باريس - مارينا منصف
رفض أن يترك وراءه أسلوبًا معينًا كما هو الحال بالنسبة لـ كوكو شانيل أو كريستيان ديور، لكنه كان مدرسة ثارت على المتعارف عليه، وأثرت بشكل أو بآخر على كثير من معاصريه، كريستوبال بالنسياغا الذي يحتفل به عالم الموضة من خلال ثلاثة معارض في الوقت الحالي، يجسد مفهوم السهل الممتنع رغم الأحجام الهندسية المستقبلية والقصات المنحوتة التي كان يعشقها بغض النظر إن كانت عملية أم لا، ومع ذلك كانت بنية أسلوبه في جوهرها بسيطة حتى في تعقيدات هندسيتها وراقية في فنيتها ما دعا المصمم كريستيان ديور إلى القول عنه "إنه أستاذ الكل، فالهوت كوتير مثل أوركسترا يقودها بالنسياغا بينما باقي المصممين مجرد موسيقيين يعزفون على نغماته".
وقالت كوكو شانيل التي كانت بخيلة في إطراءاتها على مصممي جيلها "ذ إنه الخياط الوحيد الذي يتمتع بكل مواصفات المصمم الماهر، وإن كل الآخرين مجرد مصممي موضة، وبالفعل كان يتفوق على ديور وشانيل من ناحية أنه كان شاملًا يعرف أدق التفاصيل، من تصور التصميم ورسمه على الورق إلى قصه وتفصيله ثم حياكته بنفسه، وهو ما لم يكن بمقدور الكل، وحتى الآن يقتدي به الكثير من الشباب من دون أن يشعر أي منهم بأنه ينتهك حرمة الإبداع، لأن هناك إجماعًا أن رؤيته سابقة لأوانها، فعندما ألغى الخصر من فستان طرحه في الخمسينات، مثلًا، وكان ذلك في عز موضة "ذي نيو لوك" التي كان كريستيان ديور بطلها وكانت تحتفل بشد الخصر لإبراز ضموره، استنكر البعض فعلته على أساس أنها تتعارض مع الأنوثة، لكن بعد عقد واحد تحول هذا التصميم إلى موضة سادت لحقبة كاملة ولا تزال لحد الآن.
وفي الستينات من القرن الماضي، وقبل أن يُغلق داره، ارتقى بأسلوبه إلى مصاف التحف الفنية، وإلى حد الآن يشهد الكل بأن قصاته أسطورية يسهل الإدمان عليها لأنها تحترم المقاييس العادية وتحول العيوب إلى مزايا، وما يُحسب له أنه طوال حياته تعامل مع التصميم كفن وليس كتجارة، لهذا عندما شعر بأنه لا يستطيع مجاراة غزو الأزياء الجاهزة أقفل داره في عام 1968 إلى أن قررت مجموعة "كيرينغ" شراءها وإنعاشها، الآن، في كل موسم تعيد للأذهان قصة مصمم تمسك برؤيته واحترم فنه إلى آخر رمق، صحيح أن عدة مصممين تعاقبوا عليها ويحاولون إثبات أنفسهم، إلا أنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الجينات الوراثية لكريستوبال بالنسياغا نظرًا لقوتها، ومنذ بضعة أشهر قامت الدنيا ولم تقعد عندما طرح مصمم الدار الحالي، ديمنا فازاليا، حقيبة باللون الأزرق تشبه حقيبة تسوق من متاجر "إيكيا".
وسبب الضجة والاستنكار لا يعود فقط إلى اتهامه باستسهال عملية الإبداع، بل لأن سعر الأولى كان 2000 دولار أميركي بينما سعر الثانية لا يتعدى الدولار وهو ما اعتبره البعض أيضًا استهتارًا بعقل المستهلك، لحسن حظ المصمم أن طرحه لهذه الحقيبة تزامن مع افتتاح معرض في متحف "فيكتوريا آند ألبرت" في لندن بعنوان "بالنسياغا: تشكيل الموضة" سيمتد إلى 18 إلى شهر فبراير /شباط المقبل، يتناول مسيرة المؤسس كريستوبال ويسلط الضوء إلى أنه كان يميل بدوره إلى إحداث الصدمة وخض المتعارف عليه باستعمال خامات غريبة تارة وأحجام هندسية مبتكرة تارة أخرى، المعرض اللندني يركز على صورة كريستوبال كمصمم سابق لعصره وتحديًا له في الوقت ذاته.
ويمتد متحف "باليه بورديل" في باريس الذي يحتضن بدوره معرضًا بعنوان "بالنسياغا: العمل الفني بالأسود" إلى 16 من شهر يوليو /تموز المقبل يتناول عشقه للون الأسود وكيف صاغ منه فساتين مغزولة بالأحلام، أما متحف بالنسياغا الواقع في بلدية غيتاريا الإسبانية، والذي سيمتد إلى يناير /كانون الثاني 2018، فتُعرض فيه مجموعة أزياء للوريثة رايتشل لامبارت ميلون التي توفيت في عام 2014 وخلفت إرثًا غنيًا من تصاميمه التي كانت تُجمعها من باب عُشقها لأسلوبه، كل هذا يشير إلى أن 2017 هو عام المصمم الإسباني بلا منازع فبعد مائة عام على انطلاقته لا يزال يُعتبر في نظر الكل نحاتًا ومهندسًا بقدر ما هو مصمم غير عادي .
ووصفته أمينة المعرض اللندني، كايسي ديفيس سترودر بأنه "كان حداثيًا وتقليديًا في الوقت ذاته، تقليدي لأنه كان من المستحيل أن يتقبل النقلة من الهوت كوتير إلى الأزياء الجاهزة، وحداثي لما كان يتمتع به من نظرة سابقة لأوانها فيما يخص تعامله مع الأحجام والأشكال وبحثه الدائم عن مواد جديدة". فرغم أنه كان رساما ماهرا باستطاعته رسم أي تصميم يخطر على باله، فإنه كان يصرح دائما أن البطل بالنسبة له هو القماش ونوعيته من القماش، لأنه "هو الذي يحدد نوع التصميم" حسب تصريح نادر له.ما يزيد من أهميته في عصرنا أنه يُذكرنا بزمن لم يكن المصمم يجري فيه وراء الربح المادي بأي ثمن بقدر ما كان يريد أن يُثبت أنه فنان. في حالة بالنسياغا لم يكن يسعده أن تقتني عميلاته كل قطعة يعرضها، وكان يفضل في المقابل أن يكون لهن ذوقهن الخاص وأن تتذوقن كل قطعة وكأنها تحفة فنية يجب أن يتم انتقاؤها بدقة، المعرض اللندني يتتبع مسيرته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ويسلط الضوء على أسلوبه المبتكر فيما يخص الأحجام الهندسية والخامات الثورية التي كان يستعملها إضافة إلى قدرة لا تضاهى في التفصيل ورثها عن والدته التي كانت خياطة إلى جانب تدربه على يد خياط وعمره لا يتعدى الـ12 عامًا، يُسلط الضوء أيضًا على أعمال مجموعة من المصممين الذين تأثروا به مثل مولي غودارد والراحل أوسكار دي لارونتا وهيبار جيفنشي وأندريه كوريج وإيمانويل أونغارو، من الذين تدربوا على يده أو عملوا معه قبل أن يستقلوا ويؤسسوا بيوتهم الخاصة، من خلال قسم مخصص لهم، قسم آخر يؤكد أن تأثيره لا يزال قويًا حتى بعد وفاته بعقود، من خلال تصاميم لمُبدعين معاصرين من أمثال عز الدين علايا، روكساندا إلنشيك، إلى جانب نيكولا غيسكيير الذي عمل في الدار لنحو 14 عامًا قبل انتقاله إلى "لويس فويتون" وخلفه ديمنا فازاليا حيث ترجما روح المؤسس بلغة العصر من دون أن ننسى محاكاة الراحل أوسكار دي لارونتا لأسلوبه في الكثير من التصاميم.
وولد كريستوبال في عام 1895 في سان سيباستيان، وعندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية انتقل إلى باريس، وفي عاصمة النور والأناقة صنع اسمه كواحد من أهم مصممي القرن العشرين وقدم أول عرض له فيها في عام 1937، ونجح سريعًا في التميز عن غيره بهوسه ببناء كل قطعة كما لو كانت قطعة هندسية، كان انطوائيًا لا يحب الأضواء، بحيث لم يجر طوال حياته سوى مقابلة صحافية يتيمة في عام 1971 وكانت من نصيب جريدة "ذي تايمز"، ومع ذلك لا يزال يُلهب خيال المصممين الشباب تمامًا كما ألهب خيال من عاصروه أو تعاملوا معه، عندما تناهى خبر إغلاقه داره في عام 1968 إلى الكونتيسة بيسمارك من أهم زبوناته، يقال إنها لم تخرج من غرفة نومها لمدة ثلاثة أيام من الحزن، وعندما توفي في عام 1972 كتبت مجلة "ويمنز وير دايلي" بالبنط العريض على غلافها "مات الملك"، العنوان كان معبرًا وكافيًا لم تحتج فيه المجلة أن تذكر اسمه لأن كل أوساط الموضة كانت تعرف من هو المقصود باللقب، ما تذكره أيضًا السير الذاتية التي كُتبت عنه أن عروضه كانت بالنسبة لعاشقات الموضة تجربة لا تتكرر سوى مرة في العمر، كانت كما وصفها البعض تشبه لقاءً مع بابا الفاتيكان لرهبتها وقوة تأثيرها الذي تقشعر له الأبدان إعجابًا، "دايان فريلاند"، رئيسة تحرير مجلة "فوغ" الأميركية وصفت أحد هذه العروض قائلة: "كاد يُغمى على البعض وكان من الممكن أن تتوقف دقات قلب بعضهن الآخر، وأذكر أن النجمة أودري هيبورن التي كانت تجلس بجواري سألتني لماذا لم يكن فمي مفتوحا مثل غيري وأنا أتابع العرض، فأجبتها أني كنت أحاول أن أخفي مشاعري وتمالك أعصابي بكل ما أوتيت من قوة، فقد كان من الضروري أن ألعب دور إعلامية محترفة لا تتأثر أو تتحيز".
وتذكر أخريات أن عروض الأزياء كانت، ولا تزال، بمثابة مناسبة اجتماعية تتعالى فيها الأصوات والتعليقات والضحكات، لكن في عروض كريستوبال كانت هناك فقط همسات ممزوجة برهبة المناسبة والمكان، غالبًا صالون مشغله الواقع في 10 من شارع جورج 5 الباريسي الشهير، لم يكن يستجدي ودهن أو يتوسل رضاهن بل العكس تمامًا كان يبالي فقط بفنه ونظرته للموضة، كان يتعمد أيضًا الاستعانة بعارضات لا يتمتعن بالجمال الكلاسيكي6 التقليدي الذي كان متعارفًا عليه في الخمسينات، وكان في المقابل يختارهن عاديات وناضجات، أحيانًا في منتصف العمر مثل زبوناته، اللواتي كان يعرف أنهن لسن صبيات ولا يريدهن أن يتصابين، وكل هذا كان ينعكس على تشكيلاته التي كانت متنوعة تأخذ بعين الاعتبار أن زبونته لا تتمتع بمقاييس عارضات الأزياء وبالتالي لم يكن يستثني أي واحدة منهن، ولم يُخف أنه كان يحب أن تتمتع المرأة بـ "كرش" بارز بعض الشيء، ولأنه كان يعرف أن المجلات البراقة تميل إلى تصوير عارضات بمقاسات نحيفة، كان يشترط عليها أن تستعمل عارضاته عند تصوير أزيائه، كانت مصورات الموضة يقبلن شرطه على مضض، لكنهن كن يلتقطن صورهن إما من الخلف أو الجانب فقط حتى يموهن على عدم جمالهن.
وكان في موقف قوي يُخول له فرض شروطه، فالمرأة المقتدرة والمؤثرة على ساحة الموضة كانت تعشق تصاميمه ولا تتصور الموضة من دون قصاته الساحرة، كما أنه لم يكن يهتم بالربح المادي أو يجري وراءه، ومن هؤلاء الزبونات ستذكر كتب تاريخ الموضة الكونتسة فون بيسمارك التي اشترت في عام 1963 88 قطعة من موسم واحد ثم 140 قطعة أخرى في الموسمين التاليين. كما ستذكر كلوديا هيرد دي أوزبورن التي كانت تحجز جناحًا دائمًا في فندق الريتز خصصته بالكامل لفساتينها الراقية، وطلبت في وصيتها أن تُدفن بفستان من تصميمه، هذا إلى جانب لائحة طويلة من نجمات هوليوود، من أودري هيبورن إلى أفا غاردنر التي يُعرض لها فستان باللون الوردي في معرض لندن.