما كانوا يطالبون باستقالة أورتيغا.
يقول هنري رويث الذي كان رفيقاً لأورتيغا، وأحد الأعضاء التسعة في مجلس قيادة الجبهة الساندينية: «أورتيغا هو الدليل الدامغ على أن الثورة الساندينية قد فشلت، والشعار الذي رفعه الشباب الذين تظاهروا في انتفاضة أبريل (نيسان) 2018 (لا فرق بين دانييل وسوموزا) هو أصدق تعبير عن الإحباط الذي نعيشه منذ سنوات».
ويستعرض رويث في حديث مع «الشرق الأوسط» سلسلة الأخطاء التي راكمتها الثورة منذ نجاحها، وتحولت بسببها إلى نظام أسوأ من الذي قامت لإسقاطه، فيقول: «عند توزيع المسؤوليات والمناصب كانت بطاقة الانتماء إلى الجبهة أهم من الشهادة الجامعية، والمشاركة في المعارك أرجح من الخبرة المهنية أو الإدارية... كثيرون لا يتمتعون بالكفاءة تسلموا إدارة مؤسسات وشركات كبرى انهارت مع الوقت، وتفشى فيها الفساد. والثورة كانت أيضاً مبرراً لكل التجاوزات، من قمع الحريات إلى المذابح والفساد الذي سمح لكثيرين بجمع ثروات طائلة في أحد أفقر البلدان في أميركا اللاتينية».
ويضيف: «بداية الانحراف كانت عندما جمع أورتيغا في شخصه كل المناصب القيادية، من منسّق للجبهة إلى أمينها العام إلى زعيم الحزب بلا منازع، حتى أصبح أحد أكبر الأثرياء في نيكاراغوا».
وبدا ذلك واضحا في عام 2007 عندما عاد أورتيغا إلى الحكم بفضل تحالفه مع أصحاب الثروات الكبرى الذين كانوا يحتقرونه علناً في السابق، لكنهم وجدوا فيه الزعيم القوي القادر على تحقيق الاستقرار في هذا البلد الذي يعيش على فوهة بركان متأهب للانفجار.
مفارقات كثيرة شهدتها عين الصحافي على مر السنين، لكن الدهشة ما زالت تجد طريقها إليه، عندما يتذكر أن الرئيس الذي «أكرمه» بدعوته إلى مرافقته طوال نهار بكامله، مع ثلاثة صحافيين آخرين، في حافلة صغيرة تجوب الأرياف في حملته الانتخابية الأولى التي كان يترجل خلالها ويمتطي صهوة جواد يخطب في أنصاره... يتجول اليوم في موكب من السيارات المصفحة ومحاطاً بآليات عسكرية مدرعة ومئات عناصر القوات الخاصة. بعد أربعين عاماً تبدو نيكاراغوا كأنها تحتفل بثورة لم تحصل في حضور الذي يفترض أنها قامت لإسقاطه.