الرئيسية » عالم الاقتصاد والمال
نور الدين العوفي أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس

الرباط - المغرب اليوم

يقبل المغرب على اعتماد قانون إطار جديد للمنظومة الضريبية؛ لكن في الوقت نفسه لم تتضح بعد ملامح النموذج التنموي الجديد، الذي دعا الملك محمد السادس إلى وضعه سنة 2017. وإلى حد الآن، لم تقدم الحكومة تصورها، كما أنها لم تؤطر النقاش حول الموضوع.

ومن جانبه أكد نور الدين العوفي، أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس في الرباط، يؤكد فيه أن بناء نموذج تنموي ناجح في المغرب يجب أن يبدأ بالقطع مع المقاربة السائدة منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم فيما يخص نقل الإستراتيجيات والبرامج.

ويرى الأستاذ الجامعي، وهو عُضو مقيم بأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات ورئيس الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية، أن مقومات هذا النموذج الجديد ثلاث وهي: التصنيع، والاستثمار المنتج، ثم التوزيع العادل للثروة، معتقدًا أن تنظيم المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات بمثابة وضع العربة أمام الحصان؛ فهو يرى أن أنه من السابق لأوانه أن نُفصل في المنظومة الضريبية قبل تحديد خيارات وتوجهات النموذج التنموي الجديد.

اقرأ أيضا :

بنشعبون يؤكد أن التجار الصغار غير معنيين بالفوترة التي يفرضها قانون المالية الجديد

وأكد أن الحديث عن الأزمة، أزمة التنمية، أو أزمة النموذج التنموي في المغرب هو حديث قديم، نجده في كثير من الدراسات والأبحاث الجامعية وغير الجامعية منذ الثمانينيات من القرن الماضي؛ لكنه في الأدبيات الرسمية كلام جديد وغير مسبوق، إذ إن عُقْدة اللسان لم تنفك سوى عندما أعطى الملك الإشارة لإعادة النظر، رأساً على عقب، في "النموذج التنموي" الذي لم يعد يفي بالمطلوب (الخطاب الملكي أمام البرلمان، أكتوبر 2017)، قائلًا: "قبل هذا التاريخ، كانت المفردات المتواترة في الخطاب تشير إلى "بعض الاختلالات" التي تعرفها بعض السياسات العمومية، وإلى العجز الذي تشكو منه بعض القطاعات، وإلى القصور في إنجاز بعض المشاريع، إلى غير ذلك من "السلبيات المعزولة" و"الأعطاب الجانبية" التي لا تكفي لكي يرقى التشخيص إلى مستوى الأزمة. الخطاب الملكي ذهب إلى أصل الداء، وتحدث عن "النموذج الذي استنفد إمكانياته"، وعن الحاجة إلى بلورة نموذج جديد للتنمية أفصح عن بعض معالمه: "نموذج مندمج، قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، والحد من الفوارق بين الفئات، ومن التفاوتات المجالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية".

المثير في الأمر هو أن المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي)، التي كانت تُروِّج على نطاق واسع، وبكثير من الزعيق، لخطاب الاختلالات، لم تنتبه إلى ما يتضمنه الخطاب الملكي من نقد غير مباشر إلى البنية النظرية التي عنها يصْدُر النموذج الذي لم يُؤْت أُكْله بالرغم من مرور عقود على تطبيقه، والذي انتهت صلاحيته بقوة الواقع. النظرية الليبرالية في نُسْختها الجديدة، المختزلة والمبتذلة، التي تقوم على أن السوق هو الحل، وأن المقاولة هي الحل، وأن الاستثمارات الأجنبية المباشرة هي الحل، بغض النظر عن نجاعتها من حيث تقوية البنية الإنتاجية الوطنية، ومن حيث إسهامها في خلق فرص الشغل اللائق، وأن الدولة عبء ثقيل، ومن ثمة ينبغي التقليص من أدوارها، حتى السيادية منها، أقول هذه الميثولوجيات الاقتصادية النيوليبرالية هي التي تعرف اليوم، في المغرب كما في كثير من البلدان النامية، إفلاساً شاملاً، وانكساراً كاملاً على أرض الواقع.

بالنسبة إلى المقومات، فإنني أرى أنها تبدأ من الشرط المنهجي. الخطاب الملكي أمام البرلمان (12 أكتوبر 2018) حدَّدَ إجرائية البلورة في إحداث لجنة يتعين عليها إعداد مشروع النموذج التنموي الجديد، "مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله".

وأكمل قائلًا: "في نظري، آن الأوان للقَطْع مع المقاربة السائدة منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم، والتي تقوم، في الأغلب الأعم، على اقتناء، أقول اقتناء برامج قطاعية وإستراتيجيات وطنية جاهزة للنقل، وقابلة للتشغيل من أسواق الخبرة الأجنبية. هناك من الأمثلة ما يكفي لدحض هذه المقاربة، ومنها مخطط "المغرب الأخضر" الذي تبيَّن بالملموس أن "الدعامة الأولى" (الرأسمالية الفلاحية، والاستغلالات الكبرى، والزراعة التصديرية) هي المستفيد الأكبر على حساب "الدعامة الثانية" التي تهم الفلاحة المتوسطة والصغيرة. هذا فضلاً عن أن مخطط "المغرب الأخضر" يعتمد، بالأساس، على تصدير المنتجات الزراعية المُسْتنزِفة للمياه، على نُدْرتها. وقد طالب الملك بتقييم شامل للمخطط وإعداد مخطط آخر يأخذ بعين الاعتبار النهوض بالطبقة الوسطى في العالم القروي. أتمنى ألا تتكرَّر التجربة، ويُفوَّض نفس المكتب الأجنبي بمهمة التقييم، حيث سيكون هو "المُقيِّم" (بخفض الياء المشددة) و"المُقيَّم" (بنصب الياء المشددة)، أي هو الخصم والحكم في آن. لا يشك أحد في أهمية الخبرة في بناء التصورات والاختيارات على قاعدة معرفية، علمية وتقنية؛ لكن الخبرة المطلوبة ينبغي أن تكون وطنية، لأن أهل مكة أدرى بشعابها".

وأشار إلى أن هناك ثلاث مُقومات على الأقل في حالتنا، حالة المغرب. المُقوم الأول هو التصنيع الذي يشكل التصنيع مع البنيات والخدمات الأساسية من طرق، وطرق سيارة، ومطارات، وموانئ ولوجستيك، ومدارس ومستشفيات عمومية، القاعدة الارتكازية للإقلاع الحقيقي، الشامل أو الإدماجي. ويكتسي التصنيع، في حالة المغرب بالذات، أهمية خاصة لأسباب كثيرة ومُتشعِّبة. الأول يتعلق بمركزية البنية الصناعية في الإنتاج، إنتاج الثروة، لما للصناعة من آثار جذْب للقطاعات الأخرى وتحريك عجلة الإنتاج، ولما لها من علاقة تفاعلية مع منظومة الابتكار، والاختراع التكنولوجي، والبحث والتطوير. السبب الثاني يكمن في الآثار الاجتماعية الناجمة من التطور الصناعي. والتصنيع، فضلاً عن أنه يُولِّد فرصاً للشغل ليس لها نظير في الأنماط الإنتاجية الأخرى، فهو يؤسس للمجتمع الأَجْري (أي لمجتمع قائم على الأَجْر مقابل العمل) الذي يقوم عليه المجتمع الحداثي.

وأوضح أن المُقوِّم الثاني هو الاستثمار المُنتج، أي الاستثمار في البنيات التحتية، وفي التجهيزات، وفي البرامج المهيكلة، الصناعية والفلاحية، ذات المردودية المتزايدة، والقادرة أكثر من غيرها على توسيع القاعدة الإنتاجية، وعلى تكثيف عملية الاندماج الاقتصادي وخلق فرص الشغل. وبطبيعة الحال، فإن القطاع العمومي هو المؤهل للقيام بالدور الريادي في هذا المجال، وهو بذلك يُؤثِّث لبيئة تحْفيزية للقطاع الخاص للاستثمار في المجالات الأخرى وفي الأنشطة الخفيفة ذات المردودية السريعة. تجدُر الإشارة هنا إلى أن المغرب قد نحا هذا النحو مع بداية الاستقلال، وهو ما مكَّن بلادَنا من وضع البنيات الأولية، المادية وغير المادية، التي لا تزال فوائدها جارية إلى اليوم.

أما المُقوم الثالث هو التوزيع العادل للثروة. في كتاب صدر لي، مع الزميل سعيد حنشان، يحمل عنوان "الفوارق الفعلية بالمغرب" (2016، يمكن تحميله من الموقع www.ledmaroc.ma) وقفنا عند بعض المؤشرات المتعلقة بالعلاقة السلبية القائمة اليوم بين التنمية والفوارق الاجتماعية، سواء بقياس مُؤشِّرات الدخل والثروة، أو باعتماد المقاربة الحقيقية التي تشمل أشكال التفاوت في القدرات البشرية. من هنا، تأتى أهمية الدور الاقتصادي للاستثمار الاجتماعي الذي ينبغي ألا يظل محصوراً في "المتبقِّي" من توزيع الثروة؛ ذلك أن الإنفاق في المرافق والخدمات الاجتماعية ليس إنفاقاً غير مُنتج وعديم الجدوى، بل إن العائدات الاجتماعية للاستثمار أضحت من المؤشرات الدالة على بنية الثروة المستدامة، وعلى كَيْفيَّات توزيعها بين رأس المال والعمل، وبين الفئات الاجتماعية، والأجيال والجهات. إن "الثقة المُعمَّمة" لا تنمو، ولا تترعرع سوى في بيئة تسودها الكرامة والعدالة الاجتماعية.

ولفت إلى أن التنمية سيرورة طويلة، ذات أهداف إستراتيجية ممتدة في الزمن، وتحتاج إلى استثمارات ثقيلة، ضخمة، وتراكمية. أما الأَهداف الآنية فإن السياسة العمومية الظرفية هي التي من شأنها أن تستوعبها في انسجام مع الرؤية التنموية بعيدة المدى. ليس هناك "باب مسدود" عندما يكون النموذج مُنْصَبّاً على تلبية الحاجيات الضرورية للناس بصفة عامة، وللفئات الفقيرة والهشة بصفة خاصة، وأيضاً عندما يكون مُنْشَدّاً إلى أفق التنمية الشاملة، المتوازنة، الإدماجية، والمستدامة، التنمية التي تجعل من الإنسان الغاية، والفاعل الرئيسي في إنجاز أهدافها. في هذه الحالة، بالعكس سوف يكون الباب مفتوحاً على مصراعيه لكي يَتجدَّد النموذج باستمرار، ويتكَيَّف إيجابياً مع التحولات الدولية، الاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والمعرفية. على رأس التجارب التي تستدعي منا اليوم كامل الاهتمام تأتي التجربة الصينية التي تزخر بالدروس، وتحمل في طياتها بعض الأجوبة المفيدة عن أسئلتك وتشعباتها التي تصُبُّ في سؤال البديل.

وأوضح أنه من السابق لآوانه أن نُفصِّل في المنظومة الضريبية بينما "النموذج التنموي الجديد" لم ير النور بعد، ولم تتَّضِح ملامحه، ولم تتحدَّد خياراته وتوجهاته. إننا بهذا نكون كمن يضع العربة أمام الحصان. أما الملاحظة الثانية فتهُمُّ العلاقة الوطيدة بين طبيعة النظام الجبائي وشروط التنمية. من تحصيل الحاصل أن الفوارق الاجتماعية والمجالية باتت تُشكِّل أحد الأسباب الرئيسية لما يسميه البعض فشل النموذج التنمية ببلادنا. إذا كان هذا التشخيص صحيحاً، وهو في نظري صحيح إلى حد بعيد، فإنه من النافل القول إن أي إصلاح جبائي لا يتبنَّى الصيغة التصاعُدية لمعدلات الضريبة لن يزيد سوى في استفحال التفاوتات الاجتماعية، ومن ثمة في تعميق أسباب الأزمة التنموية في بلادنا.

وكشف  عن أنه سبق له بالتعاون مع بعض الزملاء الباحثين، إعداد تقريراً شاملاً ومفصلاً حول إصلاح نظام المقاصة. نُشر التقرير تحت عنوان "المغرب المتضامن" سنة 2011. قائلًا: "لسْتُ شخصياً مع الدعم المباشر بالصيغة التي يُوصي بها البنك العالمي لصعوبة تنفيذها التنفيذ الأمثل أولاً، ولضعف نجاعتها بسبب ما يسميه الاقتصاديون "الآثار الضارَّة" ثانياً، ولما يُشكِّله من وَصْمٍ للأسر الفقيرة والمعوزة. في التقرير/ الكتاب بعض المقترحات لتجاوز أزمة المقاصة من الفوق، أي باعتماد إصلاح شامل لمنظومة الحماية الاجتماعية من منظور التنمية المستقلة، الشاملة، والمستدامة. لا أريد أن أدخل في التفاصيل، وأحيل القراء الراغبين في ذلك على الكتاب الذي أشرتُ إليه، والذي بالإمكان تحميله من الموقع www.ledmaroc.ma".

قد يهمك أيضا :  

سليمان العمراني يؤكد أن الفساد يؤثر على تنافسية الاقتصاد الوطني

العثماني يؤكد سير المغرب في طريق الصحيح لتحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين

View on libyatoday.net

أخبار ذات صلة

الليرة التركية تتراجع إلى أدنى مستوى خلال شهرين بعد…
أسعار الغذاء العالمية ترتفع في حزيران للمرة الأولى في…
مؤسس "تيليغرام" يتعهّد بدفع أكثر من 1.2 مليار دولار…
فتح "شبه كلي" للاقتصاد في مصر و"صندوق النقد" يتجه…
حزمة دعم القطاع الخاص تقلّص تداعيات "كورونا" على الناتج…

اخر الاخبار

تسجيل 487 إصابة جديدة بفيروس كورونا المستجد في ليبيا
نقل محولين إلى محطتي الخضراء الجديدة والمصابحة في ترهونة
إطلاق خط بحري جديد بين الموانئ الإيطالية والليبية
مفوضية اللاجئين تتصدق بمواد غذائية على 2500 أسرة ليبية

فن وموسيقى

روجينا تكّشف أنها تحب تقديم شخصيات المرأة القوية فقط
رغدة تكشف كواليس مشاركتها في مسرحية "بودي جارد" مع…
ريهام عبد الغفور تكشف أنّ قِلة ظهورها في الدراما…
هيفاء وهبي تُعرب عن استيائها الشديد من الأحداث المؤسفة…

أخبار النجوم

نور تؤكّد أن "درب الهوى"سيكون تجربة درامية شديدة الاختلاف
أحمد جمال يعرب عن تفاؤله بالعام الجديد 2021
أروى جودة تؤكّد أن أصداء مشهد "ده هاني" في…
مايا نصري تكشف سبب ابتعادها عن الساحة الغنائية لعدة…

رياضة

قرعة الدوري الليبي تسفر عن قمة بين الأهلي بنغازي…
فريق الأخضر يضم إلى صفوفه االمدافع وجدي سعيد
قبل مواجهة الاتحاد الليبى كورونا تضرب بيراميدز
نادي المدينة يتعاقد مع "سالم عبلو " استعداد ًا…

صحة وتغذية

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها
طبيب يحذر من خطأ "كارثي" يبطل فعالية لقاحات كورونا
الولايات المتحدة الأميركية تستقطب ربع إصابات كورونا في العالم
10 حالات غريبة يكشف عنها الطب خلال 2020

الأخبار الأكثر قراءة